عندما تفكر في الذكاء الاصطناعي، فإن الصورة الأولى التي من المرجح أن تتبادر إلى ذهنك هي صورة لروبوتات واعية تمشي وتتحدث وتظهر تعابير وجه ومشاعر مثل البشر، ولكن هناك نوع مختلف من أنظمة الذكاء الاصطناعي الذي بدأ بالانتشار في جميع مجالات العلوم تقريبًا، ويعرف باسم التعلم الآلي، ويدور حول تجنيد أجهزة الكمبيوتر لمهمة فرز كميات هائلة من البيانات التي سمحت لنا التكنولوجيا الحديثة بتوليدها (والتي تعرف أيضًا باسم “البيانات الكبيرة”).
أحد المجالات التي تبين أن التعلم الآلي يمكن أن يكون مفيدًا بها للغاية هي العلوم البيئية، التي ولّدت كميات هائلة من المعلومات من أنظمة مراقبة الأرض المختلفة – مثل المياه الجوفية، وارتفاع درجة حرارة المناخ، أو هجرة الحيوانات – وقد بدأ عدد كبير من المشاريع بالظهور في هذا المجال الجديد نسبيًا، ودعيت بالاستدامة الحسابية، التي تجمع بين البيانات التي تم جمعها حول البيئة مع قدرة الكمبيوتر لاكتشاف الاتجاهات والتوقعات حول مستقبل كوكبنا، وهذا يمكن أن يكون أمرًا مفيدًا سواء بالنسبة للعلماء أو لصنّاع السياسات، لأنه يمكن أن يساعدهم على وضع خطط للوصول إلى الكيفية التي يمكننا من خلالها العيش والبقاء على قيد الحياة في عالم متغير مثل عالمنا، وفيما يلي عدد قليل من تلك المشاريع.
المحافظة على أنواع الحيوانات
يبدو بأن جامعة كورنيل هي من يقود الطريق في هذا المجال الجديد، ومن المحتمل أن يكون ذلك لكونها تحتوي على معهد الاستدامة الحسابية وأيضًا لأن رئيسة هذا المعهد، كارلا ب. جوميز، تعتبر واحدة من رواد مجال الاستدامة الحسابية، حيث تشير جوميز بأن هذا المجال بدأ في حوالي عام 2008 تقريبًا عندما منحت المؤسسة الوطنية للعلوم منحة بقيمة 10 ملايين دولار لدفع علماء الحاسوب للقيام ببحوث لها منافع اجتماعية، ومنذ ذلك الحين قام فريقها – وجميع الفرق العلمية في جميع أنحاء العالم – بأخذ هذه الفكرة والعمل بها.
أحد أكبر المجالات التي يمكن فيها للتعلم الآلي أن يساعد البيئة هي من خلال المحافظة على الأنواع؛ حيث كان معهد كورنيل يعمل مع مختبر كورنيل لعلم الطيور للجمع بين حماس مراقبي الطيور الذي لا يصدق مع الملاحظات العلمية، حيث إنهم عملوا على تطوير تطبيق سمي “eBird“، يسمح للمواطنين العاديين بتقديم بيانات عن الطيور التي يرونها من حولهم، مثل عدد الأنواع المختلفة التي يمكن أن تكون موجودة في مكان معين، وحتى الآن، تشير جوميز، إلى أنه قد أصبح لديهم أكثر من 300.000 متطوع يقدمون أكثر من 300 مليون ملاحظة، تعادل أكثر من 22 مليون ساعة من العمل الميداني.
بجمع هذه البيانات التي تم جمعها من خلال تطبيق “eBird” مع بيانات الرصد الخاصة بالمختبر والمعلومات حول توزيع الأنواع التي تم جمعها من شبكات الاستشعار عن بعد، استخدم النموذج الذي وضعه المعهد التعلم الآلي للتنبؤ بالأماكن التي يمكن أن تشهد تغييرات في الموائل بالنسبة لبعض الأنواع، والمسارات التي ستتحرك الطيور عبرها خلال هجرتها.
بحسب جوميز، فإن هناك فجوات كبيرة في المناطق التي لا يمتلكون عنها ملاحظات كافية، ولكن إذا تم ربط أنماط الحدوث والغياب فيمكنهم معرفة الموائل التي تفضلها هذه الطيور وبعد ذلك يمكنهم تعميم استنتاجاتهم بشكل أوسع، وأضافت: “نحن بالفعل نستخدم نماذج متطورة – خوارزميات من تعلم الآلة – للتنبؤ بكيفية توزع الطيور”.
