أول ما يتبادر إلى الذهن عند ذكر دول الخليج، الثراء والاحتياطيات المالية الضخمة، حيث كانت تشعر بأريحية مطلقة في التوسع بالإنفاق وسداد العجز المالي من خلال السحب بكل يسر دون أن تتأثر أي من سياستها المالية، إلا أنها وبعد انخفاض أسعار النفط ابتداءً من منتصف عام 2014 أوقفت السحب من احتياطياتها المالية وآثرت اقتراض الأموال إما من البنوك المحلية أو من خلال إصدار سندات سيادية وبيعها في الأسواق المالية المحلية والعالمية.
فلماذا تقترض دول الخليج ولديها احتياطيات مالية ضخمة؟ خصوصًا إذا علمنا من إحصاءات معهد صناديق الثروات السيادية، أن إجمالي موجودات الصناديق الخليجية يبلغ حاليًا نحو 2.67 ترليون دولار أي أكثر من 37% من إجمالي موجودات صناديق الثروات السيادية العالمية، ومن بين أكبر عشرة صناديق سيادية في العالم توجد أربعة خليجية تعود للسعودية والكويت وقطر والإمارات، ويمثل صندوق أبو ظبي للاستثمار المملوك لحكومة إمارة أبو ظبي ثاني أكبر صندوق سيادي في العالم بعد صندوق التقاعد الحكومي النرويجي وتقدر موجوداته بنحو 773 مليار دولار.
قطر تصدر سندات سيادية
حصلت حكومة قطر على قرض مصرفي بقيمة 5.5 مليار دولار جرى استكماله في يناير/ كانون الثاني الماضي وفوّضت الحكومة تسعة بنوك للقيام بمهمة إصدار سندات سيادية بقيمة المبلغ المقترض بشريحتين أحدهما لأجل خمس سنوات والأخرى عشر سنوات، والبنوك التي تتولى عملية الإصدار هي بنك أوف أمريكا وميريل لينش وباركليز وإتش إس بي سي.
وكانت السعودية قد أعلنت سابقًا أنها ستقترض 10 مليارات دولار من السوق العالمية وأن الإصدار هو لقرض أجله خمس سنوات، علمًا أنها المرة الأولى منذ ربع قرن التي تقترض فيها السعودية من الخارج.
بالمجمل فإن الدول الخليجية بدأت منذ السنة الماضية الاقتراض والاستدانة لسد العجوزات المالية الكبيرة في موازناتها المالية والناشئة عن التراجع الحاد في أسعار النفط، فبحسب تقارير إن دول الخليج ستضطر للاستدانة والاقتراض بما يزيد عن 200 مليار دولار في كل سنة في حالة إذ استمر سعر برميل النفط عند حدود 50 دولارًا للبرميل، وإذا واصلت حكومات دول المجلس إنفاقها المالي العام بالمستوى المرتفع، وفي حال قررت بعض دول المجلس ألّا تسحب من احتياطياتها المالية.
لماذا تقترض دول الخليج؟
في بيان الميزانية العامة للسعودية للعام المالي الحالي 2016 ظهر أن إجمالي الإنفاق المقدر هو 840 مليار ريال وأن حجم الإيرادات التقديرية هو 513 مليار ريال وبعجز سيبلغ 327 مليار ريال أي ما يعادل 87 مليار دولار، وهذا العجز تنوي الحكومة السعودية تغطيته من خلال الاقتراض، علمًا أن المملكة لديها احتياطي يبلغ 2.289 ترليون ريال أي ما يعادل 610 مليار دولار حسب نهاية شهر شباط/ فبراير الماضي، وتشمل هذه الاحتياطيات ذهب نقدي وحقوق سحب خاصة والاحتياطي لدى صندوق النقد الدولي ونقد أجنبي وودائع واستثمارات في أوراق مالية في الخارج، فلماذا لا تقوم بتسييل الاحتياطي الموجود لديها لسد العجز؟
في البداية الشركة أو المؤسسة تنوي الاقتراض لأمور إيجابية، فمن غير المنطقي أن تستدين شركة ما أمولًا وتنفقها على الملذات مثلًا، فإما أنها تنوي التوسع في خطوط الإنتاج في إطار خطة مستقبلية لها أو لتحسين وضعها المالي فيما لو كان تعاني من خلل مالي، والدولة لا تعدو عن هذا الوصف تمامًا فهي من خلال سياستها المالية تهدف للإنفاق الجاري والاستثماري في قنواتها المخصصة والموضحة في الميزانية المالية، فإما أنّ لديها خططًا مالية تسعى من خلالها إلى إقامة مشاريع تنموية لخلق فرص العمل وتوظيف المواطنين والاستخدام الأمثل للموارد المتاحة في البلاد، أو أنها تعاني من خلل مالي أدى لتكبدها ديونًا لأسباب عديدة مثل خوض حرب، أو الإفراط في الإنفاق الجاري على المعاشات والأجور والدعم الإجتماعي، وفي كلتا الحالتين تقترض الدولة وهي تضع نصب عينيها أن هذا القرض سيتطلب عمل وإنتاج ومراقبة قنوات صرف المال للتأكد أنها ستكون قادرة على السداد في مواعيد الاستحقاق.
ما حصل في الدول الخليجية بعد تلقي صدمة انخفاض أسعار النفط على ميزانياتها المالية، عجز مالي غير مسبوق وهي غير راغبة بتخفيض مستوى المعيشة والدخول من خلال سياسات تقشفية، فقررت السحب من الاحتياطيات المالية فتقلص نتيجة السحوبات المستمرة، إذ قصرت إيرادات الخزانة العامة عن تغطية النفقات، فانخفض احتياطي السعودية مثلًا 15.3% في العام 2015 عن عام 2014 فبلغت قيمته 610 مليار دولار مقارنة بـ 632.8 مليار دولار وإذا استمر الانخفاض على هذه الوتيرة سينفذ الاحتياطي في غضون سنوات.
لهذا بادرت العديد من دول الخليج بتطبيق سياسات مالية لم يعتد عليها الشعب من قبيل فرض الضرائب بما فيها ضريبة القيمة المضافة، ورفع أسعار المحروقات في الأسواق المحلية إذ تعتبر أسعار المحروقات في دول المجلس من البلدان الأرخص في العالم، ودخلت في خطط مالية بعيدة المدى من أجل التخلص من إدمان النفط وتنويع مصادر الدخل من الاستثمارات كما ظهر مؤخرًا في رؤية السعودية 2030.
لذا فإنه ليس لدى الدول الخليجية خيارات كثيرة في ظل المرض “الهولندي” الذي كانت تعاني منه ميزانياتها المالية، فخيار ضخ المزيد من النفط لم يعد مجديًا لأن سعر برميل النفط انخفض كثيرًا، أضف أن سياسة التسهيل الكمي غير واردة لأنه سيكون لها عواقب وخيمة على معدلات التضخم، وخيار السحب من الاحتياطي أثبت عدم نجاعته لأن أسعار النفط لم تعاود الارتفاع وبالتالي سيؤدي استمرار السحب منها لاستنزافها، فلم يبق أمامها سوى الاقتراض إما محليًا من البنوك المحلية أو إصدار سندات سيادية وبيعها في الأسواق المحلية والعالمية، مقابل تحسين السياسات الاقتصادية المتبعة من أجل ضمان القدرة على السداد في مواعيدها المستحقة مع العلم أنها سنداتها شبه مضمونة لما تملكه من احتياطيات نقدية وثروات استراتيجية وفيرة كالنفط أهم سلعة استراتيجية في العالم.