عانى الاقتصاد الأمريكي من أزمة اقتصادية خانقة نهاية عام 2007، حيث عصفت بوول ستريت، وانتقلت العدوى إلى الاقتصاد العالمي، لكن والحال هذه، كيف خرجت أمريكا من هذه الأزمة؟ ومن أين تأتي رفاهية المواطن الأمريكي؟
المتتبع لخفايا الاقتصاد الأمريكي يجد أن أمريكا انتشلت اقتصادها بالاعتماد على سياستين أساسيتين، تتثمل الأولى بسياسة التسهيل الكمي Quantitative Easing، حيث قام الفيدرالي الأمريكي بشراء سندات الخزينة وسندات القروض العقارية بأموال استحدثها الفيدرالي الأمريكي إلكترونيًا، وبمقدار 85 مليار دولار شهريًا، وقد وصل المبلغ المضخوخ إلى 4 تريليون دولار، ثم قام لاحقًا بإتلافها إلكترونيًا وبشكل تدريجي، الملفت في الأمر أن الفيدرالي الأمريكي “استبخل” أن يطبع الدولار الذي لا تكلف طباعة فئة 100 دولار منه سوى ستة سنتات! بل قام بعملية التسهيل الكمي سابقة الذكر، وكانت الاستراتجية ناجحة حيث تمكن لاحقًا من تحقيق أرباح ضخمة بعد بيعه للأصول التي اشتراها سابقًا.
ويزيد الطين بلة ارتفاع الدين الأمريكي إلى أكثر من 18 تريليون دولار، أي يزيد 100% عن الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي، وإذا أخذنا بالاعتبار التزامات صناديق الدعم الاجتماعي والضمان الصحي وغيرها من التزامات فإن ديون الولايات المتحدة الأمريكية قد تصل إلى أكثر من ذلك بكثير.
السياسة الثانية تمثلت بتجارة الموبقات، يمكن لنا بعد مراجعة العوامل الفاعلة في الاقتصاد الأمريكي، نجد أنه اقتصاد متنوع، حيث قطاع التصنيع العسكري، صناعة النفط، السيارات، هوليود، تقنيات النانوتكنولجي، تكنولوجيا المعلومات في وادي السيلكون، وصولًا إلى قطاع الخدمات المالية والتعليمية والتأمين وغيرها من خدمات، حيث تصدر فقط من براءات اختراع ما يعادل 120 مليار دولار!
ورغم كل هذه الدلائل على قوة وضخامة الاقتصاد الأمريكي، إلا أن الأزمة المالية العالمية والحروب المتتالية قد انهكت هذا الاقتصاد، لهذا لم تتوقف أمريكا عند عملية التسهيل الكمي بل شرّعت قوانين بيع المارجونا، وسرّعت من صفقات السلاح، ورفعت سقف الدين الحكومي، وغيرها من عمليات.
كشفت تقارير اقتصادية سابقة عن التكلفة المباشرة للحرب في العراق، حيث قدرت بـ 1.7 تريليون دولار بين عامي 2001 و2014، إضافة إلى تمويل الحرب لعام 2015، هذه المبالغ ذهبت إلى وزارة الدفاع الأمريكية (1.62 تريليون دولار)، كما تلقت وزارة الخارجية 101 مليار دولار، ووزارة شؤون المحاربين القدامى 17 مليار دولار، الجدير ذكره أن هذه الأرقام في ارتفاع لأنها لا تشمل تكاليف الالتزامات طويلة الأجل لقدامى المحاربين الجرحى، بل تزيد تقارير أخرى عندما نشرت بأن تكلفة العمليات العسكرية في العراق وأفغانستان وباكستان حتى عام 2014 تزيد عن 4.4 تريليون دولار، ولازال العداد يدور إلى الآن.
وإذا ما عدنا إلى لعبة الأرقام سنجد أن مبلغ 4.4 تريليون دولار يعادل الناتج المحلي لدول مثل السعودية وتركيا وايران وسوريا والعراق ولبنان والأردن ومصر وأفغانستان! طبعًا عندما كانت أسعار النفط في أحسن حالاتها.
المؤسف في الأمر أن قلة يتذكرون كيف توقع بعض الخبراء في عام 2002 بأن الحرب قد تكلف نحو 50 مليار دولار فقط، والمؤسف أكثر أن الخبير الاقتصادي في البيت الأبيض حينها لورانس ليندسي قد وضع سقفًا كبيرًا لتوقعاته ما بين 100 – 200 مليار دولار! بينما تشير التقارير الرسمية الأخيرة إلى اقترابها من 2 تريليون دولار! (نقول تقارير رسمية).
