بدأت مؤسسات الاقتصاد الأمريكي ومؤشراته تعيد تقييم ما ينتظرها في حال فوز المرشح المرجّح عن الحزب الجمهوري دونالد ترامب في السباق الرئاسي في شهر نوفمبر/تشرين الثاني، فالاقتصاد الأمريكي بات يكتنفه الغموض من هول اقتراحات ترامب الاقتصادية التي لا يفتأ يعلن عنها في حملاته ومقابلاته الصحفية. حيث ازدادت حظوظه أكثر في نيل ورقة الترشح عن الحزب الجمهوري بعد انسحاب آخر منافسيه كيسيك عن سباق الترشح الرئاسي.
سياسات ترامب تجعل الولايات المتحدة الأمريكية على أعتاب تغيير جديد سيغير من ملامحها الاقتصادية في حال فوزه، فالأمر يتعلق بأعمدة الاقتصاد الأمريكي والثوابت التي اعتاد العالم السير في ظلها والتي جعلت منه أكبر اقتصاد في العالم على مدى العقود الماضية، وأبرز تلك الأعمدة مكانة الدولار كعملة احتياط دولية والتي ستؤثر على معادلة البترودولار وسندات الخزانة الأمريكية ذات التصنيف السيادي الأعلى في العالم، والعلاقة مع الصين ثاني أكبر اقتصاد عالمي، واتفاقيات التجارة الحرة مع دول العالم، والعمالة الضخمة من المهاجرين الموجودة في الولايات المتحدة.
ترامب ليس مرشحًا عاديًا
في كل دورة انتخابات رئاسية أمريكية؛ يتنافس فيها المرشحون بتقديم برامج اقتصادية لإنعاش الاقتصاد الأمريكي ورفع معدلات النمو وخفض البطالة وغيرها، ولكن ما يميز هذه الدورة الأفكار الاقتصادية العشوائية الصادرة عن ترامب والتي لا تحاكي الوضع الحالي للاقتصاد الأمريكي، فترامب ليس مرشحًا عاديًا عن الحزب الجمهوري فهو متمرد في كل شيء وحتى على حزبه، وبحسب لينش المحلل والأستاذ البريطاني في كلية “كاس” التابعة لجامعة لندن يقول أن خطط ترامب “تدق جرس الإنذار حول المستقبل الاقتصادي لأميركا”.
فالظلامية والسوداوية التي تُكفّن أفكار الملياردير ترامب هي ما تخيف المستثمر والسياسي والاقتصادي؛ فأفكاره الغير عادية حول ما يريد فعله والسياسات التي يبلورها اتجاه الاقتصاد الأمريكي لا تزال تطرح العديد من التساؤلات في الطريقة التي يفكر فيها ترامب، فيما إذا يتصرف بشخصية رجل الأعمال الذي نجح في تنمية ثروته من مئات الملايين إلى أكثر من 4.5 مليار دولارعندها يكون يعرف ما يقول ويُضمر استراتيجية اقتصادية ستعيد عظمة أمريكا كما ينادي في حملته، أو أنه غارق في الخيال ولا يكترث سوى للفوز في كرسي الرئاسة فقط.
في استفتاء شعبي أجرته شبكة” سي إن بي سي” التلفزيونية جاء فيه تساوي ترامب مع المرشحة المحتملة عن الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون من حيث نفعيته للاقتصاد الأمريكي، وربما يكون المرشح الأفضل للاقتصاد الأمريكي مقارنة بهيلاري بحسب ما أشار إليه المستثمر والخبير الاقتصادي “جيف غيندلاكس” حيث أشار مسح آخر أُجري في يناير/كانون الأول الماضي أن ترامب سيكون أفضل للاقتصاد مقارنة بكلينتون.
وعلى الرغم من الاعتقاد السائد لدى رجال الأعمال والعامة أن فوز الجمهوريين أفضل للاقتصاد الأمريكي من فوز الحزب الديمقراطي، إلا أن إحصاءات أداء مؤشر “داو جونز” الذي يقيس سوق وول ستريت تثبت عكس ذلك، حيث يشير رصد أداء السوق منذ عام 1900 أن سوق الأسهم تصعد سنويًا بمعدل 9.0% حينما يصعد الديمقراطيون للحكم مقارنة ب 6.0% حين يفوز الجمهوريون.
ترامب يبلور سياسته الاقتصادية
بعدما أصبح ترامب المرشح المرجح للحزب الجمهوري بدأ ببلورة المزيد من الأفكار بخصوص سياسته الاقتصادية، إذ قال في الأمس إنه ينوي إلغاء مجموعة من القوانين الإتحادية التي يرى أنها تثقل كاهل أصحاب الشركات الأمريكية أكثر من الضرائب المرتفعة، والجدير بالذكر أن سياسات ترامب الاقتصادية التي يشير إليها لا تزال بدون تفاصيل كاملة عن كيفية تطبيقها.