من خلال ذلك، يمكنهم تبادل توقعاتهم مع صانعي السياسات والحفاظ على البيئة، الأمر الذي يمكن أن يساهم في المساعدة على اتخاذ القرارات حول أفضل السبل لحماية موائل الطيور.
على سبيل المثال، تقول جوميز، إنه استنادًا إلى المعلومات التي تم جمعها من خلال “eBird” ومعالجتها بواسطة الشركة، قامت جمعية المحافظة على البيئة بإنشاء “مزادًا عكسيًا” في المناطق التي تعاني من الجفاف في ولاية كاليفورنيا، ودفعت لمزارعي الأرز المال للاحتفاظ بالماء في حقولهم في الموعد الذي تهاجر فيه الطيور وتكون بحاجة إلى موطن للتوقف، وهذا الأمر لم يكن ليكون ممكنًا لولا النماذج الحسابية المسبقة التي تعطينا معلومات عالية الدقة حول كيفية توزيع الطيور.
مناطق الطيور ليست المناطق الوحيدة التي يتم إجراء البحوث عليها، حيث يرتبط جزء كبير من عمل المعهد بالحفاظ على الحياة البرية، والاستماع إلى ساعات من التسجيلات التي يتم أخذها من الغابات لرسم خرائط موقع للأماكن التي تتواجد فيها الفيلة ويتم فيها سماع أصوات الطلقات النارية الصادرة عن الصيادين، أو تتبع الدببة الرمادية الضخمة لإنشاء ممرات يمكنها استخدامها للتنقل بأمان خلال البرية.
PACE
في مركز جودارد لرحلات الفضاء التابع لناسا، تعمل عالمة الأبحاث سيسيل روسو على استخدام التعلم الآلي للحصول على فهم أفضل لتوزيع العوالق النباتية أو ما يعرف أيضًا باسم الطحالب في المحيطات، حيث إن هذه النباتات المجهرية تطفو على سطح البحار وتنتج الكثير من الأوكسجين الذي نتنفسه، وهي تشكل أساس الشبكة الغذائية في المحيطات، كما أنها تستهلك ثاني أكسيد الكربون، وعندما تموت، تحمل الكربون معها لأنها تنزل إلى قاع المحيط.
بحسب روسو فإذا لم يكن هناك عوالق نباتية كنا سنرى زيادة كبيرة في مستويات ثاني أكسيد الكربون أكثر مما نشهده اليوم، ولهذا السبب، فإن وضعها العام يشكل أحد المعلومات الأساسية بالنسبة للباحثين في محاولتهم لفهم تأثير التغيرات في غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي على كوكبنا.
تستخدم روسو صور الأقمار الصناعية والنماذج الحاسوبية للتنبؤ بالظروف الحالية والمستقبلية للعوالق النباتية في المحيطات في العالم، وحاليًا، لا يمكن للنموذج سوى تقدير عدد الطحالب التي تعيش على الأرض، وكيف يتغير هذا المجموع مع مرور الوقت، ولكن القمر الصناعي الجديد الذي يسمى “PACE“، والذي سيتم إطلاقه في عام 2022، سوف يتيح المجال للحصول على مجموعة جديدة بالكامل من البيانات التي يمكن أن تعطي نظرة أكثر قربًا عن أعداد الطحالب، وتكون قادرة على تحديد الأنواع المختلفة منها بدلًا من مجرد النظر في العموم، وهذا سيغير كثيرًا من النموذج الحالي.
يستخدم هذا النموذج باراميترات قائمة على درجات الحرارة والضوء والمواد المغذية، ليخبر الباحثين عن مقدار نمو الطحالب في المنطقة، والشيء الوحيد الذي توفره هذه المحاكاة هو تحديد إجمالي العدد، ولكن هناك عدد كبير من الأنواع المختلفة من العوالق النباتية التي تتفاعل مع كل بيئة بطرق فريدة من نوعها، فالدياتومات، على سبيل المثال، هي من النوع الكبير الذي ينزلق إلى قاع المحيط بسرعة كبيرة ويحتاج إلى الكثير من المواد المغذية، ولكن “PACE” سيجعل من الممكن تحديد أنواع العوالق النباتية في الأجزاء المختلفة من المحيط، وبهذا سيوسع قدرة النموذج على مساعدة الباحثين في فهم كيفية تأثير الكائنات الحية الدقيقة على نسبة ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، وسوف يتيح لهم أيضًا إمكانية فعل أشياء أخرى مثل التنبؤ بوجود الطحالب الخطيرة وربما معرفة طرق للاستفادة من موهبة الأنواع التي تستهلك الكربون بكميات كبيرة لمكافحة تغير المناخ.
