ترجمة وتحرير نون بوست
يعكس الاعتزال المفاجئ لرئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو يوم الخميس مخاطر تقويض العلاقة المشحونة، ولكن الفاعلة، ما بين واشنطن وأنقرة، اللتان تتحالفان بحذر خاصة في ظل حاجتهما لبعضهما البعض في معركتهما المشتركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
يعتبر داود أوغلو حليفًا موثوقًا للولايات المتحدة كونه يمثّل صوت الاعتدال داخل الحكومة التي تتحول ببطء إلى الاستبداد تحت حكم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حيث يُنظر إلى داود أوغلو ضمن السلك الدبلوماسي الأمريكي باعتباره رجلًا ماهرًا، وأكثر تسامحًا تجاه الأكراد، القوات التي تعمل على الأرض بالوكالة عن أمريكا ضد داعش، من رئيسه أردوغان.
“كنا نعمل بشكل جيد مع رئيس الوزراء” قال الجنرال جون آلن، الرجل المحوري السابق ضمن جهود إدارة أوباما في الحرب ضد داعش، وتابع قائلًا: “قد تختلف الأمور بشكل جذري بالنسبة لخليفته”.
كما أشار مسؤولون سابقون وحاليون في وزارة الخارجية الأمريكية بأنه يستم افتقاد علاقة عمل داود أوغلو الوثيقة مع دبلوماسيين في الولايات المتحدة، ولكن من جهته، وصف نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية، مارك تونر، الرحيل المفاجئ لداود أوغلو باعتباه “مسألة سياسية داخلية لتركيا” رافضًا الادلاء بمزيد من التفاصيل.
منذ حوالي العامين، سعت الولايات المتحدة لتركيز الاهتمام التركي على محاربة داعش وذلك في خضم توسع متطرفي التنظيم السنّة في سوريا والعراق، ولكن بدلًا من ذلك، وفي عهد أردوغان، ظلت أنقرة أكثر قلقًا للغاية من المعركة المستمرة منذ أجيال مع حزب العمال الكردستاني، الجماعة الانفصالية الكردية التي تصنفها كلًا من تركيا والولايات المتحدة كمنظمة إرهابية.
تعتمد الولايات المتحدة على تركيا لوقف تدفق مقاتلي داعش عبر حدودها مع سوريا، ولاستمرار السماح بوصول طائراتها العسكرية لقاعدة إنجرليك الجوية في أضنا، وهي الخطوة التي لم تُقرّها أنقرة إلا قبل أقل من عام واحد من اليوم، وفي الوقت عينه، تعتمد تركيا على الضربات الجوية الأمريكية لاستهداف متمردي داعش وإبعادهم عن حدودها من الجانب السوري.
ولكن مع ذلك، تختلف العاصمتان بمرارة حول دعم أميركا للمقاتلين الأكراد في سوريا؛ فبعد معركة وحشية ودموية استمرت لأربعة أشهر، انتزعت وحدات حماية الشعب الكردية (YPG) السيطرة على بلدة كوباني على الحدود السورية التركية في أوائل عام 2015 من أيدي تنظيم داعش، ومن خلال قيامها بذلك، اكتسبت احترامًا حديثًا منقطع النظير من الغرب، وتم اعتبارها حينئذ في أعين واشنطن كأكثر قوة تتمتع بفاعلية على الأرض في المعركة ضد الجماعة المتشددة.
ولكن وحدات الحماية الكردية مرتبطة بحزب العمال الكردستاني، ولهذا تعتبر تركيا المقاتلين الأكراد السوريين تهديدًا على أمنها القومي؛ حيث تنامت عدم ثقة أردوغان بالمسلحين الأكراد بعد تفجير مارس في أنقرة والذي أسفر عن مقتل 37 شخصًا، والذي اُتهم به حزب العمال الكردستاني في البداية، ولكن بعد ذلك، أقرّ فصيل صقور حرية كردستان، وهو فصيل منشق عن المنظمة الكردية المحظورة، بمسؤوليته عن الهجوم في نهاية المطاف.
بلغ الانفصام التركي – الأميركي أشده في منطقة منبج بريف حلب، وهي نقطة عبور رئيسية استخدمها المقاتلون الأجانب للوصول إلى سوريا عبر تركيا، حيث يشير باراك بارفي، وهو خبير في المسألة الكردية في مؤسسة نيو أمريكا، بأن تركيا ترغب بمنع المقاتلين الأكراد من السيطرة على منبج، “ترغب أنقرة بجعل منبج منطقة آمنة، خالية من السيطرة الكردية، ونقطة انطلاق للإطاحة بالنظام السوري” قال بارفي، وتابع: “لكن الولايات المتحدة ترى منبج بأنها نقطة انطلاق لاستعادة الرقة”، عاصمة داعش في سوريا.
تحوّل الخلاف ما بين أمريكا وتركيا حول المقاتلين الأكراد إلى شكل علني جارح في وقت سابق من هذا العام عندما التقى بريت ماكجورك، الذي يرأس اليوم حملة وزارة الخارجية الأمريكية ضد داعش، مع أعضاء وحدات الحماية الكردية في كوباني؛ فبمجرد ظهور صور اللقاء إلى العلن، انتقد أردوغان سياسة الولايات المتحدة بالوقوف في صف أعداء تركيا، حيث صرّح قائلًا: “كيف يمكننا أن نثق بكم؟ هل أنا شريككم؟ أم إنهم الإرهابيون في كوباني؟”.
