بلا شكَّ؛ فإن هناك الكثير من “اللقطات” المحيطة بمشهد إعلان رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو، لاستقالته من رئاسة حزب العدالة والتنمية الحاكم وحكومته، وكذلك هناك العديد من القضايا المهمة التي يطرحها هذا المشهد الذي أثار اهتمام العالم بأسره، في ظل – بالفعل وبموضوعية ومن دون أي تحيُّزٍ – فرادة التجربة التركية، وفرادة تجربة أوغلو ذاته، مع أردوغان أو من دون أردوغان.
إلا أن هناك “لقطة” شديدة الأهمية يطرحها ليس مشهد الاستقالة في حد ذاته فحسب، وإنما بعض ما أحاط بمشهد الاستقالة على المستوى السياسي والإعلامي.
ولعل أهم هذه “اللقطات”، هو النقاش الإعلامي الحاد وما رافقه من تسريبات من جانب بعض الأطراف الحزبية والسياسية وكذلك الإعلامية، المؤيدة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ومن أردوغان نفسه، قبيل وبعد إعلان أوغلو أنه منسحب من الحياة السياسية الرسمية والحزبية في بلاده.
ونقصد في هذا الإطار أمرَيْن، الأول، هو الأزمة التي تصاعدت بين أردوغان، وبين ذراعه الأيمن ومنظِّره الأول، قبيل الأزمة وقادت إلى الاستقالة، والثاني سلسلة من حملات التشويه التي طالت أوغلو في بعض المصادر الإعلامية والأوساط السياسية المؤيدة لأردوغان.
ويخص كلا الأمرَيْن مسألة مهمة، ربما هي من أكثر المشكلات التي تعاني منها أحزاب وحركات ما يُعرف بـ “الإسلام السياسي”، خطورة وتأثيرًا سلبيًّا عليها، وهي فقه إدارة الخلاف والاختلاف بداخلها.
فإن الباحث السياسي والتاريخي المدقِّق، وعبر تاريخ الحركات الإسلامية، منذ العشرينات من القرن الماضي؛ لا نكاد نقف أمام نموذج واحد مثالي في عملية إدارة الخلاف والاختلافات بداخله، وتأسيس حالة من الانتقال الهادئ لمراكز القوى فيه، بعيدًا عن الميكروفونات ومصطلحات السباب والتشهير، أو – بمعنى أدق – حالة بدأت كذلك، واستمرت عليه.
ولا نبالغ في القول بتوصيف هذه الحالة، بأنها أكثر المشكلات خطورة، حيث إنها، وبعيدًا عن أية نمذجات، أو ضرب للأمثلة، فهي المشكلة التي كثيرًا ما تقود إلى انهيار كيانات وأحزاب، بعضها عابر للحدود، وصاحب مشروع أممي.
كما أنها من أسوأ الظواهر التي يستغلها إعلام خصوم الحركة، وخصوصًا إعلام الأنظمة والحكومات في التشهير بالأحزاب والحركات الإسلامية، وخصوصًا التي تمثل الإخوان المسلمين أو لها جذور في الحركة، باعتبار أنها أهم بديل للحكم، وأثبتت الحوادث والتطورات الكبرى في العقود الأخيرة، أنها قادرة على تأسيس دولة جديدة.
ومن ثَمَّ؛ فإنه يجب طرح صورة سلبية عنها، وأهم ما فيها أن الممارسة السياسية داخل هذه الأحزاب، هي أحد أوجه الديكتاتورية، ولا تختلف في طبيعتها عن الأنظمة المستبدة الحاكمة لو وصلت الحكم، وأنها لا تتمسك بالديمقراطية إلا لو حققت لها أهدافها من خلال الصندوق.
وفي حقيقة الأمر، مع كامل الاحترام لتجربته ولمؤيديه، فإن أردوغان قدم في الأشهر القليلة الماضية أسوأ النماذج في هذا الأمر، أهمها، عندما فشل حزبه في الحصول على الأغلبية المطلقة في جولة انتخابات يونيو 2015م، فلجأ إلى العديد من أساليب الترهيب والتخويف، وصعَّد من الروح القومية، لدرجة أنه قد أشعل حريقًا في بلاده وفي محيطها الحيوي مع الأكراد، لمجرد العودة إلى تشكيل الحكومة منفردًا.