ولايكف ترامب عن إخافة المستثمرين من الاقتصاد الأمريكي ومن فقاعات مالية في أسواق المال وركود سيجتاح الاقتصاد، إذ صرّح للواشنطن بوست “إننا نجلس على فقاعة اقتصادية، بل فقاعة مالية” وفي أحد الحملات طلب ترامب من المستثمرين عدم شراء الأسهم الأمريكية، وقال في تصريح آخر أن “الاستثمار في الأسهم الأمريكية في الوقت الراهن سيء، وإن أسعار الأسهم تتضخم فوق مستوياتها الحقيقية في العادة وهي إشارة سيئة لما سيحدث للاقتصاد”.
وشكك كذلك في بيانات البطالة الأمريكية التي تصدرها الحكومة، والتي تشير إلى انخفاض معدل البطالة إلى ما يقرب من 5% فأشار أن معدل البطالة أكثر من ذلك الرقم بكثير فقد يصل إلى 20%.
تظهر حالة الفوضى في أفكاره عندما يتكلم عن أحد أسباب مشاكل الاقتصاد الأمريكي التي تتمثل برأيه في علاقة الولايات المتحدة مع الصين، فهي تخدع الولايات المتحدة وتتبع سياسات اقتصادية تنهب الاقتصاد الأمريكي، لذا سيعيد النظر باتفاقية التجارة الموقعة معها. وأنه سيشرع في بناء حائط لعزل المكسيك عن الولايات المتحدة لمنع العمالة المكسيكية التي تعمل في أعمال غير نظامية في أمريكا.
وحول خططه لإصلاح الاقتصاد الأمريكي، يشير أنه سيعمد إلى خفض الضرائب ويقول أن الضرائب في أمريكا هي الأعلى بين دول العالم، وخفض الضرائب سيحفز الاقتصاد والمستثمرين على الاستثمار أكثر، إذ قال في مقابلة مع محطة تلفزيون “سي.إن.بي.سي” أنه سيقوم بالتخلص من اللوائح الضريبية ويخفض الضرائب بدرجة كبيرة جدًا، فهذا الفعل سيؤدي إلى تنشيط الاقتصاد وخلق وظائف على حد وصفه.
ومن سياساته أنه سيخفض الدخل الفيدرالي من الضرائب بحوالي 9.5 ترليون دولار وتخفيض الضرائب على الأثرياء بحوالي 1.3 مليون دولار في عام 2017 وخفض الضريبة على الشركات إلى 15% وتبسيط قانون الضرائب أكثر، علمًا أن الخطط الضريبية المطروحة في سياساته تفيد بالمقام الأول الأثرياء وليس الطبقات الفقيرة والمتوسطة.
كما أنه يسعى لتقوية الدولار أكثر مما عليه الآن فيقول “أحب مبدأ الدولار القوي ومن عدة جوانب أود بوضوح أن يكون الدولار قويًا، في حين أن ذلك له بعض المزايا” مع العلم أن الفائدة الفعلية للدولار القوي أقل بكثير فيما لو كان ضعيفًا، ولا يُخفي قلقه من تداعيات رفع أسعار الفائدة على الاقتصاد في ضوء قوة الدولار التي تثقل كاهل الشركات الأمريكية.
ويعد بحماية الرعاية الصحية وزيادة الإنفاق على الدفاع وفي الوقت ذاته يقول أنه سيعيد التوازن إلى الميزانية الأمريكية التي تواصل مراكمة العجز منذ عهد الرئيس بوش الابن، إلا أن خبراء المال يرون في وعود ترامب بزيادة حجم الإنفاق تتناقض مع الميزانية الأميركية.
نقض سياسات ترامب الاقتصادية
في دراسة حديثة أعدها مركز “أميركان أكشن فورم” للأبحاث قال أن خطة دونالد ترامب بشأن حصر وترحيل المهاجرين غير النظاميين ستؤدي إلى إنكماش الاقتصاد الأمريكي بنحو 2% فيما لو نفذت، وستقود هذه السياسة بحسب الدراسة إلى تقلص الناتج المحلي الإجمالي خلال العقدين المقبلين بنحو 1.6 ترليون دولار.
إذ يوجد أكثر من 11 مليون مهاجر يعيشون ويعملون في الولايات المتحدة بصورة غير نظامية في قطاعات مثل الزراعة والبناء والضيافة، حسب الإحصائيات الحكومية وقد يؤدي ترحيلهم إلى انكماش ناتج القطاع الخاص بين 381.5 و 623.2 مليار دولار، وإخراج هؤلاء من سوق العمل قد يؤدي إلى شغور ملايين الوظائف بسبب نقص الأيدي العاملة النظامية الراغبة في شغل تلك الوظائف.
