دخل السلطة نظيفًا وخرج نظيفًا، هكذا تحدث الكاتب التركي عبد القدير سلوي مساء الأمس عن رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو، والذي أعلن في خطبة وداع بالأمس اعتزامه ترك رئاسة الحزب والحكومة بعد الجمعية العمومية للحزب في أواخر هذا الشهر، بينما سرد لقرائه بعض التفاصيل لما جرى خلف الأبواب المغلقة في مقاله بصحيفة حريّت التركية، معلقًا على الأزمة التي دخلها الرجل مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
***
يوم 29 أبريل، قررت الهيئة العُليا لحزب العدالة والتنمية سحب سلطة تعيين قيادات الحزب الفرعية والمحلية من رئيس الحزب (أحمد داوود أوغلو حاليًا)، بعد أن ظلت حكرًا على رئيس الحزب لمدة 14 عامًا هيمن أردوغان على معظمها فعليًا، وإيكالها للهيئة نفسها، وهو ما استتبع ردًا من داوود أوغلو في خطاب أمام مجموعته البرلمانية يوم 3 مايو أشار فيه ضمنيًا لإمكانية رحيله عن منصبه وعن قيادة الحزب.
كان التوتر قد وصل لأقصى درجاته في الحقيقة قبل تلك الخطوة حين جرت مكالمة هاتفية بين داوود أوغلو وأردوغان عن القرار المرتقب والذي وصلت أخباره لأوغلو بالطبع قبل أن تعلنه الهيئة العُليا، إذ حصلت الهيئة على توقيع 47 عضوًا موافقًا من أصل أعضائها الخمسين لتمرير قرار 29 أبريل، وهي مكالمة جرى جزءٌ منها كالتالي طبقًا لعبد القدير سلوي:
داوود أوغلو: أعضاء الهيئة العُليا يقولون أنهم يجمعون توقيعاتهم امتثالًا لك
أردوغان: هذا أمر طبيعي لأنني قائدهم
داوود أوغلو: نعم، أنت قائدي أنا أيضًا، ولكن لنؤجل اجتماع الهيئة العُليا أو ليعقد كلانا اجتماعًا لمناقشة ذلك الملف
أردوغان: فلتفعل ما تراه مناسبًا
تباعًا، عُقِد اجتماع هام يوم 4 مايو بين الرجلين بعد مكالمة أخرى رسمية بمناسبة الإسراء والمعراج، وقد التقى أردوغان بشخصيات هامة في الحكومة قريبة منه قبل اجتماعه بأوغلو، وهي وزير الداخلية إفكان علاء ووزير العدل بكير بوزداغ ووزير المواصلات بن علي يلدرم، ووفق المصادر فإن محاولات الوساطة للوصول لحل وسط والإبقاء على داوود أوغلو فشلت نظرًا لعدم وجود أية اقتراحات أو خطط أخرى من جانب أردوغان فيما يخص الأزمة، فالرجل كان قابلًا ببساطة لاستقالة داوود أوغلو المتوقعة، وقد التقاه بناءً على علمه برغبته في الرحيل بعد ما جرى ليس أكثر.
لم يكن ذلك مفاجئًا بالنظر للخلافات المتراكمة على مدار عشرين شهرًا قضاها أوغلو في رئاسة الوزراء، واصطدم فيها كثيرًا برغبة الرئيس الذي حدد قوائم المترشحين في انتخابات يونيو ونوفمبر الماضية، ومال لصالح سيناريو الانتخابات المبكرة بدلًا من الائتلاف الذي فضّله أوغلو بعد يونيو، وفرض تعيين برات البيراق وزيرًا للطاقة رُغم عدم قبوله من جانب أوغلو، ودفع لرفع الحصانة عن نواب حزب الشعوب الكردي عكس إرادة أوغلو، أضف لذلك اعتراض أوغلو على محاكمة الأكاديميين الذين وقعوا على بيان رفض العنف في جنوب شرقي البلاد، وهو ما اعتبره أردوغان دعمًا لإرهاب حزب العمال الكردستاني، وأخيرًا فإن أوغلو ظل مؤكدًا على إمكانية العودة للمفاوضات مع الحزب، في حين أصر أردوغان أنه ليس ثمة سبيل لمواجهته سوى بالقتال.
