كل خطوة أو حركة يتّخذها الكيان الصهيوني ضدّ العرب تمثّل استمرارا للحظة الأولى التي بدأ التخطيط فيها لهذا المشروع، أو على الأقل، تعكس استمرارا للحظة إعلان قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين المحتلة عام 1948.
لا يمكن فهم مسار السياسة الصهيونية إذا أغفلنا هذه اللحظات التاريخية التي يعود بعضها إلى أكثر من 70 عامًا، وإلا فنحن ننزع “إسرائيل” عن سياقها الطبيعي، ونبتعد – من ثمّ – في تحليلاتنا عن حقيقة ما يحدث الآن.
إنّ ما يحدث الآن إنما هو انعكاس للفشل الذي مُني به المشروع الصهيوني والمتمثّل بعدم تحقيق مراده في حرب 48 وما بعدها، وكانت جميع الخطوات اللاحقة محاولات يائسة لتدارك هذا الفشل.
هذا الفشل الذي تسمعه في ما يردّده الساسة الصهاينة اليوم بأنّهم “باقون هنا” وأنهم أصبحوا “حقيقة واقعة لا يمكن تجاهلها”، هذا التأكيد الذي يعكس خوفا عميقًا من “ألا يبقوا هنا” و”ألا يبقوا حقيقة واقعة”!
التوصيف الواقعي لكيان “إسرائيل”
إن التوصيف الواقعي والحقيقي لإسرائيل اليوم، إذا أردنا التحاكم إلى المعايير القانونية الدولية، أنّها دولة يحكمها “شعب” أو بكلمات أدق “خليط من الأعراق” يمثّلون أقل من 50% من تعداد السكان الإجمالي لأرض فلسطين التاريخية، بما في ذلك الضفة الغربية وقطاع غزة؛ إذ لا يجادل إلا منكر لحقائق الواقع في كونها تقع تحت الاحتلال الإسرائيلي.
ولو نظرنا في هؤلاء الذين لا يمثّلون سوى أقلّ من 50% من سكان البلاد، لوجدنا أن 68% منهم فقط ولدوا في البلاد في وقتنا الحاضر، والبقية ممن يعيشون الآن على أرض فلسطين (32%) مهاجرون من شعوب مختلفة تبدأ من روسيا وتنتهي بإثيوبيا، يتحدثون بلغات غريبة عن البلاد، ولديهم ثقافة مختلفة، فضلا عن كون الـ 68% الذين ولدوا هنا هم في الغالب أبناء لمهاجرين. وتحاول هذه الفئة التي لا تمثل سوى ثلث تعداد السكان الإجمالي صهر المهاجرين في المجتمع الذي ابتدعته، وتعمل بالقوة على جلب المزيد منهم من شتى بلدان العالم، كما يحدث الآن في فرنسا؛ حيث يصل نحو 10,000 يهودي فرنسي سنويا إلى أرض فلسطين في السنوات الأخيرة. وفي المقابل تمنع هذه الفئة، التي لا تمثّل إلا نحو 30% من تعداد السكان من وُلد في هذه البلاد وأبناءه وأحفاده – وجلّهم من العرب – من العودة إليها، ويقدّر تعدادهم بستّة ملايين عربي.
ومع كل هذا الواقع الغارق في الظلم إلى أبعد الحدود، بحسب معايير المجتمع الدولي الذي ينتمي المشروع الصهيوني إليه، تحاول هذه الأقلية التي تمثّل نحو 30% من تعداد السكان إقامة دولة “ديمقراطية”، حتى لو خلت سياستها من مضمون الديمقراطية كما يعرّفها مؤسسوها ومنظّروها.
خيار السيطرة على كامل الأراضي
لقد قام المشروع الصهيوني في البداية على سياسة استعمارية (احتلالية) تهدف إلى “التطهير والإحلال”؛ أي تطهير الأرض من سكّانها الأصليين، سواء بالقتل أو التهجير، وإحلال سكان جدد مكانهم يحملون المشروع ولو بالحدّ الأدنى ويكونون مخلصين في الدفاع عنه. وهي شبيهة بالسياسة التي مارسها الأوروبيون في أمريكا الشمالية والجنوبية، وحاولت فرنسا ممارستها في الجزائر ولم تفلح.
