أحمد داود أوغلو سياسي تركي، خبير في علاقات الدولية، أكاديمي ووزير، ولد داود أوغلو في مدينة طشقند التابعة لولاية قونيا بتاريخ 26 فيفري 1959، يتحدث الرجل أربع لغات: الانكليزية والألمانية والعربية والمالاي. حصل داود أوغلو على درجة الماجستير والدكتورة في العلوم السياسية والعلاقات الدولية من جامعة البوسفور ليبدأ عمله كمدرس بالجامعة الاسلامية في ماليزيا عام 1990، ثمّ أسس كلية العلوم السياسية في نفس الجامعة ليترأسها حتّى عام 1993. انتقل بعدها للعمل بجامعة مرمرة – قسم العلاقات الدولية بين أعوام 1995 – 1999. وخلال تلك الفترة كتب داود أوغلو أكثر من 200 مقالة في صحيفة يني شفق التركية.
وفي أعوام 1998 – 2002 درّس داود أوغلو في أكاديمية القوات المسلحة وكلية الحرب التابعتين لهيئة الأركان التركية، وفي أعوام 1999- 2004 اختير داود أوغلو لعضوية الادارة في جامعة “بيل كنت” وانتخب عضوا في مجلس سيناتور الجامعة ورئيسا لقسم العلاقات الدولية فيها, ودرّس في الفترة ذاتها بجامعة مرمرة.
بتاريخ 15 جانفي 2003 عين داود أوغلو وزيرا للدولة بموافقة رئيس الجمهورية آنذاك أحمد نجدت سيزر ورئيس الوزراء عبدالله غل، وفي 1 ماي عام 2009 عيّن وزيرا للخارجية من قبل رجب طيب أردوغان، وكان قبل ذلك المستشار الأول لرئيس الوزراء الأسبق رجب طيب أردوغان وسلفه عبدالله غل، ثمّ انتخب نائبا بالبرلمان التركي في دورته الـ 24 ، ترأس بعدها حزب العدالة والتنمية بعد السيد رجب طيب أردوغان ليصير أخيرا رئيسا لوزراء تركيا سنة 2014.
أشهر مؤلفته
- العمق الاستراتيجي.
- الأزمة العالمية.
- العالم الإسلامي والتحولات الحضارية.
- السياسة الخارجية التركية بين النظرية والتطبيق.
لم تكن إستقالة السيد داوود أغلو من منصبه اليوم كرئيسا للوزراء أمرا مفاجئا لكثير من المراقبين، خاصة بعد أنباء ممتالية عن انقسام الرؤى داخل حزب العدالة والتنمية بين موالين للرئيس أردوغان وميولاته نحو تغيير نمط النظام السياسي التركي من برلماني إلى رئاسي توحيدا لرأس السلطة والقرار كما يدعي، وبين معارضين لتركز السلطات في يدّ زعيم واحد الأمر الذّي من شأنه أن يغيّب الأصوات الأخرى المختلفة ويشخص السلطة في رجل واحد بدلا من أن تكون “شورى” في لجنة الحزب المركزية، من دون أن ننسى الكتلة التّي تدور حول شخص السيد عبد الله غل أحد أقوى رجال الحزب، على أن لا يكون موضوع نمط النظام السياسي التركي الجديد هو موضوع الخلاف الوحيد المؤدي إلى قرار الإستقالة.
