ترجمة وتحرير نون بوست
بغية تأمين القروض اللازمة للحفاظ على استمرارية الاقتصاد اللبناني، كان على الحكومة اللبنانية أن تتخذ قرارًا جريئًا في وقت سابق من هذا العام يتضمن إجراء الانتخابات البلدية في موعدها.
هذا القرار، الذي جاء في ظل تأجيل الانتخابات البرلمانية اللبنانية لأكثر من عامين بسبب مزاعم التهديدات الأمنية، أمّن فرصة نادرة أمام مجموعة ذكية من التكنوقراط والمهنيين غير الطائفيين للانخراط في المشهد اللبناني، حيث ابتدروا حملة تدعى “بيروت مدينتي”، وهي حملة يقودها متطوعون تتضمن ترشيح قائمة كاملة لعضوية البلدية تضم مخططي المدن، مهندسي نقل، خبراء إدارة النفايات، اقتصاديين، ناشطين، وفنانين.
لائحة بيروت مدينتي.
تتمتع المجموعة اليوم بفرصة تاريخية لكسر القبضة الطائفية التي يعاني منها المواطنون والمقيمون في العاصمة اللبنانية على أساس يومي، وفي الواقع، وبغض النظر عن نتيجة الانتخابات التي ستجري اليوم الأحد في جميع أنحاء البلاد، فإن انتخابات بلدية بيروت بالذات، من بين باقي المناطق اللبنانية، ستروي قصة مختلفة.
نظرًا لتحملها العبء الأكبر من مظالم النظام الطائفي الفاسد الذي حكم المنطقة بأسرها على مدى عقود، تعد بيروت في طليعة الحملة العربية العابرة للحدود الوطنية، التي يحاول الشباب العرب المثقفون من خلالها بلا كلل أو ملل إعادة تشكيل علاقتهم مع المؤسسات التي تحكم حياتهم، ويقاومون من خلال قيامهم بذلك النزعة الطائفية القوية والمؤسساتية.
من سرد المعارضة إلى سرد البدائل
بغية التحضير للانتخابات، تمكنت مجموعة التكنوقراط تأمين مبلغ 200,000 دولار خلال أقل من شهرين من حملات التمويل الجماعي، ولا تعد هذه الحركة الأولى في لبنان التي يتم تمويلها من خلال التعهيد الجماعي؛ ففي الصيف الماضي، شكّلت عدة مجموعات من المجتمع المدني حركة “طلعت ريحتكم”، ردًا على الفساد الحكومي المستفز وعدم قدرتها على حل أزمة القمامة الجارية بطريقة مستدامة.
رغم استقطابها لآلاف المواطنين اللبنانيين، وتنظيمها لإحدى أكبر الاحتجاجات غير طائفية في تاريخ البلاد الحديث، إلا أن النخبة الطائفية اللبنانية تمكّنت من استنفاد زخم حملة “طلعت ريحتكم” وتمرير حل مستدام، ولكن بآثار كارثية على البيئة، لأطنان القمامة التي تراكمت في العاصمة.
ولكن حملة بيروت مدينتي تتمتع بأفق مختلف، حيث تقدم الحملة الانتخابية بديلًا ناضجًا وفريدًا وواقعيًا يستند إلى الخبرة المستقاة من حملة طلعت ريحتكم، مما يجعلها مختلفة عن مبادرات وحركات مكافحة الفساد السابقة، والتي كان مصيرها مخيبًا للآمال.
تشكّل هذه الحملة التحدي المدني الأخطر على النظام الطائفي حتى الآن، لأنها لا تواجه الأحزاب الطائفية من خلال سرد معارض مؤقت، بل من خلال سرد بديل ذو مصداقية واقعية لحكم بلدية بيروت على وجه الخصوص، وهي المؤسسة اللبنانية التي تتمتع بموارد هائلة.