النموذج الثاني، هو الأزمة الأخيرة مع أوغلو؛ حيث قاد خلاف وتداخل الصلاحيات، وافتئات الرئيس على رئيس وزرائه فيها (كما في موضوع تعيين مسؤولي البلديات)، وقضية التعديلات الدستور بمشتملاتها المختلفة (النظام الرئاسي/ الأسلمة والعلمانية/ عزل النواب المؤيدين للأكراد)؛ إلى خسارة حزب العدالة والتنمية، لأحد آخر الشخصيات الكبرى المؤسِّسة له ولتجربته، مع تراجع كل من رافقوا أردوغان في التجربة في البداية، إلى الظل والاعتزال في الوقت الراهن.
لماذا تغيب عملية إدارة الاختلافات في الأحزاب الإسلامية؟!
تستعيد الأزمة الراهنة بين أوغلو وأردوغان، مشاهدًا أخرى سابقة وآنية لحركات إسلام سياسي عدة، عصفت أو كادت أن تعصف بها.
مبدئيًّا يجب التأكيد على أن البواعث الأساسية لهذه الأزمات التي تنشأ عن الخلافات والاختلافات في المواقف والرأي، مرجعها الأساسي إما سياسي أو فقهي، ولكن جذر الأزمة كله، مؤسسي.
فالخلافات في الغالب ما تكون على الموقف الفقهي من أمور معينة حاكمة في بواعث حراك هذه الجماعات والأحزاب، وخصوصًا في حالة تنظيمات السلفية الجهادية، مثل كيفية التعامل مع الأنظمة الحاكمة، وكيفية التعامل مع الشعوب التي ترزح تحت حكمها، ومن هم المستأمنون، وغير ذلك.
أما في حالة تنظيمات الإسلام السياسي الحركية، مثل الإخوان المسلمين؛ فغالبًا يكون الخلاف سياسيًّا، على أمور تتعلق بإدارة دولاب العمل داخل الحزب أو الجماعة، أو خلاف في النظرة لأدوات وقضايا المرحلة، مثلما حصل في موضوع التعديلات الدستورية جزئيًّا في أزمة أوغلو – أردوغان، ومن قبل على التوجهات العامة للسياسة الخارجية التركية إزاء الربيع العربي وأزماته، وخصوصًا الحرب في سوريا، والانقلاب في مصر، في حالة أردوغان مع عبد الله جول.
ولدينا أمثلة كثيرة سوف نطالع بعضها، ولكن وجب أولاً تناول الأسباب التي تجعلها تقع، وتنصب بالأساس على سيطرة الكارزيمات على الأحزاب والحركات الإسلامية الحركية، وطغيان ثقافة “الأب المؤسس”، و”الزعيم الملهم”، عليها، والتي تُعتبر آفة السياسة والحكم بشكل عام، في المجتمعات والبلدان العربية والإسلامية، وفي الشرق بشكل عام؛ حيث لا توجد الكثير من الديمقراطيات، باستثناء الهند، التي طورت نموذجها الخاص بالديمقراطية، وكوريا الجنوبية واليابان، بسبب ارتباطها بالمعسكر الغربي، ودورانها في فلكه.
يمس ذلك مسبب آخر لهذه المشكلة، وهي الأساس الديني الذي قامت عليه هذه الجماعات والأحزاب، وحتى في الجماعات الأكثر انفتاحًا، مثل الإخوان المسلمين، وبموجب ذلك يتم إعطاء القائد أو المرشد أو أيًّا كان مسماه، قدسية خاصة، يكون تجاوزها بمثابة “حرج شرعي”، بدءًا من التأثيم، ووصولاً إلى توصيف ذلك بالخروج عن الجماعة، “وتعطيل” المشروع الإسلامي، مما يستوجب القتل في بعض الحالات.
وهي آفة مهمة في الحركة الإسلامية عبر تاريخها، حيث كلٌّ منها ينظر لنفسه على أنه يعبر عن الإسلام الصحيح والمشروع الحضاري الإسلامي النقي، بل يصل الشطط بالبعض إلى أن يصنِّف ذاته على أنه “الطائفة المنصورة” الموعودة بالنصر في الحياة الدنيا والجنة في الآخرة، بينما الباقون خارجين عن الدين ومصيرهم إلى جهنم!
ولعل هذا هو ما يقف خلف الاقتتال الدموي الذي يقع بين الحين والآخر، بين مجموعات تدعي كلٌّ منها أنها تحمل المشروع الإسلامي على كتفَيْها.