لكن المشروع الصهيوني مُني بفشل ذريع عندما أبقى نحو 10% من السكان الأصليين في الأراضي التي أعلن دولته عليها، إذ أصبح هؤلاء اليوم نحو مليوني إنسان لم يفقدوا بمعظمهم هويتهم ولم ينصهروا في بوتقة “المجتمع الإسرائيلي” الناشئ، على غرار “المجتمع الأمريكي” الذي صهر مختلف القوميات والأجناس. ومُني بفشل أكبر عندما قصرت إمكانياته الضئيلة آنذاك عن ممارسة التطهير العرقي وتوطين مهاجريه في الضفة وقطاع غزة، حيث يعيش هناك اليوم نحو 5 ملايين عربي.
لقد كان أمام المشروع الصهيوني لمواجهة هذا الفشل 3 خيارات أحلاها مرّ:
- خيار الدولة الواحدة
وهو الخيار الذي ينادي به اليوم بعض أطراف اليسار المكروهة جدا والمهمّشة في المجتمع الإسرائيلي، من أمثال إيلان بابيه. وهو خيار غير واقعي، ويعني حرفيّا انتهاء المشروع الصهيوني وأنه يحفر قبره بيديه!
- خيار الدولتين
وهو الخيار الذي ترعرعت فكرته مع صعود نجم فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية التي سعت حثيثا في أطر المجتمع الدولي من أجل تحقيقه (ولم تفلح حتى الآن)، وقبلت به إسرائيل “نظريا” وعلى المستوى “الإعلامي” فحسب، دون أن تنفّذ منه حرفًا واحدا. وفي المقابل، وضعت في سياقه شروطًا مجحفة تفرّغه من محتواه، أبرزها إبقاء نحو نصف أراضي تلك “الدولة الفلسطينية” تحت السيادة الإسرائيلية، ومنعها من وجود حدود حرّة مع جارتها الأردن، ومنعها من مختلف مقومات الحياة، مما يجعل مشروع “دولتين لشعبين” وفق النظرة الصهيونية مجرد شعار فارغ المحتوى، وهو أشبه بالخيار الثالث الذي يمضيه المشروع الصهيوني اليوم على كامل فلسطين.
- خيار التعليق وبقاء الوضع الراهن
وهو يعني أن يبقى الاحتلال الصهيوني ممثّلا بالوجود العسكري والاستيطان (نحو 400 ألف مستوطن) في الضفة الغربية، والحصار المميت لقطاع غزة. وهذا الحلّ يمنع 5 ملايين إنسان من ممارسة جميع حقوق المواطنة بما في ذلك الحقوق الديمقراطية التي ينصّ عليها القانون الدولي في البلاد التي يعيشون فيها، ويمنعهم من اختيار ممثليهم وتحديد سياسات الحكومة، رغم أنهم يمثّلون نحو 40% من إجمالي السكان، ويمنعهم أيضا من الاندماج مع أبناء شعبهم العرب الذين يعيشون في الأراضي المحتلة عام 48، واللذين يشكلون معًا أكثر من 50% من سكان البلاد، ولكنهم مع ذلك بدون أي فاعلية سياسية تليق بحجمهم، كما لو كانوا “مواطنين درجة ثانية” ليس لديهم من الحقوق ما لدى “المواطنين من الدرجة الأولى”. وبالإضافة إلى ذلك، فهو يجعل “إسرائيل” دولة غير طبيعية وغير مستقرّة، تشهد بذلك الأحداث التي تمرّ بها منذ عقود، والتأهّب الأمني والعسكري العالي والمستمرّ.
