لم يكن مقالنا الأخير على نون بوست عن حيثيات استقالة السيد أحمد داوود أوغلو من منصب رئاسة الوزراء مفصلًا بشكل كاف ليسّد سوء الفهم الذي حدث لدى كثير من القراء الذين تابعوا فحواه، لقد تلقينا ملاحظات كثيرة مفادها أننا انحزنا إلى البوفيسور داوود أغلو في تحليلنا للحدث أكثر من الرئيس أردوغان، خصوصًا حينما حاججنا بأن مواقف كهذه تعزز توجه الحكم في تركيا إلى نمط الديكتاتورية وتقوض فاعلية مؤسسات الدولة وتتسبب في خُسران طاقات مؤثرة على غرار البروفيسور أحمد داوود أوغلو إذا ما همشت الرأي المخالف داخل الحزب، فضلًا عن الصادر من خارجه، لذا كان لزامًا أن نوضح شيئًا ضروريًا لكل قرائنا المتابعين.
لو كان أحدنا مكان الرئيس أردوغان وفكر بمنطق الدولة والأمن لفعل تمامًا ما فعله الرئيس وربما أكثر
أولًا، نحاول في كل ما نكتب، قدر الإمكان، أن نكتفي بالتحليل الأكاديمي الموضوعي البعيد عن أي عواطف وتحيزات خصوصًا في موضوع لا ناقة لنا فيه ولا جمل كما يُقال، إذا ما انحزنا لهذا الطرف أو ذاك في بلد نقيم فيه كضيوف عابرين، ثانيًا، إن التعاطف الكبير الذي لاقاه البروفيسور من قِبل جمهوره من الأتراك وغير الأتراك مفهوم ونلتمس له السبب، لكن لو كان أحدنا مكان الرئيس أردوغان وفكّر بمنطق الدولة والأمن لفعل تمامًا ما فعله الرئيس وربما أكثر، فلا تزال تركيا تعيش مرحلة انتقالية من الحكم والديمقراطية ومن التحديات الأمنية الداخلية والتوازات الخارجية بالأساس، وهي بحاجة إلى رجل قوي وحاسم جدًا، سياسي متمرس يتجاوز كل هذه التحديات ويضمن لشعبها استقرارًا سياسيًا وأمنيًا، رخاء اجتماعيًا، وتنمية اقتصادية مستدامة تمهد في المستقبل لدولة مؤسسات متينة على النمط الحديث، قد يوافق كثير من الأتراك هذا الطرح لطالما ارتبطت مفاهيم الديمقراطية وما جاورها بالثقافة السياسية لأهل البلد المعني بالدراسة والتحليل، إذ لا يُخفي كثير من الأتراك تمسكهم بشخص الزعيم بل إن من الأتراك من أطلعني مرة هنا أن مصير بلاده سيكون مجهولًا ومظلًما إذا ما رحل الزعيم أو قُتل، ففكر الدولة الحديثة بمؤسساتها المتينة على النمط الغربي لم يرس دعائمه بعد في الوعي الجمعي للشعب التركي بعد، فحتى المناهضون للرئيس أردوغان من العلمانيين الأتراك لا يخفون ولعهم الشديد بمؤسس الدولة مصطفى كمال أتاتورك، بل وإن منهم من يتمنى عودته ليخلصهم مما وصلوا إليه من سوء.
الشاهد من القول أن الثقافة السياسية للمجتمع التركي لا تزال رغم عمليات التحديث والعلمنة المستمرة تدور حول شخصية الزعيم المخلص ولم تُرس دعائمها بعد حول المؤسسات كما هو دارج في الغرب.