ومن المتوقع أن تبلغ قيمة الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي من السلع والخدمات نحو 18.7 ترليون دولار عام 2016 بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي وتمثل خسارة 2% من هذا الناتج ما يعادل 400 مليار دولار.
كما أن صورة الاقتصاد الأمريكي لدى الاحتياطي الفيدرالي أزهى من الصورة المأساوية في ذهن ترامب، فالمركزي الأمريكي عاد إلى تبني رفع سعر الفائدة على الدولار ربما مرتين خلال العام الجاري.
وبحسب “واشنطن بوست” فإن الرؤية المتشائمة التي طرحها ترامب حول الاقتصاد الأمريكي تتعارض أيضًا مع مسح أجرته “وول ستريت جورنال” مع رجالات الاقتصاد، إذ نتج عن المسح أن فرصة انحدار الاقتصاد نجو الركود لا تتجاوز 20% فقط، وحتى هذه الفرصة الضئيلة لا ترتبط بأداء الاقتصاد الأمريكي وإنما ترتبط بضعف الاقتصاد العالمي.
ويجدر القول أن السياسات التي يطرحها ترامب تهدد موقع الدولار كعملة احتياط دولية، وستقود خطط الإنفاق التي يقرها في سياساته إلى رفع الدين العام في أمريكا _في ظل خفض معدلات الضرائب التي ينوي فعلها_ إلى معدلات عالية جدًا قد تنهي جاذبية سندات الخزانة الأمريكية التي تعتمد عليها أميركا في تمويل العجز في الميزانيات، والتفكير بهذا المنطق كافي لرؤية مكانة ووضع الاقتصاد الأمريكي في المستقبل.
ويُجمع خبراء الاقتصاد أن فوز ترامب واتباعه لسياسات هجومية وغير مدروسة سيقود تلقائيا إلى نزاع تجاري وربما عسكري مع الصين في آسيا. وربما تكون نتيجة مثل هذا النزاع تخلي الصين عن ربط عملتها بالدولار وانفكاك البترودولار، فضلًا عن تراجع دور الدولار في تسوية الصفقات التجارية في دول البريكس ومجموعة دول العام النامي.
والدولة التي يقول أنها تحاريه (الصين) هي في واقع الحال تتنافس معه وفق القواعد التي وضعتها الولايات المتحدة وهي وغيرها تنتظر اللحظة التي تدير الولايات المتحدة ظهرها عن الاقتصاد العالمي لتبرز بدل عنها، فهذه الأيام ليست كأيام ما بعد الحرب العالمية الثانية التي خرجت الولايات المتحدة وحدها رابحة وفرضت على الجميع سياساتها وفلسفتها على الاقتصاد العالمي.
لذا وبالنظر للسياسات التي سينتهجها ترامب والتي أعلنها حتى الآن يتوقع خبراء المال أنها ستكون كارثة على الاقتصاد الأمريكي وستكلفه غاليًا.
تفسير تصريحات ترامب التشاؤمية للاقتصاد الأمريكي
خبراء الاقتصاد السياسي يرون خطاب ترامب التشاؤمي حول الاقتصاد الأمريكي بأنه طريقة ممنهجة ومدروسة من قبله لافتعال انهيار في سوق الأسهم الأمريكي، فهو يعتبر أن هذا سيساعده في كسب الإنتخابات ويستند بما حدث على نتائج الإنتخابات في عام 1929 بعدما شهد الاقتصاد الأمريكي أسوأ كساد اقتصادي على الإطلاق.
ففي 22 معركة انتخابية بعد ذلك التاريخ فاز مرشحو الحزب الديمقراطي في 12 منها بسبب الأداء الجيد لسوق المال في وول ستريت، وخسر في المرات التي كانت تشهد انهيارًا في سوق المال. لذا يأمل ترامب أن تقود تصريحاته إلى انهيار في سوق الأسهم حتى تزداد فرص فوزه على مرشحة الحزب الديمقراطية المحتملة.
وتُذكر سياساته بثلاثينيات القرن الماضي التي اتسمت بالإنغلاق وتعزيز السياسات الحمائية، والتي لن تفيد الاقتصاد الأمريكي بما هو عليه الآن من مكانة عالمية. وربما سيدرك ترامب في حال وصوله لسدة الرئاسة أن من يدير البيت الأبيض ويتحكم بالعالم من هناك ليس كمن يعيش خارجه، فهو محكوم بمؤسسات اقتصادية عتيقة وخبراء مال كبار يخططون للاقتصاد. وكم من رئيس أمريكي وعد وقال الكثير في حملته الرئاسية لكنه لم ينفذ منها شيء بعد وصوله للرئاسة.