كبرت في مدينة متوسطة الحجم في صعيد مصر، أسيوط، في مثل هذا السياق يتعلم الإنسان أن المدينة المحيطة به هي حدود العالم إلى حد ما، يرى الكثير من سكان المدينة أنها مجرد نسخة رديئة من القاهرة التي يحبون الذهاب إليها ويود أغلبهم لو عاش بها، يطلق أغلب سكان مدينتي اسم “مصر” على القاهرة، لا أدري تحديدًا إن كان هذا بسبب إيمان دفين أن مصر قد اختذلت في القاهرة، أم لشعور غير واعٍ بأنهم لا ينتمون لمصر في حقيقة الأمر.
في تلك المدينة، لا تختفي الجامعة من أي سياق أو نقاش، بنيت جامعة أسيوط في خمسينات القرن الماضي، كانت جزءًا لا يتجزأ من أحلام عبد الناصر الماجنة بدولة صناعية تكنولوجية متقدمة، كبرت الجامعة بالتدريج منذ تلك الفترة لتصبح المؤسسة الأكبر في المدينة، كما أنها الموظف الأكبر في المدينة بواقع أكثر من 20 ألف وظيفة، لا أذكر أنني قد عرفت أي أسرة على مدار حياتي لم يعمل أحد أفرادها بشكل أو بآخر في الجامعة.
في مدينتي، يتضح لك بمجرد سيرك في أي شارع من شوارعها أن هذه المدينة تحت السيطرة الكاملة لأساتذة الجامعة، تحتل لافتات الأطباء والمهندسين والمحامين من أساتذة الجامعة واجهات كل مباني المدينة تقريبًا، عندما بدأت في السفر خارج المدينة بدأت أدرك أن هذا الأمر ليس بالطبيعي بالمرة، فأغلب القاهرة على سبيل المثال تسيطر الإعلانات العملاقة والقبيحة على مجالها البصري.
كبرت بشكل شخصي في بيت من بيوت أساتذة الجامعة ذوي الدخل المتوسط، والدي طبيب كان ومازال يقضي أقل القليل من الوقت في المنزل، اعتدت على فكرة عمل والدي الذي لا ينتهي إما في مستشفى الجامعة أو عيادته الخاصة أو المستشفيات الخارجية، عرفت لاحقًا أن المدينة هي في واقع الأمر مركز الرعاية الصحية الرئيسي في الصعيد كله، بالرغم من أن كلية الطب تخرج أكثر من 500 طالب سنويًا من كافة مدن الصعيد، إلا أن الغالبية العظمى من مرضى الصعيد ينتهي بها الأمر متراكمة أمام أبواب المستشفى الجامعي بأسيوط، المستشفى الذي يعالج به المرضى على سلالم المبنى لأن لا مكان به.
بالتدريج تبدأ الحقائق والملاحظات الاجتماعية التي يراها الإنسان من حوله في التحول إلى نسق واضح وسلسلة من العلاقات والأسباب والنتائج إذا نظرنا بدقة، لم يكن وجه مدينتي المحفوف بلافتات أساتذة الجامعة ولا العدد اللامتناهي من الأطباء الذي عرفته في المدينة بالملاحظات الوحيدة، فعلى سبيل المثال كان سيل سكان الريف والمحافظات الأخرى على محطة القطار في بداية اليوم ونهايته ملاحظة أخرى، جماعات من سيارات الأجرة تنتظر أمام محطة القطار لينادي سائقوها قائلين “القصر”؛ يصطلح سكان المدينة على كلمة القصر كاسم للمستشفى الجامعي في نوع من التشبه بقصر العيني في القاهرة، ولا ينتهي الأمر هنا، بل بدأت حقائق ككون مدينتي هي الأغلى في أسعار السكن على الإطلاق في مصر في أخذ معنى جديد.
كبرت وبدأت في تعلم العلوم الاجتماعية، تعلمت أن الواقع الاجتماعي شديد الترابط ولا يمكن فهم جزء معين منه دون سياق أوسع، زرت الكثير من المدن ورأيت الكثير من الاختلافات عن مسقط رأسي، من كافة المدن التي زرتها لم أر مدينة أخرى تشبه أسيوط مثلما تفعل المنصورة، عرفت لاحقًا أن الظروف بينهما شديدة التشابه، مدينتان تمثل الجامعة قلبهما، تمثل الهيئة التدريسية للجامعة النخبة التي لا يقاربها أحد، وتمتلئ محطات القطار في المدينتين بالمرضى الريفيين الفقراء الآتين للبحث عن العلاج في المستشفيات الجامعية.
كلتا المدينتين خاليتين من أي نشاط اقتصادي حقيقي سوى السوق العقاري الخيالي الأسعار، والخدمات التي يقدمها أساتذة الجامعة من الاستشارات الطبية والهندسية والقانونية، ويمكن لأي إنسان بمجرد سيره في المدينة أن يعرف أن أساتذة الجامعة هؤلاء هم من يسيطرون على السوق العقاري في ذات المدن بلا منازع، فكما تنتشر أسماؤهم على لافتات شديدة القبح تكاد تخفي واجهات المباني المعلقة عليها؛ تنتشر أسماؤهم بقبح أكبر على أسوار قطع الأرض التي تعد للبناء وعلى اللافتات المعلقة على مشاريع البناء الجارية، هذا بطبيعة الحال دون ذكر لوحات الرخام المكتوبة بأخطاء نحوية وخط عربي قبيح لتصف المباني القبيحة بأنها “برج” أو “فيلا” الأستاذ الدكتور فلان العلاني.