لقد أوضحنا في مقالنا السابق الأسباب التي تجعل من الرئيس أردوغان يتجه بالدولة إلى النظام الرئاسي وحصرنا أغلبها في التحدي الذي يواجه البلد بما يُسمى بالكيان الموازي أو الدولة العميقة، جماعة فتح الله غولن المتغولة والمتوغلة في كافة قطاعات الدولة والمجتمع والتي تتلقى دعمًا من الغرب والولايات المتحدة بالأساس، هذا الغرب الذي يقدم تركيا الحديثة للعالم الإسلامي وحزب العدالة والتنمية بالضبط كمثال نموذجي “للإسلام الأوروبي المعتدل” الذي ينبغي أن يُحتذى به في بلدانه التي تعرف تناميًا عجيبًا لظاهرة العنف والتطرف والإرهاب، هو نفسه الغرب الذي يتهم الرئيس أردوغان منذ مدة طويلة بالديكتاتورية وانتهاك الحريات والاختلاس والفساد، أو منذ أحداث ساحة تقسييم تحديدًا شهر مايو 2013، والتي عرضتها بالمناسبة السينما التركية المدعومة من الحزب الحاكم، كأحد وسائل القوة الناعمة التي يتبعها الآك بارتي، باعتبارها أحد مخططات جماعة فتح الله غولن، في فيلم حديث عُرض سنة 2015 حمل عنوان Kod Adı K.O.Z يصور صراع الرئيس مع هذه الجماعة.
إنه الغرب نفسه الذي يدعم إرهاب حزب العمال الكردستاني ليزعزع النظام التركي ويرفض وضعه على قائمة الإرهاب، هو نفسه الغرب الذي يضعف تركيا عبر الأزمة السورية ويدعم جماعة فتح الله غولن من واشنطن لتحدث انقلابًا سياسيًا داخل النظام؛ لإفشال تجربة العدالة والتنمية، وتقويض الدور الإقليمي المؤثر الذي صارت تلعبه تركيا منذ عقد ونصف بشكل يخرجها شيئًا فشيء من دائرة المركز إلى الهامش التابع للغرب، معدومًا من أي إرادة سياسية حرة كما كانت أيام الحرب الباردة خلافًا لما نظّر له أحمد داوود أوغلو في “العمق الاستراتيجي” كتابه الأشهر.
كنت شخصيًا أتوقع جدًا أن يخرج علينا بعد الحدث الإعلام الغربي وثلة من الكتّاب الغربيين بل وحتى بعض المسؤولين السياسيين هناك وينعون فقدانهم “لصديق معتدل” من داخل نظام ينحو نحو الفساد والدكتاتورية، كنت أتوقع بشكل مطلق أن يعمل هذا الغرب على استثمار الحادثة ليزرع الشك والفرقة أكثر بين الأتراك أنفسهم.
إنهم يصورون اليوم خروج البروفيسور داوود أوغلو عن المشهد السياسي الرسمي باعتباره خسارة لحليف دبلوماسي لعب دورًا فاعلًا في إحلال جهود السلام في منطقة الشرق الأوسط، وكان أحسن من تعامل مع مشكلة الأكراد العويصة خلافًا لأردوغان الصلب.
أن الذي يجري داخل النظام السياسي التركي في هذه المرحلة ليس أمرًا عابرًا ولا بسيطًا، ولا يبنغي التعامل معه بمجرد أحكام قيمية تُنصف هذا وتعاتب ذاك، وإنما وجب قراءة هذا الحراك في سياقه الإقليمي والدولي أيضًا
لذا فالشاهد من القول، أن الذي يجري داخل النظام السياسي التركي في هذه المرحلة ليس أمرًا عابرًا ولا بسيطًا، ولا ينبغي التعامل معه بمجرد أحكام قيمية تُنصف هذا وتعاتب ذاك، وإنما وجب قراءة هذا الحراك في سياقه الإقليمي والدولي أيضًا، لسنا هنا من دعاة فكرة التآمر والمؤامرات كما لسنا ممن يبرر لتعسف أو دكتاتورية أو زعامات بحجة أولوية الأمن والاستقرار السياسي؛ ولكن من واجب أي كاتب مهتم أو مختص أن يضع القراء أمام الصورة الكاملة للحدث بتحليل جميع جوانبه ليترك لهم حرية القياس والتقدير.