وهو مستوى آخر من مستويات أزمة إدارة الخلافات والاختلافات، ولكنه مستوى يخص العلاقة بين الأحزاب والحركات الإسلامية وبعضها البعض، وليس المستوى الذي نناقشه هنا، والمتعلق بواقع هذه الأزمة داخل الجماعة الواحدة.
الآفة الأخرى قادت إليها العوامل والسمات السابق، ولكنها آفة في صورة مؤسسية، فبما أن القائد: أب/ ملهم/ زعيم/ مقدس؛ فإنه بالتالي لا يمكن مناقشته إلا في أضيق الحدود، وبالتالي فقد غابت الأطر والقنوات المؤسسية الأكبر والأعلى من شخصية الزعيم أو القيادة القادرة على إدارة الخلاف بينه وبين المجموعة المحيطة به، أو مع القواعد.
وبالتالي، فحتى ولو توافرت هذه الأطر والقنوات الخاصة بإدارة الأزمات والاختلافات داخل الجماعة أو التنظيم الواحد؛ فإنها تبقى قاصرة على مساحة أو مستوى ما دون القيادة ورؤاها.
وهو أمرٌ شديد الوضوح في حالة الأزمة الراهنة في حزب العدالة والتنمية التركي، وفي حالة الإخوان المسلمين في مصر، فبينما تمت تنحية عبد الله جول وأوغلو، ومن قبل شخصيات أخرى، لم يمكن – للآن – إيجاد صيغة، على الأقل، لترشيد مواقف وسياسات أردوغان، حتى ما أدى منها إلى مشكلات فادحة.
وفي مصر، بينما تم فصل الآلاف من الإخوان “المخالفين”؛ لم يمكن بالمطلق التعامل مع الأزمات والخلافات على مستوى القمة، مما أدى إلى سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الإخوان المسلمين، وهي وجود جماعتَيْ إخوان في مصر، لكل منها مرجعية تستدل بها على “شرعيتها”.
بعض الشواهد!
هذه الأزمة ليست كما يتصور البعض، حكرًا على الإخوان المسلمين، فهي ظاهرة في مختلف الأحزاب والحركات الإسلامية بمختلف مدارسها الفكرية والفقهية؛ بل إن الكثيرين يذهبون إلى أن جماعات السلفية الجهادية التي تحمل السلاح، إنما هي عبارة عن انقسامات لبعضها البعض بسبب خلافات فقهية، والمدهش في الغالب أنها قد تكون في بعض الأمور ذات الطابع الإجرائي بالفعل، ولا تمس أصول الدين في أي شيء.
فالتكفير والهجرة والجهاد الإسلامي في مصر، وهما أساس مهم للتنظيمات المماثلة في العالم الإسلامي، عبارة عن انشقاقات بسبب خلافات فقهية بالأساس، عن الجماعة الإسلامية في مصر، والتي كان من بينها مؤسسيها كذلك، بعض الإخوان ممن أوَّلوا أفكار الإمام الشهيد سيد قطب، ونظرته للمجتمعات الإسلامية الحالية، وموقفه من حكوماتها، ورفضوا منهج الإخوان المسلمين كما وضعه الإمام المؤسس، حسن البنا، في الإطار السلمي التدرجي للتغيير والإصلاح المنهجي والتربوي.
وتنظيم “القاعدة” بدوره، هو عبارة عن انشقاق حصل من بعض العناصر الجهادية التي حاربت الاحتلال السوفييتي في أفغانستان في الثمانينات، على تعاليم عبد الله عزام، والذي رأى بوجوب إنهاء وحل الجماعات المقاتلة في أفغانستان، بعد انسحاب السوفييت من هناك، حيث رأى أسامة بن لادن وبعض مجموعة مأسدة الأنصار، استكمال “الجهاد” ضد “التحالف الصليبي العالمي” الذي تقوده الولايات المتحدة، ضد الأمة الإسلامية، ثم تحول الأمر إلى جهاد “محلي” للعدو القريب، ممثلاً في الأنظمة الحاكمة، التي تعوق هذا “الجهاد” في شقه الدولي.
وتنظيم الدولة “داعش”، هو أحد المفرزات المهمة لتأصيلات فقهية مغايرة وضعها أبو مصعب السوري، ومن قبله أبو مصعب الرزقاوي الأردني، خروجًا من الأول على منهج الإخوان المسلمين – كان من تنظيم سوريا، وحارب في حماة – وخروجًا من الثاني على منهج تنظيم “القاعدة”، الأصلي، الذي وضعه بالأساس، الدكتور أيمن الظواهري، الذي يقود “القاعدة” في الوقت الراهن، وغيره من قيادات الجماعة الإسلامية المصرية، ومنظرين آخرين.