“حاولت تطبيق مقولة الرئيس أردوغان “رئيس قوي ورئيس وزراء قوي” وقطعت شوطا كبيرا في ذلك…” كانت هذه إحدى تصريحات السيد داوود أغلو السابقة فقد تعامل الرجل خلال فترة توليه لمنصب رئاسة الوزراء مع ملفات الحكومة باعتباره رئيسا لها لا مجرد مدير لبرامج رئيس دولة كان من المفترض أن يقف على مسافة واحدة من الجميع، وهذا هو الخطأ الذّي ارتكبه داوود أغلو، صحيح أنّ السيد أردوغان بعد توليه لمنصب رئاسة الجمهورية التركية لم يبق زعيما للعدالة والتنمية وفقا للشرائع والقوانين لكن نفوذه داخل الحزب لا يزال في تصاعد لاسيما مع وجود نخب سياسية واقتصادية وفكرية داخله تؤمن بما يؤمن به وتسعى لما يسعى إليه من إحداث تغييرات جذرية في تركيا الحديثة بعد توحيد رأس السلطة والنفوذ والقرار في يد واحدة منعا لأي صوت عائق لمشروعه الكبير، لذا فقد جاءت هذه الإستقالة لتعبّر عن الشخصية الحرّة لهذا الرجل وإيمانه العميق بما يحمله من رؤى سياسية داخلية واستراتيجية خارجية لتركيا المستقبل، ولا نستبعد أن يكون تكوينه الأكاديمي وراء تشكل هذه الشخصية الحرّة غير المنساقة دون قناعة وراء طموحات الآخرين ولو كان أحدهم رفيق دربه السيد رجب طيب أردوغان، فلطالما آمن الرجل بأنّ مستقبل تركيا لا يرتبط برؤى أحادية الجانب لزعيم أو حزب.
إستقالة السيد داوود أغلو بهذه الطريقة السلسة والنبيلة تُعّد في رأينا ضربة كبيرة لشخص الرئيس أردوغان على المدى البعيد، ستُعزز هذه الإستقالة إدعات خصوم العدالة والتنمية وخصوم اردوغان بالضبط بإتجاه الرجل نحو الإستفراد بالسلطة وتحجيم مؤسسات الدولة بدلا من أن تُساهم في توحيد صفوف الحزب كما أراد داوود أوغلو من خلال مبادرته طيبة النية هذه.. إذن لا صوت يعلو فوق صوت الزعيم.. تركيا تتجه نحو ملامح الديكتاتورية كلما تمّ الضغط نحو تحييد الرؤى المختلفة عن رؤية الزعيم، لم يكن هذا “الإستبعاد الحميد” أول حدث يعرفه الحزب فقد حدث شيء مشابه مرات عديدة كان أبرزها غياب شخصية عبد الله غل عن المشهد السياسي التركي لسنوات.
في الجهة المقابلة يُمكن أن نقرأ هذه الإستقالة باعتبارها رسالة قوية من حزب العدالة والتنمية لكل خصومه المشككين في قدرته على مواصلة مسيرة النجاح أنّ هناك تقليد عريق يتسأسس داخل الحزب يوما بعد يوم، تقليد يعكس المرونة العالية داخله في تبادل الأدوار في الوقت المناسب بين قياداته دون تعريض الحزب للانشطار وظهور أقطاب انفصالية تُفشل قدرته على الاستمرار، مثلما يحدث في كثير من أحزابنا العربية لاسيما الإسلامية منها تحت دوافع الرغبة في الزعامة وحب التملك، وهي إحدى الميزات التّي أشار إليها الباحث الأمريكي الشهير صامويل هنثنغتون في كتابه “النظام السياسي لمجتمعات متغيرة” سنة 1968، حينما وضع مجموعة من المعايير تساهم بتوفرها في استمرار النظام السياسي وبقاءه رغم تعرضه للصدمات المتتالية من بيئتيه الداخلية والخارجية، وهي ميزتي القدرة على التكيف والمرونة القيادية في التعامل مع الأزمات.
يكفي هنا الرجوع إلى بعض ما جاء في خطاب الإستقالة حينما أراد داوود أغلو سدّ أي منفذ للفتنة أمام الخصوم لزرع الفرقة بينه وبين رفيق دربه كما قال لتتضح الفكرة التّي بلورها هنثنغتون. قد نؤيد عدم قبول السيد داوود أوغلو لممارسة مهمة منقوصة الصلاحيات في الحكومة من ناحية المبدأ ولكن في المقابل علينا أن نتفهم رؤية الجهة الأخرى الساعية لبناء نظام سياسي رئاسي قوي يحول دون إفشال تجربة حزب العدالة والتنمية في الحكم خاصة في ظل الظروف الإقليمية الصعبة التّي تمّر بها تركيا، لاشك وأن هذه الرغبة ناتجة عن مخاوف السيد أردوغان وحلفاءه ممّا اصطلح على تسميته في تركيا بالدولة العميقة أو الكيان الموازي التّي تمثله جماعة فتح الله غولن والتّي يتّهمها الحزب الحاكم بمحاولات مستمرة لإحداث انقلاب سياسي ضدّه بالتواطئ مع جهات خارجية معلومة، الأمر الذّي جعل الرئيس أردوغان يدخل ساحة حرب سياسية داخلية بُغية تصفية أتباع هذه الجماعة المتغلغلة في معظم قطاعات الدولة لاسيما أسلاك العدل والشرطة والاستخبارات.
