“الأغبياء فقط هم الذين يتوقعون ما سيحدث في الشرق الأوسط على المدى البعيد” مقولة مهمة اعتاد المحللون استخدامها دائمًا في بداية حديثهم عن أي قضية تخص المنطقة منذ نهايات القرن الماضي، وأثبتت صحتها حتى العشرية الجديدة من القرن الحالي، حينما خالفت ثورات الربيع العربي كل توقعاتهم التي كانت تقضي بأن “الديكتاتوريين يستمرون لمدى الحياة” في كناية عن أن الديكتاتوريين العرب لن يُثار عليهم أبدًا، قبل أن تبدأ عروشهم في الانهيار الواحد تلو الآخر، في تونس ومصر وليبيا واليمن ثم سوريا.
ومع بدايات العام 2014 زادت إمكانية إسقاط مقولة المحللين تلك، مع ظهور تنظيم داعش الإرهابي بالموصل في العراق، وازدياد توسُّعه بشكل سريع، في كل من سوريا والعراق ثم ليبيا.
وبينما بدأ الجميع يهيئ نفسه لسنوات طوال في أزمة داعش، خصوصًا في ظل التخاذل الدولي تجاه التنظيم، واعتقادهم بأن هجماته تنحصر في منطقة الشرق الأوسط، شكلت فاجعة بروكسل ومن قبلها باريس، دفعة قوية للدول الغربية لمحاربة التنظيم بالمنطقة، بعدما أدركت أنها ليست بمنأى عن خطورة التنظيمات الإرهابية، الأمر الذي دفعها لتكون أكثر إصرارًا على مواجهته، خصوصًا بعد دخول روسيا في المشهد، وتحريرها كثيرًا من الأراضي السورية من قبضته، ما جعل الولايات المتحدة تعيد حساباتها بمنطقة الشرق الأوسط؛ خوفًا من وطأة قدم جديدة لروسيا عدوها اللدود في صراع القوى الكبرى بالمنطقة.
نذر الانهيار أم مرحلة جديدة؟
شهد العام الحالي 2016، وتحديدًا في شهري مارس وأبريل الماضيين جدية دولية غير معهودة لدحر التنظيم الإرهابي، تسببت في خسارته العديد من الأماكن التي كان يسيطر عليها العامين الماضيين بسوريا والعراق، بعدما ظن الجميع أن القضاء على الإرهاب كليًا ليس بالإمكان، نتيجة عدم الإحساس بالحجم الحقيقي لهذا الخطر منذ بدايته، وإعلانه كيانه كدولة إرهابية في هذه المنطقة.
في المقابل رد التنظيم بتكثيف هجماته التي تستهدف إيقاع أكبر قدر من الخسائر البشرية، دون أن يكون لها مردود ميداني، حتى إنه زاد من هجماته خلال العام الحالي، خاصة في العراق وسوريا، ردًا على فقدانه السيطرة على مساحات كبيرة من الأراضي، قاربت في مجموعها 900 هجوم خلال الربع الأول من 2016 في العراق وسوريا، وهو عدد يزيد عما شهدته أي فترة مماثلة منذ منتصف 2014، أوقعت تلك الهجمات أكثر من ألفي شخص، بزيادة قدرها 44% عن الأشهر الثلاثة السابقة، وهو أعلى عدد من القتلى يسجل في ربع سنة منذ ما يقرب من عام، الأمر الذي يفسره العديد من المحللين بأن التنظيم يلجأ أكثر فأكثر للعنف الذي يوقع أعدادًا كبيرة من الضحايا مع تعرضه لضغط شديد من زوايا مختلفة.
فورة مارس وأبريل
بالعودة لشهري مارس وأبريل الماضيين الذين شكلا هبة غير مسبوقة ضد التنظيم نجد أن مارس بدأ بمناورة رعد الشمال في حفر الباطن، التي كانت تجمعًا عسكريًا لعشرات الآلاف من مختلف القطاعات العسكرية للدول المشاركة، التي وصلت وقتها إلى 40 دولة، ثم توالت خسائر التنظيم بتحرير مدينة تدمر الأثرية السورية من قبضته، والتي كانت بمثابة صفعة قوية في وجه التنظيم، بالإضافة للضربات العنيفة التي شنتها قوات التحالف داخل الموصل العراقية، وخلفت مقتل مسؤول تجنيد الانتحاريين محمد خلف الساطوري، وعدد من مرافقيه في الموصل نفسها، مع نجاح تحرير الرمادي، وقبل الرمادي مثلت خسارة سنجار، ومدينة تكريت ومصفاة بيجي العراقيتين أكبر خسائر للتنظيم، قبل أن ينهار في منطقة سد تشرين الاستراتيجي على نهر الفرات، الذي يزود أجزاءً واسعة من حلب بالطاقة الكهربائية، ثم الحسكة بالشمال الغربي لسورية، حتى إن قيادات التنظيم لجأت إلى نقل أفراد أسرها من محافظة الرقة بالشمال السوري إلى مدينة الموصل، بالتوازي مع خسارة التنظيم الإرهابي لطريق سريع بين مدينة الرقة السورية التي يعتبرها التنظيم عاصمته، ومدينة الموصل العراقية، صعبت عليه ربط خطوط إمداده بين أكبر معقلين له في سورية والعراق.