وكذلك هذه الظاهرة لا تقف عند الأحزاب والحركات الإسلامية السُّنِّية، حيث تعرف الجماعات والأحزاب الشيعية هذه الظاهرة كذلك.
فـ”حزب الله” نفسه، هو مخاض عسير من حركة “أمل” الشيعية، في مطلع الثمانينات، وجاء استجابة لحدث جلل، وهو الغزو الإسرائيلي الثاني للبنان – الأول كان جزئيًّا مقتصرًا على جنوب لبنان عام 1978م – وما تطلبه الاحتلال الإسرائيلي للبلد بالكامل من تحولات في مواقف الفصائل والجماعات السُّنية والشيعية على حدٍ سواء.
أزمات الإخوان المسلمين وأهمية تنظيم مصر
عرفت جماعة الإخوان المسلمين بعض هذه المشاهد عبر تاريخها، كان أشهرها موقف التنظيم الخاص من قرار حله من جانب المستشار حسن الهضيبي، المرشد العام الثاني للجماعة، في مطلع الخمسينيات.
كما خرج – كما تقدم – بعض شباب الجماعة ورموز الجيل الثاني منها، واستجابوا لتحولات السلفية الجهادية الحركية في الستينات، في السجون، وفي السبعينات بعد الخروج منها.
ومن بين أهم هذه المشاهد التي رأيناها في جماعة الإخوان المسلمين كذلك، مشهد الأزمة التي أحاطت بالإخوان المسلمين في السودان، في الثمانينات، والتي ترتب عليها انفصال قسم كبير للغاية من التنظيم الممثِّل للإخوان المسلمين السودانيين، الذي كان يقوده في ذلك الحين، الحبر يوسف نور الدايم، وتأسيس جبهة الإنقاذ القومية، على يد الدكتور حسن الترابي، وشاركت في انقلاب البشير الشهير على حكومة الصادق المهدي المنتخبة، في يونيو 1989م.
كان السبب كذلك في هذا الأمر، هو عدم وجود إدارة للخلافات بشكل مؤسسي فوق كلٍّ من الترابي الذي تولى منصب المراقب العام للجماعة لفترة، والحبر نور الدائم، حول الموقف من بعض الأمور التي أراد الترابي أن يعمل على “تحديث” موقف الجماعة في السودان منها، مثل عمل المرأة، وما إلى ذلك.
كذلك لدينا مشهد الانقسام الذي وقع في حركة مجتمع السلم (حمس) التي تمثل إخوان الجزائر، عندما خرج عبد المجيد المناصرة عن قيادة الحركة، في العام 2006م، وأسس كيانًا بديلاً، باسم حركة الدعوة التغيير.
ولنقِس على ذلك أزمات وقعت في فترات قريبة في تنظيم الأردن، وبين تنظيم الأردن وحركة المقاومة الإسلامية “حماس”، بعد اعتماد هذه الأخيرة أنها هي تنظيم الإخوان في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967م، بسبب خلاف على تبعية المخيمات الفلسطينية في الأردن، ومكاتب الخليج الأربعة الخاصة بإخوان فلسطين المحتلة عام 1976م، وكانت تتبع تنظيم إخوان الأردن.
ومن قبل ذلك لدينا انشقاق الشيخ إبراهيم عبد الله صرصور، على الحركة الإسلامية في فلسطين المحتلة عام 1948م، وتأسيسه الجناح الجنوبي لها، في التسعينات الماضية، بسبب خلافات وقعت على أمر سياسي وهو مسألة المشاركة في انتخابات الكنيست حيث رفض الشيخ رائد صلاح وأبناء الحركة الإسلامية فيما يُعرف حاليًا بالجناح الشمالي للحركة، ذلك.
في كل الأزمات السابقة، هناك ملمحان رئيسيان، الملمح الأول، البواعث السياسية والتنظيمية وراء غالبية هذه الأزمات والانقسامات، مع عدم قدرة الأطر المؤسسية القائمة على السمو على مستوى القيادة الموجود.
