أحدثت الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الخميني زلزالًا كبيرًا ليس على صعيد النظام السياسي وتوزان القوى في الشرق الأوسط وحسب، بل وعلى صعيد التصورات والمفاهيم والرؤى أيضًا، هذا بالإضافة إلى توقيتها الحرج حيث كان العالم يشهد فصلًا جديدًا من الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي باحتلال الاتحاد السوفيتي لأفغانستان، وتحول المزاج الإقليمي العربي نحو عملية السلام ونبذ الخيار العسكري (على المستوى الرسمي) في التعامل مع إسرائيل، وعليه فقد كانت القضية الفلسطينية حاضرة بقوة في الثورة الإيرانية سواء من ناحية الخطاب أو السلوك.
ويمكن رصد مرحلتين فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية في فترة حكم الخميني؛ المرحلة الأولى وهي مرحلة الحماسة الثورية التي أعقبت نجاح الثورة بإسقاط نظام الشاه، وبناء النظام الثوري القائم على ولاية الفقية، والمرحلة الثانية وهي مرحلة الحرب مع العراق والانتقال من الحماسة الثورية إلى الوقائع الجيوسياسية.
تحددت المقاربة الخمينية للقضية الفلسطينية في المرحلة الأولى من خلال البُعد الديني الأيديولوجي والحماسة الثورية من جهة، ومن خلال العداء لكل ما كان يرتبط بالشاه من جهة أخرى ومحاولة القطع مع أثره تمامًا، فقط كان الخميني رجل الدين الأبرز في إيران الذي أعطى الصراع مع إسرائيل بُعدًا إسلاميًا، فبالنسبة له كانت القضية محسومة، ففلسطين ليست أرضًا للفلسطينيين أو للعرب وحدهم، بل هي أرضٌ للمسلمين جميعًا، وبذلك يكون حق الدفاع عنها وتحريرها من الكيان الصهويني واجب على كل مسلم.
وللمفارقة، ففي الوقت الذي كانت فيه القضية الفلسطينية تمر بمنعطف هام في تاريخها وذلك بتوقيع مصر لاتفاقية السلام مع إسرائيل، واتباع سياسة “الخطوة – خطوة” التي فرضتها الإدارة الأمريكية لإحلال السلام بين العرب وإسرائيل، فإن القضية الفلسطينية كانت تنتقل من بعدها العربي الأوسع إلى بعدها الفلسطيني الأضيق، وهنا جاء الخميني لينقلب على هذا التوجه ويمنح القضية الفلسطينية بعدًا أشمل من بعدها العربي – الفلسطيني حين اعتبرها قضية إسلامية تهم جميع المسلمين. وقد كان هذا التوجه من ضمن أشياء أخرى وراء تأزم علاقة إيران مع الدول العربية المحافظة.
كان العداء لإسرائيل متأصلًا في التصور الديني والأيديولوجي للخميني، فالرجل كان يرى في الكيان الصهيوني تهديدًا ليس للإسلام وحسب، بل وللإنسانية، وامتدادًا للإمبريالية الغربية، ولذلك رفض بشكل قاطع وجود هذا الكيان، ولذلك كان واضحًا في دعوته لكل مسلم بالانخراط في حرب مقدسة لتطهير فلسطين من هذا السرطان الصهوني.
على صعيد متصل يعود جزء كبير من عداوة الخميني لإسرائيل إلى حرصه على القطع مع كل ما كان يمت للشاه بصله، وكما هو معلوم فقد كان الشاه متهمًا من قبل الخميني والثوريين الإيرانيين بالعمالة للإسرائيليين على خلفيه تعاونه الكبير معهم خصوصًا فيما يتعلق بالجوانب الأمنية والاقتصادية، حيث يعود الفضل – على سبيل المثال – في إنشاء جهاز المخابرات الإيراني (سيء السمعة السافاك) إلى جهاز الاستخبارات والمهمات الخاصة الإسرائيلي – الموساد.