تحدث ماركس في كتابه الأشهر “رأس المال” عن طبقة اجتماعية صغيرة تعرف بـ”البورجوازية البائسة” أو “البورجوازية الصغيرة”، وهي طبقة صغيرة الحجم جدًا من ذوي المصالح الاقتصادية المتوسطة في المدن، تتسم هذه الطبقة بولائها لنفسها قبل كل شيء، إلا أنها وبولائها لنفسها تعمل على ترسيخ الوضع الاقتصادي والاجتماعي على ما هو عليه بكل ما به من مظالم وانعدام العدالة، ينتهي الأمر بترسيخ سلطة البورجوازية الحقيقية المسيطرة على الإنتاج الحقيقي في البلد، وهي حفنة صغيرة جدًا من أصحاب رؤوس الأموال العملاقة من المتواجدين في القاهرة، لا يدرك أعضاء البورجوازية البائسة أنهم لا يقومون في حقيقة الأمر بأي إضافة حقيقة إلى الاقتصاد، بل إن جل ما يقتاتون عليه هو معاناة أعضاء الطبقات الأفقر، هؤلاء الذين يضطرون لبيع القليل مما يملكون للحصول على علاج في مستشفى خاصة، أو الذين يسكنون العشوائيات لأن رهانات أساتذة الجامعة العقارية في مدن كأسيوط والمنصورة جعلت أسعار السكن فيها من الأعلى في العالم كله.
المخيف في الأمر والذي يمسني كشخص يستعد ليكون جزءًا من المجتمع الأكاديمي، هو أن هذا المرض الطفيلي قد أصاب ما يفترض به أن يكون النخبة العلمية للبلد، يمكن الزعم ولو نظريًا أن أعضاء المجتمع الأكاديمي أو الجماعات العلمية يفترض بهم أن يكونوا الضمير الناطق للمجتمعات التي ينتمون إليها، ففي نهاية الأمر قامت هذه المجتمعات من الأساس بإفراد الوقت والموارد اللازمة لهؤلاء الأفراد للتخصص والدراسة المستمرة، لم يتحدث ماركس أبدًا عن البورجوازية البائسة على اعتبار أن أشخاص مثل الأكاديميين قد ينتمون إليها، لم يستطع ماركس تخيل أن ينتمي أحد سوى أصحاب الأعمال الصغيرة والسماسرة إلى هذه الطبقة، إلا أن الواقع اليومي في مصر ينافي ذلك.
يتفق الكثير من علماء الاجتماع والمؤرخين أن البورجوازية البائسة تمثل محل ولادة الفاشية التاريخي، إذ غالبًا ما تتأثر أعمالهم الصغيرة نسبيًا بالفشل الاقتصادي أكثر بكثير من ذوي رؤوس الأموال الضخمة، وغالبًا ما يؤدي خوفهم ورعبهم من خسارة تفوقهم الاقتصادي إلى اللجوء إلى خطاب جنوني ينادي بالقومية والفاشية، هذا هو ما حدث تحديدًا في ألمانيا وإيطاليا بين الحربين العالميتين، إلا أن في هاتين البلدين دائمًا ما كانت الطبقة الأكاديمية هي المنازع ذو الصوت الأعلى لهذا الخطاب الفاشي، نعم فشلت محاولاتهم كلها، إلا أن مثل هذه المقاومة هي التي جلبت أسماء بحجم حنا أرندت ومدرسة فرانكفورت.
اليوم، أرى الاقتصاد المصري ينهار بسرعة رهيبة، أرى المواطن الأفقر يعاني أكثر من ذي قبل، إلا أنني أرى أيضًا زملاء والدي من أساتذة الجامعة أصحاب المستشفيات والعقارات والمراكز التعليمية يصدحون بالنداءات الفاشية التي تطالب بإعدام الخونة ودعم الاستقرار بالعنف وإعادة المجد المصري، اليوم أرى أساتذة الاقتصاد يتحدثون عن جدوى مشروع قناة السويس الجديدة، وأرى أساتذة علم الاجتماع يتحدثون عن ضرورة إبادة الإسلاميين من المجتمع المصري حفاظًا على القيم التقدمية المصرية.
اليوم أبحث عن الضمير العلمي للمجتمع المصري ولا أرى سوى قلة قد فصلت من الجامعات – ومنهم والدي – أو اختاروا المنفى خارج البلاد بأنفسهم، لا أرى في الجامعات المصرية وأساتذتها سوى عفن المصالح الاقتصادية الصغيرة، لا أرى سوى جثة متفسخة تطلق غازات كريهة تأخذ شكل الحديث العلمي الفارغ.