الإستقبال التاريخي الاسطوري للزعيم الصيني خلال زيارته لمصر الاشهر الماضية وما تلاه من حزمة مشروعات واتفاقيات تعاون في مختلف المجالات بين البلدين ، أعطى انطباعا لدى قطاع عريض من المحللين والخبراء فضلا عن الملايين من الشعب، أن مصر أخيرا وجدت ضالتها في حليف قادر على سد المكان الشاغر الذي تركته واشنطن جراء تدخلاتها المستمرة في الشأن الداخلي المصري، بعد خروج الدب الروسي من المعادلة مؤخرا.
الصين التي راهن البعض عليها كونها المنافس الامريكي الاول اقتصاديا، والقادرة على إخراج الاقتصاد المصري من غرفة الانعاش القابع بها منذ سنوات، هاهي اليوم تبحث لنفسها عن موقع قدم جديد في أفريقيا حتى وإن حملت هذه الخطوة تهديدا لمصر وأمنها المائي.
الدولة التي سمّاها الاعلام المصري بـ” الحليفة” تعلن عبر مواقعها الاخبارية عن مشاركتها في تمويل سد النهضة الاثيوبي، والاستعداد لتمويل عدد من المشروعات في الكونغو، منها بناء سد جديد على نهر النيل على غرار ” النهضة” في غفلة عن الخارجية المصرية واكتفاء نظام السيسي بأزماته الداخلية التي تتسع رقعتها يوما بعد يوم.
بعض المحللين تعامل مع هذه الانباء كونها ” خيانة ” و ” سوء تقدير ” من بكين لتحالفها مع مصر، متناسين أن البراجماتيكية الصينية لاتعترف بالمشاعر ولا العواطف..حين وجدت الصين فرصة جيدة في الاستثمار بالقارة الافريقية ومنافسة التواجد الامريكي هناك لم تتأخر، ولم تنتظر الإذن من مصر لإقتناص هذه الفرصة.
” نون بوست” في هذا الطرح تسعى لالقاء الضوء على التواجد الصيني في القارة السمراء لاسيما دول حوض النيل، وبواعث هذا التواجد، ومايمكن أن يحمله من مؤشرات سلبية على مستقبل مصر المائي، ليبقى السؤال : هل انضمت الصين إلى عنقود الحلفاء المنفرط الذي فقده نظام السيسي في الاونة الاخيرة؟ والسؤال الاخر: على من سيأتي الدور من الدول الاخرى ؟
التوغل الصيني في أفريقيا
مرت العلاقات الصينية الإفريقية بالعديد من المراحل التاريخية الهامة التي رسخّت خلالها بكين من تواجدها في القارة السمراء عبر بوابة الدعم والمساعدات الاقتصادية، وهو ما دفعها لإعادة النظر في إستراتيجيتها الخارجية الإفريقية بما يؤهلها لمزيد من التوغل، وهو ما أشارت إليه صحيفة ” ذا وورلد بوست” الأمريكية في تقرير لها مؤخرا، حيث أكدت على أن العلاقات بين الصين وإفريقيا في الفترة الأخيرة شهدت إعادة هيكلة، من خلال إنشاء ثلاثة بنوك سياسية، بما يعتبر اتجاهًا جديدًا للصين، التي اهتمت بالتنمية الاقتصادية في القارة من حيث الاستثمارات والتجارة والاستيراد والتصدير، كبنك الصين للتنمية الزراعية وغيره، وكانت جميعها مملوكة للحكومات الإفريقية؛ لتمكينهم من توفير التمويل المستهدف، وفتحت تلك السياسة الجديدة الباب لإستراتيجية اقتصادية وتجارية.
تعود العلاقات الصينية الإفريقية إلى عام 1976 حي كانت مصلحة الموارد الصينية واضحة في العديد من البلدان الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى، ومن الأمثلة على ذلك بناء السكك الحديدية في زامبيا كجزء لتسهيل وصول الصين إلى النحاس، وكان هناك أيضًا بناء الطرق في بلدان، مثل إثيوبيا؛ لمساعدة حركة صادرات القطن إلى الصين.
