كأي شركة خاصة تجمع الحكومة إيرادات تستخدمها في الإنفاق على التكاليف، ومثلما تمر الشركات الخاصة بفترات تزداد فيها النفقات عن الإيرادات تشهد الحكومة أيضًا فترات متشابهة تمامًا.
فقد تود الحكومة خلال إحدى فترات الموازنة أن تنفق على البرامج الاجتماعية والأغراض العسكرية -خوض حرب أو إنتاج سلاح- نقودًا أكثر ما تجمعه من الضرائب ورسوم استخدام المتنزهات العامة وغيرها، وهذا يخلق لديها عجز مالي أو حكومي بمعنى أن ما تنفقه الحكومة أكثر مما تجمعه.
عندما تنفق الحكومة أكثر مما تجمع فإنها تواجه ما يسمى بعجز الموازنة
ولسداد هذا العجز تلجأ الحكومة للاستدانة كما في حالة الشركة عندما تستدين أموالا، ودين الحكومة يسمى “الدين العام” أو “الدين القومي”
“الدين القومي يشير إلى إجمالي النقود التي تدين بها الحكومة للمؤسسات أو الأفراد”
تجمع الحكومة الأموال من خلال عدة طرق منها اقتراض المال من الأسواق المحلية بنوك ومصارف، أو من الأسواق العالمية من خلال إصدار وبيع سندات تسمى سندات الخزانة أو سندات إذنية. وعندما تستدين الحكومة يتعين إنفاق جزء من إيراداتها الضريبية لسداد الفائدة على الدين، ومع زيادة عجز الموازنة تزداد أيضًا مدفوعات الفائدة المقررة على الدين، وينشأ بند في الموازنة يسمى “خدمة الدين العام”.
خدمة الدين العام
تعد خدمة الدين العام في بعض البلدان أهم بنود الإنفاق فى الموازنة العامة، وتتسبب فى رفع عجز الموازنة، وخفض الإنفاق على العديد من البنود المهمة فى الموازنة، مثل الصحة والتعليم والخدمات.
فالدين العام ينشأ أيضًا نتيجة تراكم عجز الموازنة العامة للدولة، عامًا تلو الآخر، مما يتسبب فى أن تقترض الدولة لسد هذا العجز، وينقسم إلى دين داخلى ودين خارجى، على حسب جهة الاقتراض، ويترتب عليه خدمة، وهى تعنى الأعباء التى يتم دفعها كل عام متمثلة فى الفوائد المستحقة على هذا الدين وأقساطه. وعادة ما يقسم الدين العام على أفراد الشعب.
خدمة الدين العام هي الأعباء التي يتم دفعها كل عام متمثلة في الفوائد المستحقة على الدين وأقساطه
فعندما تقترض الحكومة أموالا من المقترضين ببيعهم سندات خزانة تكون ملزمة بدفع فائدة محددة لهم، وما يحدث تحديدًا أن المستثمر يدفع مقابل السند قيمة أقل من القمية الإسمية للسند حيث يساهم الفارق في رفع العائد على السند.
فلو قلنا أن مستثمرًا اشترى سند خزانة من الحكومة الأمريكية تتعهد فيها الحكومة أن تدفع له 10 آلاف دولار في غضون عام تحديدًا، ولكن المستثمر لن يدفع سوى 9524 دولار مثلًا فإنه سيجني عائدًا نسبته 5% من أمواله والبالغة 476.
عندما ترغب حكومة في إنفاق مبالغ طائلة من المال على حرب مثلا لا يمكنها أن تجمع من الضرائب إلا مبلغًا محددًا؛ بعدها يمكنها جمع قدر آخر عن طريق الاقتراض وعندها إن كانت لا تزال راغبة في إنفاق المزيد من النقود فسوف تلجأ لسك النقود.
لو فرضنا أن حكومة ما تريد إنفاق 6 مليار دولار، في حين تبلغ عائداتها الضريبية 2 مليار دولار تستطيع الحكومة عندها اقتراض 4 مليار دولار لاستيفاء المبلغ المتبقي لكن قد يشعر المستثمر بالقلق إزاء ضخامة المبلغ وربما يطالب برفع معدلات الفائدة على السندات أكثر، علاوة على ذلك قد يعترض الشعب على ضخامة العجز كجزء من الميزانية ويصرون على أن تخفض الحكومة نفقاتها، في ظل هذا تلجأ الحكومة إلى اصدار سندات خزانة بمليار دولار ومن ثم تلجأ إلى سك نقود بمقدار 3 مليار دولار كي تتمكن من تغطية نفقاتها، علًما أن الحكومة في هذه الحالة استغلت وضعها بوصفها المحتكر الوحيد لإصدار النقد، وهذا يغذي التضخم ويدفع مستويات الأسعار في السلع ولاخدمات للأعلى.
