ترجمة محمود الصيفي
وأخيرًا صدر الحكم بسجن رادوفان كاراديتش 40 سنة، بعدما أدين بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في مذبحة سربرينتسا البوسنية عام 1995م، والجميع يعلم أن رادوفان كاراديتش هو “زعيم صرب البوسنة”، أو “سياسي من صرب البوسنة”، أو “مجرم حرب من صرب البوسنة”، أو “صربي بوسني”، لكن المفارقة حين نتتبع التغطية الإعلامية خلال الـ 20 عامًا المنصرمة، على مستوى العالم، أننا لا نجد ثمة إشارة باعتباره “رادوفان كاراديتش… المسيحي الأوروبي”.
لست هنا بصدد تناول معتقدات كاراديتش ولا تاريخ علاقته بالدين، لكن يكفي التذكير بأنه في 2010م قد وصف تلك المذبحة البشعة التي أشرف عليها شخصيًا، بأنها “عدالة ومقدسة”، هناك حيث قُتل المسلمون بشكل ممنهج وفجرت مساجدهم، بينما كانت أصداء الحروب الصليبية تتردد بشكل صاخب، إلا أن معظم وسائل الإعلام الأوروبية والأمريكية، لم ترغب وقتها – وما زالت لا ترغب – أن تعرّف كاراديتش أو تقدّمه حسب انتمائه الديني، كعادتها عند الإشارة للمعتدين، إذ تكتفي بنسبتهم إلى المنطقة أو الجنسية لا إلى الدين، بينما قامت ذات وسائل الإعلام مرارًا بتعريف ضحاياه على أنهم “مسلمون بوسنيون”، وقد وفّر هذا الأسلوب المتباين ذريعة كافية لغير الصرب أو البوشناق، سواء ممن يعيشون في أوروبا أو أي مكان آخر من العالم، كي ينأى أحدهم بنفسه عما جري هناك قائلًا “لا علاقة لي بهذا”، وهو ردّ فعل متوقع تجاه من ينتمون لبلد آخر أو منطقة مختلفة.
على الرغم من ذلك، إذا جربنا إعادة تعريف شخصية مثل كاراديتش إعلاميًا أو تقديمه باعتباره مسيحيًا، شرط أن يستمر ذلك النمط من التعريف بشكل دائم، فإننا سننتقل حتمًا إلى نطاق مختلف بالكلية داخل إطار الهوية، حيث سنلاحظ أن المفاهيم المتعلقة بالانتماء الشخصي أو المسؤولية الجماعية تخرج من حيز المنطقة أو الدولة القطرية، لتلتصق بجمهور أعرض وأوسع انتشارًا، لمجرد اشتراكهم مع تلك الشخصية في العقيدة أو الدين.
لا شك ساعتها أن رد الفعل المتوقع من المسيحيين حول العالم سيكون التبرؤ من كاراديتش، والتأكيد على أن أفعاله لا تمت للمسيحيين الأسوياء ولا للمسيحية الحقة بصلة، بعبارة أخرى، سيشعر المسيحيون بالانزعاج الشديد نتيجة هذا الربط – وربما أحسوا بالإهانة – لمجرد تصور أن وحشًا مثل كاراديتش يمثلهم بأي شكل.
بنفس الأسلوب تقريبًا، أتصور أن الغالبية العظمى من المسلمين يشعرون بعدم الارتياح – وربما أحسوا بالإهانة – نتيجة التغطية الفعلية لوسائل الإعلام الشهيرة، والتي يتم فيها ربط الإسلام كدين بأعمال داعش.
كما أتصور أن ذات الشعور بالانزعاج والإهانة، سيتكرر حال مطالبة وسائل الإعلام لتلك الغالبية المسلمة بإدانة أعمال العنف التي ارتكبها بعض المجانين في باريس أو بروكسل، بينما لا تشعر هذه الكتلة بأية صلة روحية ولا شخصية تجمعهم بمرتكبي الهجمات، وبنفس المقاربة، أتفهم قلق تلك الغالبية المسلمة وشعورها بالإساءة، إزاء مقترح حظر دخولهم بلدًا ما لمجرد انتمائهم الديني!
إذن فهي سطوة اللغة
نعم، فتأثير كلمة واحدة كفيل بتغيير طريقة استقبالنا للأخبار وبالتالي تفاعلنا معها، وحينما تمتنع وسائل الإعلام عن تعريف كاراديتش بأنه “مسيحي يقتل المسلمين”، ينبغي أن نسأل… لماذا؟!
وحين يصرون في المقابل على تعريف مرتكب حادث ما على أساس ديني، “حصريًا” حين يكون المعنيّ مسلمًا أو مسلمة، فعلينا أيضًا أن نسأل… لماذا؟!
خلاصة القول، إن قصة كاراديتش تفضح النزعة المصلحية الواضحة نحو التعصّب العرقي في وسائل الإعلام الأوروبية والأمريكية، وحين أقرر ذلك فالأمر عندي لا يتعلق بالنسبية الأخلاقية، ولا بالصواب السياسي، إنما يتعلق بمجرد “اتساق المفاهيم والتصورات الأساسية على المستوى المهني والذهني.