على مدى الفترة الماضية، وجدت الولايات المتحدة في داود أوغلو محاورًا يعتنق نهجًا أكثر اعتدالًا للغاية تجاه الأكراد؛ فعلى الرغم من كونه رئيس وزراء ضعيف ويتمتع بقدر قليل من السلطة أو الحكم الذاتي، إلا أنه كان قناة مهمة لينقل الكثير من المسؤولين الأمريكيين أفكارهم واهتماماتهم إلى مركز صناعة القرار في تركيا، “خروج داود داود أوغلو من السلطة يعني وصول عدد أقل من الأصوات التي تقدم وجهات نظر أكثر واقعية عن الأكراد من داخل الحكومة التركية إلى أردوغان” قال أندرو بوين، الخبير في الشأن التركي والسوري والذي يعمل من واشنطن، وتابع: “ولكن تبقى مسألة إصغاء أردوغان لهذه الأصوات من عدمها، مسألة مختلفة”.
في هذا السياق، يشير مسؤول أمريكي، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته، إلى أن خروج رئيس الوزراء من الصورة، قد يعمل على إظهار أنقرة المزيد من التعنت والمقاومة لتعاون الولايات المتحدة مع المقاتلين الأكراد في سوريا، فضلًا عن إمكانية تراجع تركيا أيضًا عن التقدم الذي أحرزته على صعيد إغلاق حدودها مع سوريا.
يُعزى رحيل داود أوغلو إلى حد كبير إلى خلافاته مع أردوغان بشأن مسائل السياسة الاقتصادية، توسيع الصلاحيات الرئاسية، واعتقال المعارضين بدون محاكمة، حيث أعلن داود أوغلو يوم الخميس اعتزاله من منصبه في قيادة حزب العدالة والتنمية والحكومة التركية في 22 مايو سعيًا لقص دابر الخلافات.
“لا أشعر باللوم أو بالغضب أو بالاستياء من أي شخص،” قال داود أوغلو للصحفيين البارحة الخميس، وتابع: “لم يسمعني أحد وأنا أنتقد رئيسنا، ولن يحصل ذلك مطلقًا”.
ولكن السياسيين تصارعا حول العديد من القضايا، بما في ذلك مسألة حل النزاع طويل الأمد مع أقلية البلاد الكردية، وهي القضية التي اتبع فيها داود أوغلو نهجًا أكثر حمائمية؛ ففي الشهر الماضي، أعلن الأخير أمام الصحف التركية بأن الحكومة تدرس استئناف المفاوضات مع حزب العمال الكردستاني إذا نزع الأخير سلاح مقاتليه، وبعد فترة وجيزة من ذلك خرج أردوغان منتقدًا تلك الفكرة علنًا، وموضحًا بأن الهزيمة الكاملة لحزب العمال الكردستاني هي الخيار الوحيد أمام تركيا، كما جاء في صحيفة حريت التركية؛ مما أسفر بالمحصلة عن تراجع داود أوغلو على عقبيه في 5 نيسان ليكرر موقف أردوغان بأن محادثات السلام ليست محل نظر.
ينبع رفض أردوغان الحالي للتعامل مع الجماعات الكردية من جهوده السابقة في اتخاذ زمام المبادرة لإطلاق عملية السلام مع الأكراد، حيث يشير الخبراء بأن فشله في التوسط في الوقف الدائم لإطلاق النار سيؤثر على أي محادثات مستقبلية في هذا الشأن، “وجهات نظر أردوغان الحالية بشأن القضية الكردية لا تنبع من معتقداته الأساسية بقدر ما نابعة عن الحرج الذي يعاني منه جرّاء عدم قدرته على وقف العنف”، قال بارفي.
على صعيد متصل، أشار مسؤولون أتراك لوكالة رويترز بأن حزب العدالة والتنمية الحاكم سيختار بديل داود أوغلو في اجتماعه القادم، ومن المتوقع أن يعين أردوغان خليفة لداود أوغلو أقل معارضة لتغيير الدستور التركي، وهي الخطوة التي يسعى من خلالها أردوغان لتعزيز الصلاحيات الرئاسية على حساب النظام البرلماني للبلاد، ومن هذا المنطلق، يخشى منتقدو أردوغان بأن رئيس الوزراء المقبل سيكون أحد الموالين له، والذي سيقف بلا حراك لردع نزعات الرئيس الحالي لقمع المعارضة والحد من حرية التعبير.
“سيستبدل أردوغان داود داود أوغلو بأحد الموالين من اختياره”، قال أيكان إردمير، نائب سابق في البرلمان التركي وزميل بارز في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، وأضاف: “يمكننا توقع سيطرة أردوغان الكاملة على الشؤون المحلية والدولية في تركيا، بما في ذلك المفاوضات الجارية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حول سوريا، عملية عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، والتقارب التركي مع إسرائيل”.
على الرغم مما تقدم، من غير المرجح أن تطرأ تغيّرات كبيرة على العلاقات الأمريكية-التركية جرّاء خروج داود أوغلو من الحكم، نظرًا لاحتكار أردوغان للسلطة، “أردوغان هو المحرك وصاحب القرار الحقيقي في السياسة التركية بشأن القضايا الرئيسية مثل سوريا” قال أرون شتاين، الزميل مقيم في مجلس أتلانتيك.
أخيرًا، تشير المصادر الداخلية إلى أن الخلفاء المحتملين لداود أوغلو على منصب رئاسة الوزراء ينحصرون بوزير العدل بكير بوزداغ، نائب رئيس مجلس الوزراء نعمان كورتولموش، وزير النقل بينالي يلدريم، ووزير الطاقة وصهر أردوغان بيرات البيرق.
المصدر: فورين بوليسي