خسارة داعش لم تتوقف عند الأرض فقط، بل امتدت لفقدانها آلاف المقاتلين، و10 من أبرز قادة الخط الأول لها والبالغ عددهم 43 قائدًا، بالإضافة إلى أكثر من 40% من جهوزيتها القتالية من حيث المخازن والعتاد والبنى التحتية، والأهم من ذلك أنها فقدت نحو 80% من مواردها النفطية، حيث كانت تسيطر على نحو 200 بئر نفطية بين العراق وسوريا لم يبَق منها الآن سوى 15 بئرًا.
نكبة الوثائق
ثم جاءت النكبة غير العسكرية للتنظيم بتسريب أحد أعضائه آلاف الوثائق، التي تكشف معلومات شخصية عن 22 ألف مسلح من داعش، بالإضافة لأسماء الدول التي جاء منها المتطرفون، قبل أن تعلن الرباط تفكيك خلية إرهابية جديدة موالية للتنظيم في ليبيا، كانت تعتزم تنفيذ عملية إرهابية في المملكة المغربية، بعد يومين فقط من العملية الإجرامية في بروكسل.
أما في ليبيا والتي تُعد الأرض الجديدة لـ“داعش“، تبحث الدول الكبرى احتمالات التدخل العسكري لوقف تصاعد خطر التنظيم في سرت وصبراتة، بعد أن قصفت المقاتلات الأمريكية معسكرًا للتنظيم في مدينة صبراتة، أدى إلى مقتل 41 فردًا من مسلحيه، والقبض أيضًا على أمير التنظيم في ليبيا المدعو علي محمد التاجوري.
بقراءة سريعة فقط لشهري مارس وأبريل 2016، يبدو أن قبضة حديدية قد تم إطباقها على التنظيم في مواقع عدة بالمناطق التي يسيطر عليها، ما يؤذن باقتراب وشيك ينتهي فيه وجود هذا التنظيم الإرهابي، حيث خسر تنظيم داعش، خلال الشهور الـ 15 الماضية، نحو 22% من إجمالي الأراضي التي كان يسيطر عليها سابقًا.
ما يدعم هذا التوجه أن كافة قوانين العلوم السياسية تقضي بأن التنظيم – أي تنظيم – يمكنه على المدى الطويل أن يستمر كتنظيم، لكنه لا يستطيع الاستمرار كدولة ذات كيان لغياب الكوادر والمستلزمات الإدارية التي تدعم ذلك، وبالتالي فمن المحتمل أو ربما يكون من المؤكد أن تفقد داعش موقعها في العراق قريبًا، بتوافق أمريكي إيراني قائم على البراجماتية السياسية والتوجهات الطائفية بالعراق نفسها، لكن في المقابل قد يتوجه لسوريا أو الأردن وربما تركيا والسعودية تحت مسمى طائفي آخر على شاكلة حزب الله اللبناني الشيعي.
سيناريو كارثي
هذا السيناريو الكارثي يتوقع أن تزيد داعش خلال الأسابيع القليلة المقبلة من هجماتها الإرهابية ضد أهداف مدنية في منطقة الشرق الأوسط وخارجها، كعقاب للدول المشتركة في محاربتها، وهذا التصعيد سيرتبط دائمًا بأية تطورات تحدث على الساحة السورية، خصوصًا بعد المجازر الأخيرة بحلب وما جاورها.
وكلما بدا في الأفق احتمالات الوصول لحل سلمي للنزاع السوري، كلما ازدادت داعش عدوانًا، لتعظيم نصيبها من القوة، مقابل نظام الأسد وفصائل المعارضة والثوار الأخرى على حد السواء، لتضمن لها موطئ قدم مستقبلية بالمنطقة، بل وستزيد من عدوانها ضد لاعبين إقليميين فاعلين بالأزمة أبرزهم مصر وتركيا وإيران، وربما تنقل معركتها للداخل السعودي لإقحامها في حرب طائفية طويلة الأمد استنادًا للأزمة في اليمن، تجبرها على تطبيق النموذج العراقي في الدولة الشقيقة، ومع مرور الوقت ستجد السعودية نفسها محاصرة من الناحية العراقية والخطر الداهم من الناحية اليمنية، وتكون مجبرة على دفع مليارات الدولارات على أمل انتهاء الحرب، ما قد يكلفها ضريبة باهظة ترهق ميزانيتها المرهقة بالأصل، وتجبرها عن التخلي عن تمويل ودعم النظام المصري، الذي سيجد نفسه مجبرًا على التدخل بريًا بشرق ليبيا، لوقف تسرب عناصر التنظيم لإمارة سيوة الجدية بالصحراء الغربية لمصر، مع العمل على دفع نظام السيسي لاستفزاز سكان سيناء بشكل مستمر، عبر اختباء أفراد التنظيم بينهم، حتى يلجأوا إلى حمل السلاح ضد الجيش المصري.
المرحلة الأكثر خطورة
هنا فقط تبدأ مرحلة الانقسام بالمجتمع الدولي على النحو الموجود في النموذج العراقي، وستناصر روسيا دولة الحوثيين في الشمال اليمني، فيما ستتدخل أمريكا باللعبة لدعم المملكة، لتعود داعش لمواقعها بسوريا وليبيا وربما العراق مرة أخرى، بعد انصراف الجميع عنها لأزماتهم الداخلية، لتعود من جديد حقيقة مقولة المحللين بأن “الأغبياء فقط هم الذين يتوقعون ما سيحدث في الشرق الأوسط على المدى البعيد”.