ومع بداية عام 2000 عززت الصين قدراتها كلاعب رئيسي في المساعدات المقدمة لإفريقيا، عبر إنشاء منتدى التعاون بين الصين وإفريقيا (فوكاك)، الذي ضم 44 دولة إفريقية، والذي تعهدت بكين من خلاله بتقديم تمويل لتخفيف عبء الديون، وبرامج التدريب والاستثمارات، إضافة إلى تأسيس مجلس الأعمال بين الصين وإفريقيا، والذي تفاوض على إلغاء 1.2 مليار دولار من الديون.
وبحلول 2006، اتجهت الصين لتنفيذ عدد من الخطوات التي من شأنها احتواء القارة الإفريقية اقتصاديًّا، كان أبرزها إنشاء صندوق بقيمة 5 مليار دولار كقروض ميسرة وتجارية، كما تعهدت بمضاعفة المساعدات وبناء 30 مستشفى وتدريب 15 ألف إفريقي في مجالات مختلفة.
وتبعا موقع «ساوز تشاينا مورنينج بوست» فإن معظم البصمات المتنامية في إفريقيا مصنوعة في الصين وآسيا، كما تكشف علاقة الصين ببعض الدول الإفريقية عن مدى التفاعل الكبير بين بكين والقارة العجوز، وهو ما تجسده العلاقة مع الكونغو وأثيوبيا بصورة خاصة.
الموقع الصيني أشار إلى أن حجم الاستثمارات الصينية في الكونغو وأثيوبيا خلال الأعوام الماضية فاق ما كان عليه في السابق بمراحل عدة، مؤكدا أن بكين لا تهدف من وراء هذا التواجد لأي مكاسب سياسية مقارنة بما عليه الولايات المتحدة الأمريكية، فوفقًا لدراسة أجراها مكتب المحاسبة الحكومي الأمريكي 2013، فإن أهداف أمريكا هي بناء الديمقراطية وتعزيز التنمية، ودعم التجارة وتعزيز الأمن، أما بكين فعلى النقيض من ذلك، حيث تؤكد رسالتها على إقامة علاقات أوثق مع الدول الإفريقية، وتشمل السعي إلى المنفعة المتبادلة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الإفريقية.
ومن الأمور المثيرة للاهتمام والتي تحمل في مضمونها مؤشرات ودلالات حول مستقبل التواجد الصيني في أفريقيا أن الشعب الكونغولي نفسه مثال لتفضيل الأفارقة بشكل عام للاستثمار الاقتصادي الصيني، كبديل عن المساعدات الإنسانية الأمريكية ودعوتها إلى تعزيز الديمقراطية، الذي تعتبره إفريقيا نوعًا من التدخل والسيطرة.
ومن الملاحظ أن الصين نجحت في فهم الخريطة المجتمعية والاقتصادية للدول الإفريقية ومن ثم استطاعت أن تعزف على أوتارها جيدا، حيث وصل نصيب الفرد الكونغولي من الدخل القومي 380 دولارًا في عام 2014، ومعدل الفقر وصل إلى 63% في عام 2012، وكانت الكونغو في المرتبة 176 من أصل 187 دولة في مؤشر التنمية البشرية العام الماضي، ومن ثم وجدت الصين ضالتها في أن تفرض سيطرتها على دول القارة مستغلة تردي وضعهم الاقتصادي دون الاعلان عن هذه النية كما فعلت امريكا وهذا مايبرر الترحيب الافريقي بالصين مقارنة بالولايات المتحدة.
الصين اتفقت مبدأيا على تقديم الدعم لكل من الكونغو وإثيوبيا بما يعادل 5 مليارات دولار سنويا، فضلا عن إقامة العشرات من المشروعات الحيوية بالتعاون مع بعض الجهات الأجنبية الأخرى وفي مقدمتها ايطاليا وإسرائيل.
كما أن حجم التجارة البينية بين الجانبين فقد تجاوز 300 مليار دولار أمريكي عام 2015، مقارنة بما كان عليه في عام 2000والذي لم يتجاوز حينها 10 مليارات دولار.