لم يتهاون السيد داوود أغلو في أداء مهامه الحكومية جميعا ابتداءً من مواصلة مسيرة البناء الإقتصادي، إلى مواصلة جهود الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي، إلى وضع تركيا موضع المكانة الإقليمية والدولية التّي تستحق وصولا إلى محاربة فلول حزب العمال الكردستاني وغيره من المنظمات التّي تضعها تركيا على رأس قائمة الإرهاب ولكنّه تهاون في محاربته لهذا الكيان الموازي حينما لم يساير رغبة رئيس الدولة في تقوية النظام السياسي التركي منعا لأيّة تدخلات أجنبية في شؤون تركيا الداخلية مثلما طمح إلى ذلك من قبل المرحوم تورغوت أوزيل رئيس الوزراء الأسبق ثم رئيس الجمهورية التركية الثامن بين سنتي 1989-1993 الذّي يشتبه بالمناسبة بعض الأتراك في حيثيات وفاته إلى الآن، لقد صار هذا الأمر خطا أحمرا لا يُسمح بالإقتراب منه بالنسبة للرئيس أردوغان الذّي عزم على عدم تكرار أخطاء أسلافه.
إذن، إذا كنّا نرى تحوّل تركيا فعليا إلى نمط النظام الرئاسي بهذه الطريقة ومثيلاتها فعلى رئيس الدولة ومن يشاطره هذا الطموح من قيادات الحزب الحاكم أن تعمل في نفس اللحظة على تقوية مؤسسات الدولة والحيلولة دون تركز “صناعة القرار” في يدّ الشخص أو الرؤية الواحدة فهي مَهلكةُ الدول والأمم، فليس من اللائق أن يُعبد الصنم في هذه البلاد لتضمر الفكرة بعد عقود من النضال الديمقراطي لأجل اللحظة التّي حلم بها كل من السيد أردوغان وداوود أغلو على حد سواء، لن يُفشل هذا الأمر تجربة حزب العدالة والتنمية ذي الخلفيات الإسلامية في داخل تركيا وحسب وإنّما سيُفقده قوته الناعمة في كل الإقليم بعدما ألهم لسنوات عديدة أحزابا وحركات إسلامية في كل العالم الإسلامي من طنجة إلى جاكارتا بل سيثير مجدّدا حولها أسئلة محرجة هي في غنى عنها اليوم في سعيها للوصول إلى السلطة هل ستمارس نفس “السلوك الأردوغاني” بعدما تصل إلى السلطة ولو بقوة القانون فتُقصي أنصارها من المشاركة في السلطة قبل خصومها الآخرين؟
لقد علّمنا تاريخ الفكر السياسي والعلاقات الدولية أنّ ثمن الإندفاع نحو تحصيل القوة -بغض النظر عن مبرارات ذلك- من شأنه أن يدعس الجميع دون رحمة ولو كان ضمن هؤلاء الجميع شخصية أكاديمية مرموقة على غرار السيد أحمد داوود أوغلو ذي الرؤى الإستراتيجية الفذّة الذّي نظّر لأجل قوة تركيا المستقبلية فكان أحد ضحايا السعي نحو هذه القوة، رغم ذلك لا نزال نزعم أنّ تاريخ العلاقات الدولية سيحتفظ باسمه مخلدا كما إحتفظ بأسماء ثقيلة في التاريخ على غرار المفكرين الإستراتيجيين الأشهر: سان تزو، ميكيافللي، بريجانسكي وكيسنجر وكلّهم منظرون شكلت أفكارهم خريطة طريق للحاكم في سعيه نحو المجد.. في النهاية نتمنى ألاّ تخسر تركيا الجديدة أمثال السيد أحمد داوود أوغلو في المستقبل في سعيها نحو القوة والمكانة اللائقة بين الأمم لأنّهم ببساطة مصدر هذه القوة قبل الجميع.