وعليه فقد كانت القضية الفلسطينية من أهم القضايا التي يمكن أن تشكل دليلًا على التوجه الجديد لإيران بعد الثورة، والانقلاب والقطع مع إرث الشاه، حيث كان الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات أول زعيم عربي يصل إيران بعيد الثورة، فبعد أقل من أسبوعين من وصول الخميني إلى طهران من منفاه في باريس، حطت طائرة خاصة للرئيس السوري السابق حافظ الأسد في طهران تحمل وفدًا فلسطينيًا رفيع المستوى بقيادة رئيس منظمة التحرير أبو عمار، وقد استُقبل الوفد استقبالًا حافلًا، حيث كان هناك الآلاف من الثوريين الإيرانيين بانتظار الوفد في المطار وعلى طول الطريق الواصل إلى مكان اقامتهم، وقد تم منح منظمة التحرير اعترافًا رسميًا، وتحويل مبنى البعثة الإسرائيلية إلى مقر للمنظمة، وتغير اسم الشارع الذي يوجد فيه المقر إلى “شارع فلسطين”، والسماح للمنظمة بفتح مكاتب لها في عدة مدن إيرانية من ضمنها الأهواز ذات الغالبية العربية.
ومع ذلك فقد كشفت هذه الزيارة اختلافًا في وجهات النظر في صفوف الثوريين الإيرانيين، فقبيل الزيارة وضمن الترتيبات لها، قام ياسر عرفات بإجراء عدة اتصلات مع القيادة الإيرانية، في المرة الأولى أجابه صادق قطب زادة – وهو من القيادات الليبرالية، وأقرب المعاونين للخميني في منفاه والذي أصبح وزيرًا للخارجية بعد الثورة قبل أن يعدم في 1982 لاتهامه بمحاولة اغتيال الخميني – حيث كان رده باردًا، مطالبًا أبو عمار بالتريث، فالأوضاع لم تستتب للثوار بعد، بعدها مباشرة أجرى أبو عمار اتصالًا ثانيًا (فقد كان حريصًا جدًا على هذه الزيارة لاعتبارات سوف نتحدث عنها لاحقًا) وفي هذه المرة كان المجيب على الطرف الثاني من الخط محمد منتظري – أحد أبرز القادة الدينيين للثورة، وأحد مؤسسي الحرس الثوري – وفي هذه المرة كان الرد حماسيًا، مطالبًا أبو عمار بالسفر إلى إيران على وجه السرعة.
بالنظر إلى حقائق الأمر الواقع في ذلك الوقت يمكن أن نتفهم الحماسة لدى ياسر عرفات ورفاقه للقيام بهذه الزيارة واظهار تضامنهم مع الثورة الإيرانية، فالفلسطينيون كانوا محبطين جراء خروج مصر من دائرة الصراع بتوقيعها لاتفاقية السلام بشكل منفرد مع إسرائيل، بالاضافة إلى أن حسابات أبو عمار كانت دائما تدور حول توزان القوة في المعسكر العربي بين النظام المصري والنظام السوري، وقد كان يخشى أن خروج مصر من اللعبة قد يدفعه إلى الوقوع في أحضان السوريين، وهو ما كان يعمل على تجنبه، ولذلك فقد رأى في الإيرانيين عامل توازن جديد في اللعبة، وعليه يمكن القول بأن القيادة الفلسطينية نظرت إلى الثورة الإيرانية منذ أيامها الأولى بمنظار سياسي – مصلحي وليس أيدولوجي.
أما على الطرف الإيراني، فقد شكلت الزيارة عاملًا مهمًا في الترويج للروح الحماسية الجديدة، والتوجهات الثورية لدى قادة إيران الجدد، حيث كانت القضية الفلسطينية بما تمثله من رمزية وقداسة على جانب كبير من الأهمية في إظهار الروح الجديدة لإيران بعد الثورة، مع ذلك فإن هذا التلاقي الثوري والحماسي بين الثوريين الإيرانيين والفلسطينين سرعان ما اصطدم بالحقائق السياسية التي سوف تعمل على تباعد القيادتين مع مرور الوقت، وهو ما سوف نستكمله في المقال القادم.