وفي سياق متصل، فلم تقتصر آليات التعاون الصيني الإفريقي على تقديم الدعم المالي فحسب، بل تجاوز ذلك إلى تبادل الزيارات رفيعة المستوى من الجانبين، وهو ما كشف عنه موقع “إيكسينهاينيت” الصيني، والذي أشار إلى إن الزيارات المتكررة من الجانب الصيني إلى البلدان الإفريقية والعكس، تأتي في إطار وعي وإدراك بكين لأهمية القارة الكبيرة وتصميمها على الوفاء بوعودها لتنفيذ نتائج قمة منتدى التعاون الصيني الإفريقي «فوكاك» الذي عقد في جوهانسبرج ديسمبر 2015.
وأضاف الموقع الصيني أن العلاقة مع القارة السمراء تختلف عن بقية علاقات الدول الاخرى، حيث أنها تجاوزت الوعود البراقة الفارغة التي تقدمها الكيانات الأخرى، وهو ما يجعلها مبنية على أساس من التعاون المتبادل والمنفعة، فمنذ 30 يناير وحتى 6 فبراير، أجرى وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، لدول ملاوي وموريشيوس وموزمبيق وناميبيا، ولمدة 26 عاما مضت كانت إفريقيا وجهة وزراء الخارجية الصينيين.
وتابع «إيكسينهاينيت»: أجرى رئيس أعلى هيئة تشريعية في الصين، تشانغ ده جيانغ، زيارة إلى دول زامبيا ورواندا وكينيا في مارس الماضي لمدة 10 أيام، وحاليا، وزار كبير المستشارين السياسيين الصينيين، يو تشنغ شنغ، الجابون وكوت ديفوار وغانا.
التحالف الصيني الاسرائيلي الافريقي
أعداء الامس أصدقاء اليوم، والسياسة لاتعرف عداء دائم او تحالف مستمر، المصالح هي من تحدد بوصلة التوجهات، فإسرائيل التي أقامت الدنيا ولم تقعدها منذ شهور بسيطة بسبب التواجد الصيني في جيبوتي هاهي اليوم ترحب بها شريكا قويا في تنفيذ بعض المخططات الصهيونية في دول حوض النيل، وفي مقدمتها تنفيذ سد النهضة الذي أوشك على الانتهاء.
العديد من المواقع الاسرائيلية والصينية تحدثت في تعاون مشترك بين تل ابيب وبكين في تمويل سد النهضة والاستفادة من المشروعات التي من المقرر الاقامة عليه وفي مقدمتها مشروعات توليد الكهرباء، وهو ما يمكن أن يساهم بشكل كبير في تعويض كلتا الدولتين مايقدمانه من دعم لبناء السد.
الصين التي كان الاعلام المصري يلقبها بالامس بـ” الحليف الاستراتيجي” هاهي اليوم تنضم إلى حلف ممولي سد النهضة ومايحمله من مخاطر تهدد أمن مصر المائي وتنذر بمستقبل غير مطمئن لملايين المصريين.
البراجماتيكية الصينية لاتعترف بالمشاعر ولا العواطف التي يبني عليها المصريون تحالفاتهم مع الاخر، فحين وجدت الصين الفرصة الافضل لها ولاستثماراتها في افريقيا لم تتوانى مطلقا في أن تغير بوصلتها نحو اثيوبيا ومن قبلها الكونغو حتى وإن تعارض ذلك مع مصالحها مع مصر طالما أن الاخيرة لا تملك من الامكانيات والفرص ماتعوض به بكين حال رفضها لمثل هذه العروض.
ولعل البعض يتذكر زيارة الرئيس الصيني لمصر ومن قبها زيارة السيسي لبكين وما أثير حينها بشأن مستقبل التعاون بين البلدين والتحالف القوي الذي رفع سقف الاحلام والامنيات لدى المصريين كما كان الحال مع روسيا وايطاليا قبل ذلك.