لا تقدم بلدية العاصمة تقاريرًا مالية لوزارة الداخلية اللبانية، لذا من الصعب الوقوف على مدى الثراء الذي تتمتع به، ولكن مع ذلك، تباهى رئيس البلدية، بلال حمد، من خلال مقابلة له بأن مؤسسته تمتلك أكثر من 1 مليار دولار كاحتياطيات، وحوالي 250,000 دولار على إيرادات سنوية.
حرب الموارد
بلدية بيروت غنية بالموارد، لذا يمكن للإستراتيجية غير الطائفية داخل البلدية أن تربك الوضع الطائفي الحالي، وتبتعد بحياة السكان بعيدًا عن الحكم الفاسد المتوارث.
في حال فازت حملة بيروت مدينتي بأعجوبة بانتخابات اليوم، فهذا يعني بأن مجموعة غير طائفية ستتمتع بصلاحيات اتخاذ القرار في العاصمة، فضلًا عن امتلاكها لمئات الملايين من الدولارات لتنفيذ مشاريع التخطيط العمراني المبتكر والمستدام بعد عقود من السياسات النيوليبرالية الصارمة التي تسببت بضرر شديد، وفي بعض الجوانب لا يمكن إصلاحه، لتراث لبنان، المرافق العامة، البنية التحتية، ومؤخرًا، البيئة.
ولكن حتى إن خسرت الحملة معركتها الانتخابية، فقد استطاعت مسبقًا أن تظفر بالعديد من الجبهات الأقل حسيّة؛ فالأمر الأهم على الإطلاق، هو التأكد والإثبات الذي برهنت عليه الحملة بأن المجتمع المدني غير الطائفي في لبنان قد بلغ مرحلة النضج سواء في السرد أو في العمل؛ فمن اليوم وصاعدًا، وبدلًا من رد الفعل المعارض، ستعمد الطبقة الوسطى الحضرية المثقفة، والتي كانت أكبر المتضررين من نظام المحسوبية الطائفية، لمحاربة النخبة الطائفية على جبهة الموراد، أحد الأصول الأكثر أهمية للأخيرة.
ومن خلال قيامهم بذلك، يعمد الشباب اللبناني لإعادة تشكيل علاقته مع النظام الذي يحكمه، مكتشفًا الطرق الممكنة، وإلى مدى يمكن أن تكون مُمثلًا في مجتمعه، في الوقت الذي تدافع فيه الأحزاب الطائفية عن سيطرتها على موارد البلاد.
من بيروت إلى بغداد
في الأسبوع الماضي، تسلّق المتظاهرون المناهضون للحكومة العراقية الجدران المحيطة بالمنطقة الخضراء المحصنة في بغداد، وهي منطقة كانت محظورة على العراقيين منذ دخول الاحتلال الأمريكي، كما اقتحم المتظاهرون البرلمان العراقي بعد أشهر من الاحتجاجات في بغداد ضد الطائفية والفساد، وهو الحراك الذي غذاه ورعاه الزعيم السياسي المؤثر ورجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، الذي قاد مقاومة عنيفة ضد القوات الأمريكية في العراق.
بشكل عام، تشهد جميع أنحاء المنطقة العربية ظهور أو إعادة ولادة الحركات المدنية لمكافحة الفساد، ويبدو ذلك واضحًا بشكل خاص ضمن المجتمعات التي عاشت في ظل أنظمة تشاركية غير ديمقراطية بعيد الحروب الأهلية والطائفية الدموية، كما هو الحال في لبنان والعراق.
تواجه الأنظمة الفاسدة في جميع أنحاء المنطقة اليوم وعلى نحو متزايد شكلًا مبدعًا وجوهريًا من أشكال المقاومة، يقوده مجموعة من الشباب المثقفين والمحرومين من العمل، ومن هذا المنطلق، لا يمكن فصل حملة بيروت مدينتي عن المحاولات التي تتجاوز حدود الدولة التي تأمل أن تجيب على سؤال الشباب العربي في مرحلة ما بعد الاستبداد: كيف يمكن للشعوب العربية أن يتحولوا بمؤسساتهم إلى الديمقراطية في ظل المعوقات الاقتصادية والاجتماعية والجيوسياسية؟
المصدر: ميدل إيست آي