وقد حدث هذا في الحالة السورية، ففي الوقت الذي تم تدمير البلد وشل عجلة الاقتصاد وجفت مصادر الضريبة بسبب تعطل الأعمال، وفي ظل إصرار الحكومة السورية على استمرار الحرب فإنها تحتاج للمال ولا أحد سيقرضها لإنها تشن حرب على شعبها فإمكانية استعادة الأموال غير مضمونة بتاتًا، فما الذي سيحصل عندها؟ ستقوم الحكومة بطباعة النقود بدون أي تغطية مسبقة لإنتاج السلع والخدمات، وهذا ما حدث بالفعل.
وعادة لا تمر هذه العملية في البلدان المتقدمة التي تتكلف مبالغ كبيرة تفوق قدرتها الضريبية بشكل سهل، بل تلجأ إلى عمليات بالغلة التعقيد لتغطي سطوتها على طباعةالنقود.
هل الدين العام يفقر أجيال المستقبل؟
يعتبر معارضو العجز الحكومي والدين المترتب عليه انه سرقة من أجيال المستقبل التي لم تبصر النور بعد، والفكرة قائمة على النحو التالي: عندما تنفق الحكومة 100 مليار دولار إضافية لإرضاء الناخبين دون تسديد هذا المبلغ من خلال زيادة الضرائب فإن الجيل الحالي سينعم بالمئة مليار دولار وسيشكر الحكومة وينتخبها مرة أخرى بينما سيتحمل دافعو الضرائب في المستقبل هذه التكلفة، وهذا الشيء صحيح وخاطئ في نفس الوقت!
خاطئ؛ بمعنى أن الديون المرتفعة اليوم ستسفر عن مدفوعات فائدة أعلى في المستقبل لإن مدفوعات الفائدة هذه تنتقل مباشرة إلى حوزة الأفراد في المستقبل.
ولكن بالمجمل فإن الدين العام سيؤدي من خلال ظواهر عديدة إلى إفقار أفراد المستقبل، فمثلًا لو أن الحكومة تريد اقتراض أموال من الأسواق المحلية فهي عمليًا تنافس القطاع الخاص الذي يسعى لاقتراض المال من أجل إنشاء المصانع وإنتاج السلع والخدمات وبالنهاية توظيف الأفراد، ولكن دخول الدولة إلى السوق لاقتناص الأموال النادرة سيؤدي إلى قلة الأموال على القطاع الخاص وبالتالي عدم حصول الشركات ورجال الأعمال على أموال لإنشاء المصانع والمعامل وهذا سيضر بالنتيجة بأجيال المستقبل الذين سيرثون اقتصادًا فيه عدد أقل من المصانع والمعدات وبالتالي وظائف أقل وبطالة أعلى وفقر أكثر.
كذلك عندما تحدث الحكومة عجزًا وتريد سداده باقتراض الأموال من المستثمرين لمدة 30 سنة مثلًا، سيجعل هذا البلد أفقر في ذلك الوقت، فالمشكلة أن الحكومة حتى تكون قادرة على جمع المال والفائدة المستحقة على القروض التي استدانتها ستعمد إلى رفع الضرائب بدلًا من تخفيض نفقاتها.
بالإضافة إلى ذلك خيار الاقتراض يؤدي عادة إلى زيادة الإنفاق؛ فمن مخاطر العجز الحكومي أنه يرغّب الحكومة في زيادة الإنفاق عما كانت ستفعله بدون الاقتراض، والإنفاق الحكومي يأخذ الأموال النادرة من أصحاب الأعمال ويوجهها إلى قنوات يحددها مسئولو الحكومة.
والخلاصة أن العجز الحكومي والدين العام يتسببا في إفقار الجميع سواءًا أجيال اليوم أو المستقبل، والسبيل الوحيد لتلافي ذلك هو تخفيف حدة المشاكل المترتبة على العجز والدين العام من خلال تقليل الإنفاق والدخول في سياسات تقشفية حتى تنتهي المشاكل التي أوجدت العجز.