الملمح الثاني، هو أن التنظيم الدولي والجماعة الأم في مصر، كانا هما من حسما هذه الأزمات، بالشكل الذي حافظ على جماعة الإخوان المسلمين الشاملة لكل هذه التنظيمات والجماعات والأحزاب القُطْرية موحدة، ومعروفة الهويات الإقليمية؛ حيث كان مكتب الإرشاد في مصر هو من حسم أزمة السودان، عندما قرر أن جناح نور الدائم، هو إخوان السودان، وحسم الموقف في الجزائر كذلك لجناح بوجرة سلطاني، الذي كان المناصرة قد انشق عليه، واعتبره هو تنظيم إخوان الجزائر.
كذلك الحال في موضوع الحركة الإسلامية في فلسطين المحتلة عام 1948م، وفي حالة الأزمة بين تنظيم الأردن، وحركة “حماس”، كان مكتب الإرشاد في مصر، هو الذي حكم بتبعية المخيمات ومكاتب الخليج الأربع لصالح “حماس”.
وهذا الدور حاكم بالفعل، ويكشف أهميته، في المقارنة بين تأثير دور إخوان مصر والتنظيم الدولي في مرحلة ما قبل الأزمة الحالية لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، وبعد الأزمة؛ حيث إن كل الأزمات التي مرت بها الأحزاب والجماعات الإخوانية القُطْرية، تم احتواؤها قبل الأزمة، بينما الأزمة التي حصلت بعد أزمة الانشقاق في الجماعة الأم في مصر، في تنظيم الإخوان في الأردن، تفاقمت حتى وصلت إلى مستواها الراهن، بإغلاق مكاتب الجماعة الحقيقية، وإفساح النظام الأردني لجماعة أخرى موازية، بنفس الاسم، يقودها عبد المجيد ذنيبات.
مخاطر ما جرى على العدالة والتنمية وتجربته
تبقى الإشارة إلى أن الخسائر المباشرة لتكرار هذه الأزمة في حزب العدالة والتنمية التركي، تكمن في أنه، وطيلة السنوات الماضية، اختفت بالتدريج القيادات التاريخية المؤسِّسة للحزب.
فبجانب جول وأوغلو، تراجع دور علي بابا جان وبولنت أرينتش، ولم يتبقَّ إلا ياسين أقطاي رئيس الكتلة البرلمانية للحزب، وعمر الفاروق قرقماز مستشار أردوغان، وحاقان فيدان الذي يقود جهاز الاستخبارات التركي حاليًا، وثلاثتهم – ربما باسثناء فيدان – لا يمكنهم قيادة الحزب أو الدولة في حال حدوث عارض يغيِّب أردوزغان.
ولذلك، كان الباحث الفلسطيني المقيم في تركيا سعيد الحاج، محقًّا عندما عبر عن ذلك بقوله، إنه بغض النظر عن توصيف ما حصل ويحصل وعن أسبابه “فإنه غير صحيٍّ أبدًا على مسيرة العدالة والتنمية، على مستوى حمايته من التفرد في القرار و/ أو فقدان الانسيابية في الانتقال القيادي بعد أردوغان، إذ لا قيادات وازنة تماثل ثقل هؤلاء موجودة في الجوار!”.
مثل العرض السابق، مرورًا سريعًا على قضية ربما هي الأهم في تاريخ الجماعات الإسلامية الحركية، منذ تأسيسها في الربع الأول من القرن العشرين، لجهة العوامل والأسباب.
وفي حقيقة الأمر، فإنه لا يمكن الحديث عن معالجة لهذه المشكلة، لأن الأسباب كامنة في صُلب المكوِّن الفكري والأيديولوجي الذي قامت على أساسه هذه التنظيمات.
وربما كان الوحيد الذي استطاع إحداث استثناء لهذا الوضع، وقام بتوظيف المؤسسية بشكل سليم لمعالجة أزمة حقيقية كادت أن تعصف بإخوان مصر قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011م، كان المرشد العام السابق للجماعة الأستاذ محمد مهدي عاكف، خلال أزمة تصعيد الدكتور عصام العريان إلى عضوية مكتب الإرشاد في العام 2008/2009م.
ولكن، وحتى ولو كان عاكف الذي له الكثير من السوابق غير المألوفة من قرارات تاريخية، مثل عدم التجديد لولاية ثالثة في منصبه، وترك المجال لاختيار مرشد جديد بالانتخاب على حياة عين مرشد سابق، في واقعة هي الأولى من نوعها في تاريخ الجماعة في هذا المنصب، فإنه يبقى أن عاكف قد استند فيها إلى شعبيته وكارزميته في التعامل مع الأزمة، وأنه في النهاية يبقى هو وقراراته بمثابة استثناء!