ترجمة وتحرير نون بوست
من المسلم به على نطاق واسع اليوم إن التقدم التكنولوجي، خصوصًا ذاك الذي يتضمن جعل الآلات أكثر شبهًا بالبشر، كالروبوتات أو الذكاء الاصطناعي، سيخلق جيلًا من العاطلين عن العمل، ولن يعمل إلا على تدمير المزيد من فرص العمل في المستقبل؛ فالثروة ستتدفق على أولئك الذين يمتلكون الآلات، وليس إلى أيادي من يُعرفون اليوم باسم الطبقة الوسطى.
ولكن هناك بعض الأخبار الجيدة بالنسبة للبشر، فعلى الرغم مما تقدم، الدليل على قضاء الآلات على الوظائف البشرية مازال هشًا، حيث يمكننا أن نتكيّف مع عصر التكنولوجيا الحديث إذا ما ركزنا جهودنا على ذلك.
يصف إريك برينجولفسن وأندرو مكافي من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ما يحصل اليوم باسم “فك الارتباط الكبير”؛ فوفقًا لهما، التقدم في الإنتاجية، الذي يعود أساسًا لتطور التكنولوجيا الرقمية، والنمو الاقتصادي الناجم عن ذلك، لم يعد مترافقًا أو مسببًا لازدياد عدد العمال أو ارتفاع الأجور، “العصر الآلي الثاني يختلف عن العصر الآلي الأول، حيث شهدنا استمرارًا في الاتجاه طويل المدى لوفرة المواد، ولكن انخفض الطلب على اليد العاملة أكثر من أي وقت مضى”، قال مكافي لصحيفة هارفارد بيزنس ريفيو.
ولكن مع ذلك، يشير الاقتصادي روبرت أتكينسون، الذي يرأس مؤسسة تقنية المعلومات والابتكار، بأنه لا يوجد أي “فك ارتباط كبير”؛ فالتوظيف يتدنى بالتوازي مع انخفاض عدد السكان العاملين، “الإنتاجية والعمالة لم تكونا مرتبطتان أساسًا”، كما يشير أتكينسون، وهنا قد يكون من الأجدى دراسة العلاقة بين الإنتاجية والبطالة، بدلًا من التوظيف، ولكن العلاقة السلبية بينهما تبدو ضعيفة أيضًا.
ولكن ماذا عن توقف نمو الدخل؟ يقول أتكينسون بأن هذا الأمر لا علاقة له أيضًا بزيادة الإنتاجية، لأن توقف نمو الدخل المتزايد ناجم عن اطراد انعدم المساواة داخل المهن، وليس لأن التكنولوجيا قضت على فرص العمل في مهن الأجور المتوسطة، “لنأخذ مثالًا عن كرة السلة المحترفين، فالتفاوت في الدخل هناك لم يتزايد جرّاء قضاء التكنولوجيا على اللاعبين متوسطي المهارة، بل جرّاء عوامل الاقتصاد السياسي، كدخول الوكالات الحرة ضمن هذا النطاق”، كتب أتكينسون.
الجدير بالذكر هنا، بأن الأشخاص الذين يقبعون على قمة هرم توزيع الدخل ليسوا جميعهم من قطاع المصارف أو التكنولوجيا؛ فحوالي 7% من نسبة الـ1% الذين يكسبون أعلى الأجور هم من المحامين، والأطباء يشكلون 7% أخرى، والعاملون في مجال التأمين والعقارات يشكلون 3% أيضًا من هذه النسبة، ووفقًا لمقال نُشر مؤخرًا من قِبل جوناثان روثويل، الباحث في معهد بروكينجز “العاملون في مجال خدمات طب الأسنان ضمن قائمة الـ1% لأعلى الأجور يفوقون بخمسة أضعاف العاملين في مجال خدمات البرمجيات ضمن هذه القائمة”؛ لذا فإن التدخل التكنولوجي لا يفسّر سبب وجود أصحاب هذه المهن ضمن قائمة أعلى الأجور، كما لا يفسر انعدام النمو ضمن عمال الدخل المتوسط.