لا يمكن – موضوعيّا – أن يكون هناك خيار خارج عن هذه الخيارات الثلاثة، بحسب الأفق الحالي للوضع الراهن، والخيار الأول – كما ذكرنا – يعني انتهاء المشروع الصهيوني، والثاني – لو تم تنفيذه بحقيقته، أي بالمعنى الحقيقي لكلمة “دولة” – يعني الانتقاص من سيادة المشروع الصهيوني، والخوف من شبح “الاستقلال” الذي قد يجلب المجهول للمشروع الصهيوني ودولته صغيرة المساحة، والأهم من ذلك أنه يبقي الدولة الصهيونية دولة صغيرة لا يتجاوز عرضها في بعض المناطق سوى بضعة كيلومترات، بينما تزدحم بأكثر من 8 ملايين مواطن، ومن ثم كان الحفاظ على الضفة والاستيطان فيها وسلب خيراتها ركنا أساسيا في حياة المشروع الصهيوني، وكان الخيار الثالث – خيار التعليق وبقاء الوضع الراهن – هو الخيار المنطقي الأقلّ ضررا بالنسبة للساسة الصهاينة، ولكنه مع ذلك لا يخلو من أخطار ومضارّ وتلويح بالفشل.
مخاطر الخيار الثالث
لا تكمن مشكلة هذا الخيار في أنه قائم على خلاف ما تنصّ عليه الشرعية الدولية ومواثيق المجتمع الدولي، فلو كانت تلك المشكلة الوحيدة لوضع الساسة الصهاينة أرجلهم في ماء بارد وناموا هانئين. ولكن المشكلة تكمن في أنّ المشروع الصهيوني يمسك ضمن هذا الخيار نحو 7 ملايين عربي مناهض للمشروع الصهيوني دون أي فاعلية سياسية أو ممارسة لحقّهم في تقرير مصيرهم. وهم كتلة تمثّل أكثر من 50% من سكان البلاد، وشيئا فشيئا يتّضح أنّهم يزدادون التحامًا وتواصلا واتحادا في الأهداف مع بعضهم البعض، بخلاف ما كان المشروع الصهيوني يتوقع ويرجو.
لقد ساهم المشروع الصهيوني مساهمة جليلة في شيوع ثورة الاتصالات التي نعيشها في العالم اليوم، ونشر من خلالها قيمه التي ملأ بها عقول الشباب في جميع أنحاء العالم، سواء كانت قيما سياسية تتعلق بالرؤية الصهيونية للصراع العربي الإسرائيلي، أو كانت قيما اقتصادية واستهلاكية تروّج بضاعة أباطرة المال المنتمين له. ولكن هذه الثورة العارمة قد حملت معها بُعدًا جديدًا لم يكن مصمّموها والمساهمون فيها يحسبون حسابه، وهو إنشاء فضاء تواصل سهل يسمح بإعادة توحيد الرؤى والتصورات والهويات حول مختلف القضايا والأزمات، وما يهمنا هنا هو القضية الفلسطينية، وتلاحم العرب ذوي الأصول الفلسطينية حول هذه القضية بوجهة واحدة، سواء كانوا في الشتات أو في الداخل المحتل عام 48 أو في الضفة والقطاع.
ومع ذلك فلا يمكننا تفسير هذه الوحدة في القضية والهوية والنضال في إطار شيوع ثورة الاتصالات والإعلام الجديد ومواقع التواصل الاجتماعي فحسب؛ إذ كانت قضية “القدس” وفي قلبها “المسجد الأقصى” هي المحرّك الأقوى الذي ساهم في استغلال هذا الفضاء ومَلئه بما يوحّد الهوية والوجهة والنضال.
لقد ساهمت سيطرة التيارات اليمينية المتطرّفة على مفاصل الحكم في دولة الصهاينة مساهمة مهمّة في التركيز على القدس وعلى المسجد الأقصى، سعيًا وراء السيطرة عليه أو على أجزاء منه لتقام فيها الصلوات التلمودية، وأدى ذلك إلى الاستمرار في إيقاظ “الروح الواحدة” بين العرب في فلسطين، إذ مثّلت القدس والمسجد الأقصى قضية جامعة لهم، تزيد من صعوبة المحاولات الصهيونية نحو “تهدئة الأوضاع”، فقد بات المشروع الصهيوني بذراعين: ذراع صاعدة تُشعل، وأخرى ضعيفة تحاول الإطفاء.