السؤال المطروح كيف تسترد الولايات المتحدة الأمريكية تلك المبالغ؟
يمكن لنا تتبع مآل أموال دافعي الضرائب، حيث تشير التقارير إلى أن 27% منها يذهب للجيش، 26.5% للرعاية الصحية، 15.3% خدمة الدين الأمريكي (حيث بلغ الدين الخارجي 18.3 تريليون دولار، وإذا تم إضافة الديون المحلية للفيدرالي وشركات والولايات يصبح 21 تريليون)، 8.4% لمعونات طلبات البطالة، 5.8% المحاربين القدماء، 5% للزراعة، 3.4% نفقات حكومية، 2.5% للتعليم، 1.9% للمواصلات، 1.6% طاقة وبيئة، 1.5% نفقات خارجية مثل المعونات التي تدفعها أمريكا لحلفائها، 1.1% بحوث علمية، 1% الإسكان والمجتمع.
مما سبق يتضح حجم الإنفاق الهائل على التسليح، حيث تتصدر الولايات المتحدة الأمريكية حسب تقارير قائمة الدول الأكثر إنفاقًا عسكريًا، وبحدود 600 مليار دولار، حيث تعادل ميزانية الدفاع في الولايات المتحدة نصف إجمالي الإنفاق العسكري في العالم، بل يتعداه لأن جزءًا ضخمًا من بقية الإنفاق العسكري الإجمالي في العالم مرتبط بحلفاء الولايات المتحدة.
هذا الإنفاق الهائل على التسليح بالإضافة إلى تكاليف الحرب في أفغانستان والعراق وغيرها، تديره قلة متنفذه من تجار النفط والسلاح والمخدرات – لا تندهش عزيزي القارئ – إذا ما قلنا إن الموبقات السابقة تتم وفقًا للقوانين والأنظمة والدستور الأمريكي، ولنأخذ مثلًا أنه بعد تشريع بيع الماريجوانا (الحشيش) حصلت ولاية “كولورادو” الأمريكية وحدها على 30 مليون دولار.
ولفكّ لغز هذه الأحجية، نعود إلى صفقات السلاح التي تمّت بعد ركود تجارة السلاح، فمثلًا تكلفة قنبلة إف 16 الأمريكية تقدر بـ 20 ألف دولار، بينما تكلفة الصاروخ الواحد من طرازي توماهوك وكروز تتراوح بين 600 ألف و2.1 مليون دولار، لهذا ارتفعت أسهم شركة رايثون الدفاعية في البورصة بشكل ملحوظ بعد الإعلان عن نية أمريكا ضرب داعش في العراق، كما ارتفعت مرة أخرى بعد الإعلان عن ضرب تنظيمي الدولة الإسلامية والنصرة في سوريا، وارتفعت أسهم الشركة عندما وقع البنتاعون عقد شراء 196 صاروخ توماهوك من رايثون هذا العام، وتعتبر طائرات “إف 16” هى الأكثر شهرة نظرًا لإمكانيتها العالية وتتراوح أسعارها ما بين 14 مليون دولار حتى أكثر من 60 مليون دولار حسب المزايا التى تتمتع بها (اشترى العراق 36 طائرة اف 16 بقيمة 70- 100 مليون دولار للواحدة)، بينما قيمة عربات الهامفي ودبابات أبرامز ولمعرفة أسعارها نعود إلى إعلان الخارجية الأمريكية عن موافقتها العام الماضي على عقد لبيع 175 دبابة من طراز “أبرامز” للعراق تقدر قيمتها بـ 12 مليار دولار، فضلاً عن 1000 سيارة هامفى تقدر قيمتها بـ 579 مليون دولار! مما يعني أن تكلفة دبابات أبرامز الواحدة تقدر بـ 6-8 مليون دولار وسعر عربة الهامفي بـ 579 ألف دولار.
والحال هذه، وما قدمناه من قراءة لا يمثل شيئًا في بحر الأرقام، لأن تجارة السلاح تتم عبر وسطاء يأخذون رشاوى بمبالغ هائلة، ولنتذكر ليس ببعيد “صفقة اليمامة” ذائعة الصيت، وهي صفقة شراء أسلحة بريطانية أخذت شهرتها بسبب ضخامة العمولات المدفوعة فيها، وإذا ما راجعنا حجم صفقات التسليح التي عقدتها الولايات المتحدة نستطيع فهم كيف استردت أمريكا تكاليف حروبها، ليتبين لنا أن هناك فئة تحكم من خلف الستار وتسن القوانين بما يتفق ومصالحها، لهذا نرى أن ثلث الديون الأمريكية تأتي بسبب الإنفاق العسكري، لهذا يجري احتراب شديد بين الحزبين الأمريكيين حول إنفاق 8.5 تريليون دولار على السلاح، إلا أنه لا تستطيع أي جهة (من أي حزب أمريكي) أن تسأل أين؟ وكيف؟ ولماذا؟ تم إنفاق هذا المبلغ الضخم لأن وزارة الدفاع هي الجهة الوحيدة التي لا يستطيع أحد مساءلتها.