قد يقول قائل بأنه حتى لو لم تقضِ التكنولوجيا على الوظائف أو تعترض نمو الدخل اليوم، إلا أنها ستعمل على ذلك مستقبلًا، عندما تصبح الآلات ذكية بما فيه الكفاية لأداء معظم وظائف الإنسان، ويمكننا أن نجد إشارة إلى هذه القضية في الورقة البحثية التي قدمها كارل بينيديكت فراي ومايكل أوزبورن في عام 2013، والتي أشارا ضمنها بأن 47% من إجمالي العمالة الولايات المتحدة تعاني من خطر “أتمتة” مجالات متنوعة من العمل مثل قيادة الشاحنات والكتابة القانونية.
رد أتكينسون على هذه الحجة هي أن “أصحاب الروبوت” الذي سوف يجنون غالبية الفوائد المالية الناجمة عن الأتمتة، سوف يحتاجون لإنفاق مالهم على سلعة أو خدمة معينة، ومن المرجح أن يسعوا لإنفاقه على سلعة أو خدمة تتضمن لمسة إنسانية، “يمكن للإنتاجية العالمية أن تزداد بمعامل قدره 50 دون أن تنفد السلع التي ينفق عليها الناس أموالهم، انظروا مثلًا للأمور التي ينفق ضمنها ذوو الدخل العالي أموالهم، كالحصول على إجازات أجمل، منازل أكبر، المزيد من وجبات المطاعم، والمزيد من الترفيه مثل الحفلات الموسيقية والمسرحيات، وعلاوة على ذلك، وإذا أصبحنا في أي وقت من الأوقات بهذا الغنى، ستنخفض ساعات عملنا جرّاء ذلك من تلقاء نفسها”، كتب أتكينسون.
حتى الآن، ما زال الأشخاص من أصحاب الدخل العالي ينفقون النصيب الأكبر من دخلهم على التعليم، الخدمات الشخصية، السلع الفاخرة المصنوعة يدويًا، والتأمين، وحتى فراي وأوزبورن يوافقان على أن المهن التي تتضمن مهارات “إقناع”، كما هو الحال في بيع بوليصة تأمين، لن تخضع للأتمتة في أي وقت قريب، وذات الأمر ينطبق على الوظائف التي تتضمن صناعة يدوية متقنة وماهرة وفريدة من نوعها.
غاية أتكينسون هي إقناع المنظمين وصناع السياسات بأن النمو الإنتاجي الذي تحفزه التكنولوجيا يجب أن يتم تشجعيه، لا قمعه لصالح إبقاء الناس يعملون في وظائف غير مطلوبة حقًا ضمن الاقتصاد المتطور، قد يبدو هذا الأمر للوهلة الأولى وكأنه حجة داروينية بدائية؛ فما هو مصير الأشخاص الذين سيطردون من عملهم في نهاية المطاف؟ للمفارقة، الحالة الوحيدة التي يمكن من خلالها السماح للآلات بالسيطرة على صناعات بأكملها وإثراء أصحابها دون إزعاج السلم الاجتماعي، هي استثمار الحكومات في تدريب الناس على المهن القديمة؛ فأصحاب الآلات الأثرياء سيحتاجون إلى أشخاص لصنع المنتجات الحرفية التي سيسعون لابتياعها، كما ستشتد الحاجة لوجود أشخاص يصلون بصناعات الخدمات إلى مستوى جديد كليًا من الاهتمام الشخصي لا يمكن للآلات أن تصل إليه، فضلًا عن الحاجة لأشخاص يقدمون أشكالًا من الترفيه لا تستطيع الآلات أداءه، فراقصات الباليه وعازفو الموسيقى الكلاسيكية قد يجدون أنفسهم فجأة من أشد المطلوبين في سوق العمل المستقبلي.
أخيرًا، الأمر لا يتعلق بتوفير أشخاص يتمتعون بشهادات جامعية أكاديمية من خلال إتاحة مجانية التعليم؛ فوفقًا للمفوضية الأوروبية، حوالي 40% من العمال يشعرون بأن قدراتهم تتجاوز ما يتطلبه منهم عملهم لأنهم يحوزون شهادت تعليم عالية؛ فالمسألة إذن تتعلق بالتوفيق بين المهارات ونمط الطلب المتغيّر، المدفوع بتغيّر التكنولوجيا، وحاجة الناس ليشعروا بإنسانيتهم في عالم يضج بالآلات.
المصدر: بلومبيرغ