حقائق الواقع هي الخوف الحقيقي
وهكذا، في الوقت الذي قام فيه المشروع الصهيوني عام 48 على نحو 80% من أرض فلسطين التي بقي فيها القليل من العرب المشتتين بدون قيادة سياسية ولا وعي شعبي أو سياسي أو نضالي، مع جلب عشرات الآلاف من اليهود كل عام لتوطينهم في تلك الأرض؛ يجد هذا المشروع نفسه عام 2015 يسيطر على 100% من أرض فلسطين، التي يقيم عليها نحو 7 ملايين عربي مقابل أكثر بقليل من 6 ملايين يهودي.
إننا نحرص على عرض هذه الحقائق الإحصائية التي لا يختلف عليها عاقل لكونها هي التي تحدّد المآل على المدى البعيد، بينما تبقى السياسات الوقتية الراهنة والتكتيكات مجرد إجراءات لحظية لا يمكنها الانفكاك عمّا تمليه هذه الحقائق، إلا لو تغيّرت أرقام هذه الحقائق في عصر لم يعد سهلا فيه ممارسة التطهير العرقي دون الوقوع في مأزق وجودي أكبر من المأزق الحالي، ولم يعد سهلا نزع الهويات وإخماد القضايا في ظل وجود شتى الأدوات التي تساعد في الحفاظ عليها حيّة وفعّالة وراهنة.
إنّ عرض هذه الحقائق لا يعني أن التغيير الاستراتيجي الكبير قريب، ولا أن المشروع الصهيوني لا يبذل قصارى جهده لتجنّب المخاطر، بل هو يعمل مثلا على الفصل بين “قطاع غزة” و”الضفة الغربية”، لأنّه يعلم تماما أنّ توحيد الهوية والنضال بينهما أكثر ضرّرا عليه، ويحاول إعلامه جعل الخلاف بين “فتح” و”حماس” خلافا بين “الضفة” و”القطاع”. ويعمل كذلك على دمج مليوني عربي يعيشون في أراضي 48 في أطره السياسية “الرسمية” والحفاظ على هامش من الممارسة السياسية لهم؛ كيّ يظلّوا منفصلين عن قضية الشعب الواحد مع إخوانهم في الضفة والقطاع والشتات.
لكن هذه وغيرها وسائل وقتية، تشبه – إن جاز التعبير – العلاج الذي يؤخر تفشّي المرض ولكنه لا يستطيع استئصاله بالكلية. وما دامت هذه الغالبية العربية تعيش وتتناسل في أرض فلسطين التاريخية، وما دامت هويتها ثابتة لم تنصهر، وقضيتها حيّة لم تمت؛ فإنّ هذه المعطيات هي التي سوف ترسم المآل الاستراتيجي لواقع فلسطين في المستقبل البعيد أو القريب (اقتران البعد والقرب واجب في ظلّ عدم وجود معيار متفق عليه للبعد والقرب).
ولذلك فإنّ أبعد شيء عن التصديق في هذه الأيام هو كلام بعض الكتّاب الصهاينة ووسائل الإعلام الصهيونية عن كون إسرائيل “حقيقة راسخة لا تتغيّر”، وبأنّ مستقبلا لا توجد فيه إسرائيل هو “وهم عربي”. هذا التأكيد المتكرر على هذه المقولات – المخالفة لطبيعة التاريخ بمالناسبة – يؤكّد وجود القلق والخوف العميقين في قلب من يردّدها؛ إذ ما الذي يجعل المرء يعيد التأكيد على أمر يقول إنّه “حقائق” وإنّ خلافه “وهم” سوى قلقه العميق وشعوره – من ثمّ – بالحاجة إلى الطمأنة ولو كانت ذاتية؟!