حجم المشروعات التي تم الاعلان عنها حينها فضلا عن الاستقبال التاريخي هنا وهناك، أوهم البعض أن بكين ستكون الحصن الحصين الذي يحمي القاهرة من أي تحالفات غربية او شرقية أخرى، إلى الحد الذي شبه البعض الصين حينها بأنها ” امريكا مصر الجديدة” والتي بها تستغنى مصر نهائيا عن أي دعم أمريكي، فضلا عمن أطلق على زيارة الرئيس الصيني لمصر وقتها بأنها ” صفعة” على وجه أوباما وأمريكا، وأن الحضارتين المصرية الفرعونية والصينية قادرتان على النهوض مجددا لفرض سيطرتهما على العالم أجمع.
وماهي إلا شهور بسيطة حتى تدير بكين ظهرها للقاهرة معلنة المساهمة في تمويل سد النهضة بالمشاركة مع اسرائيل وغيرها من الدول الاوروبية الاخرى.
الصين – ايطاليا – روسيا – مصر تفقد حلفائها
منذ الاطاحة بالرئيس محمد مرسي في 3يوليو2013م، ونظام السيسي يبحث عن حليف غربي يشرعن تواجده السياسي بعد حملة الادانة الدولية الواسعة التي تعرض لها بسبب ما أسماه المجتمع الدولي حينها بــ” الانقلاب العسكري” على أول رئيس مدني شرعي منتخب في تاريخ مصر.
طرق السيسي حينها أبواب كل الدول الاوروبية والاسيوية والامريكية، وبعد سلسلة من المحاولات وتقديم قرابين الطاعة احتضنته بعض الدول كان في مقدمتها الصين وروسيا وايطاليا وبريطانيا، ومن هنا بات لدى النظام الحالي يقينا أنه في مأمن في ظل هذا الدعم الدولي الذي يعوضه عن أي تخاذل هنا أو هناك.
وبالفعل جاءت زيارة بوتين للقاهرة ومن قبلها زيارة السيسي لموسكو، ثم الاتجاه نحو روما، ولندن، وواشنطن، وكان أخرها بكين لتقر بأن هناك تأييد دولي للنظام المصري لا يمكن أن يتخلى عنه مهما كان الثمن.
ثم جاءت حادثة اسقاط الطائرة الروسية في سيناء، ومن بعدها مقتل الشاب الايطالي ريجيني، فضلا عن الغباء السياسي لدى بعض أجهزة الاعلام والامن في توزيع الاتهامات على برلمانات بريطانيا وفرنسا والمانيا واتهامها بـ” الأخونة” لتفقد مصر حلفائها مرة وأحدة.
موسكو وروما تعلنان مقاطعة مصر سياحيا، مما يعد ضربة قاصمة لاكبر مورد اقتصادي مصري، ثم تأتي بكين لتنضم إلى التحالف الدولي الممول لسد النهضة والمكون من ( إسرائيل – إيران – روسيا – إيطاليا – الصين – كندا) لتطوق مصر من الجنوب وتهدد مستقبلها المائي.
بالرغم من الجهود الحثيثة التي تبذلها دولة السيسي في كسب التعاطف الدولي حيال قضاياها الداخلية والخارجية، إلا أن ماحدث مؤخرا من الدول التي كانت بالامس حليفة يعد ” هزيمة دبلوماسية ” قاسية، كفيلة أن تعيد هذا النظام إلى عشية 3يوليو 2013م مرة أخرى.
بالامس انضمت روسيا إلى منظومة الدول الداعمة لتمويل سد النهضة مع علمها الكامل بمخاطر هذا المشروع على مستقبل مصر وشعبها، وبعدها بأيام قليلة تشارك ايطاليا روسيا في دعمها لهذا السد، واليوم هاهي الصين تلحق بالركب..فهل يقوى النظام المصري على مواجهة هذا التعري الدولي مرة أخرى؟ ويبقى السؤال: أي من الدول الحليفة للسيسي ستدير ظهرها له خلال الفترة المقبلة وتنضم لهذا التحالف ؟ هذا ماستكشف عنه الايام القادمة.