EarthCube
بالحديث عن الأرض بالمجمل، تقوم المؤسسة الوطنية للعلوم باستخدام التعلم الآلي بخلق نموذج حي ثلاثي الأبعاد (3-D) للكوكب بأسره، هذا النموذج الذي يدعى “EarthCube“، وهو تمثيل رقمي سيجمع بين مجموعات البيانات المقدمة من قِبل العلماء في مختلف التخصصات – قياسات الغلاف الجوي والغلاف المائي أو الكيمياء الجيولوجية للمحيطات، على سبيل المثال – لتقليد الظروف على سطح الأرض وفوقها وتحتها.
نظرًا للكميات الهائلة من البيانات التي سيشتمل عليها النموذج، سيكون قادرًا على إعطاء نماذج للظروف المختلفة والتنبؤ بالكيفية التي يمكن من خلالها لنظم الكوكب أن تستجيب، ومع تلك المعلومات، سيتمكن العلماء من اقتراح طرق لتجنب الأحداث الكارثية التي يمكن أن تحدث، أو ببساطة التخطيط لتلك التي لا يمكن تجنبها (مثل الفيضانات أو سوء الاحوال الجوية) قبل وقوعها.
كجزء من المشروع “EarthCube“، ساهمت هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية في مشروع إطار العمل الوطني للعلوم لإنتاج القشرة الرقمية، وهو الإطار الذي سيوفر فهمًا أكثر دقة وقوة عن العمليات التي تجري تحت سطح الأرض، مثل مدى توازن المياه الجوفية وصحة نظم المياه الجوفية، وتبعًا لسكاي بريستول، رئيس فرع التوصيف الجغرافي البيولوجي في هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية وهيئة المسح الجيولوجي، فإن هذا سيمكن الباحثين من إجراء حسابات علمية تبين مستوى المياه الجوفية مع مرور الوقت، وهذا سيوفر بدوره توقعات للسيناريوهات المستقبلية فيما يخص هذا المجال.
يمكن للتعلم الآلي أيضًا أن يكون مفيدًا عندما يكون هناك تأثير متبادل بين نموذجين مأخوذين من أجزاء مختلفة من المكعب (مثل القشرة الأرضية والغلاف الجوي)، حيث يقول بريستول، بأنه يمكن للعلماء على سبيل المثال، معرفة كيف يمكن للأمر أن يبدو عندما يكون هناك زيادة في استخراج المياه الجوفية وكذلك زيادة في ارتفاع درجة حرارة الجو في نفس الوقت.
من المقرر أن يتم الانتهاء من القشرة الرقمية هذا الصيف، وستكون هي وجميع بيانات وبرامج المشاريع التي ترتبط بالـ “EarthCube” مفتوحة المصدر، وهكذا، وفي غضون بضع سنوات، سيكون أي شخص قادرًا على استخدام التعلم الآلي لتوقع جميع الاحتمالات حول مستقبل الأرض، وهذا يعني بأن علماء الجيولوجيا، الذين يعملون على فهم مختلف النظم الأرضية وكيف يمكن للتغييرات في داخلها أن تؤثر على الإنسانية، سيحصلون على أداة جديدة تسمح لهم بتبادل البيانات مع بعضهم البعض من جميع أنحاء العالم، وإعطاء تأثير أقوى لتوقعاتهم والسماح لآخرين بالمساهمة من خلال فعل شيء، بدلًا من الاستجابة على فعل يقوم به عالمنا المتغير.
هذه الأمثلة ليست سوى جزء صغير من الصورة الكبيرة للكيفية التي يمكن من خلالها للاستدامة الحسابية أن تغير قدرتنا على جعل الحياة البشرية على الأرض أكثر استدامة، ففي جامعة كورنيل وحدها، هناك مشاريع أخرى تستخدم هذه التكنولوجيا، وهي تشمل رسم الخرائط للمناطق الفقيرة، وتوقع فعالية التخفيف من الفقر في الدول المتقدمة، وتحديد أثر سياسات الحصاد على مصايد الأسماك في المحيطات، واكتشاف المواد الجديدة التي يمكن استخدامها لالتقاط الطاقة الشمسية، وحتى تسليط الضوء على الكفاءة والآثار المترتبة على زيادة الضرائب المفروضة على البنزين في الولايات المتحدة، وإذا استمرت الاتجاهات الحالية على ما هي عليه، يمكننا توقع أن نسمع الكثير في السنوات القادمة حول مدى مساعدة الذكاء الاصطناعي في جعل عالمنا مكانًا أفضل للعيش فيه لفترة طويلة.