التقى الرجلان بالفعل أول أمس لمدة ساعة وأربعين دقيقة، وانتهيا إلى رحيل داوود أوغلو بعد الدعوة لجمعية عمومية لحزب العدالة والتنمية أواخر هذا الشهر لاختيار رئيس جديد للحزب، والذي يتولى بالتبعية رئاسة الوزراء وفق الدستور التركي، والأسماء المرشحة حاليًا هي الوزراء الثلاثة المذكورين ممن تحدث معهم أردوغان أثناء الأزمة، بالإضافة لوزير الصحة محمد مؤذن أوغلو ووزير الدفاع عصمت يلماز ووزير الطاقة وصهر أردوغان برات البيراق.
***
من جانبه، وبكل هدوء ودبلوماسية، تحدث داوود أوغلو بالأمس في مؤتمر صحافي مُعلنًا للرأي العام التركي ما أسفر عنه الاجتماع، وهو خروجه من موقع القيادة واستمراره كنائب عن الحزب في البرلمان، دون أن يضيف ما إن كان سيستمر في موقعه كنائب برلماني ويرشح نفسه في الانتخابات المستقبلية أم لا، وهو مؤتمر تابعه نواب البرلمان أنفسهم على هواتفهم الذكية وأجهزة الكومبيوتر الخاصة بهم من داخل البرلمان في أنقرة، غير مبالين ربما بتفاصيل ما يجري داخله بقدر اهتمامهم بما سيقول الرجل، في إشارة رمزية ربما ولكن واضحة للتحول الحاصل في قبلة النظام من البرلمان إلى قصر الرئاسة.
هو مؤتمر صحافي أتى مشحونًا بالعواطف، فقد التقطت عدسات المصورين ابن داوود أوغلو واقفًا يتابع والده، كما التقطت دموع النائبين عن ولاية قونيا، كريم أوزكول ومصطفى بال أوغلو، وهي الولاية التي ينحدر ويترشح منها أحمد داوود أوغلو، متأثرين بإعلان خروجه من قيادة الحزب فيما سمته الصحافة التركية “خطبة الوداع.”
قونيا، إحدى أهم الولايات في قلب الأناضول بتركيا، ومقر ضريح جلال الدين الرومي كما يعرف كثيرون، كانت على موعد مليء بالعواطف اليوم الجمعة 6 مايو لاستقبال داوود أوغلو، والذي قرر أن يصلي الجمعة فيها، فقد تجمع مؤيدوه أمام المطار في استقباله بالهتافات والدموع والأعلام الحاملة لصورته ولشعار الحزب، في حين ألقى أوغلو كلمة قصيرة لم تتعدى دقيقة واحدة “جمعتكم مباركة.. أدام الله اجتماعنا ووحدتنا.. ووطننا ودولتنا.”
***
“انتهى عصر أردوغان-أوغلو الذي اتسم بقائد قوي ورئيس وزراء متفاني، والآن نحن على موعد مع نموذج جديد ينقلنا فعليًا للنظام الرئاسي، فرئيس الوزراء الجديد إما سيكون تكنوقراطيًا كما يقترح البعض، أو سيكون أكثر تناغمًا مع الرئاسة بشكل أساسي،” هكذا تحدث سلوي في مقاله بالأمس مشيرًا للتوقعات بزيادة هيمنة مؤسسة الرئاسة في المرحلة المقبلة، “لعل مناخ اجتماع الخامس من مايو بين داوود أوغلو وأردوغان لم يكن وديًا، ولكنه لم يكن قاسيًا في نفس الوقت، فمعرفة الرجلين ببعضهما قديمة في نهاية المطاف.”
استقبال أوغلو اليوم في قونيا وكلمته القصيرة قبل صلاة الجمعة
نجل داوود أوغلو (الثاني من اليمين) يتابع والده بالأمس
دموع نائبيّ قونيا أثناء خطاب الأمس
نواب البرلمان التركي يتابعون خطاب أوغلو بالأمس
أنصار داوود أوغلو في انتظاره اليوم أمام مطار قونيا
استقبال داوود أوغلو في قونيا اليوم