بعد تنحي مبارك احتفلت وسررت كثيرًا، أذكر هذه اللحظات جيدًا، احتفلت بنجاتي ونجاة أهلي وأصدقائي ورفاق الثورة لكن لم احتفل أبدًا برحيل مبارك، بعد ساعتين من التنحي كتبت على صفحتي في الفيسبوك “انقلاب عسكري” بعدها عدلت المنشور لأكتب “نصف ثورة ونصف انقلاب”، وفي اليوم التالي للتنحي استقر رأيي فكتبته “نصف ثورة ونصف انقلاب؛ إما يؤول لثورة شعبية كاملة، أو انقلاب عسكري كامل، أو لأحدهما ثم الآخر”، يومها أجمع الثوار في ميدان التحرير في هذه الليلة على التسليم بدور المجلس العسكري كشريك للثورة وعلى التسليم للثورة المضادة بحصة النصف مع الثورة ليستقر الأمر على شراكة بين الثورة والثورة المضادة بإجماع قوى الثورة – بمختلف أطيافها وألوانها – على قبول خطوة المجلس العسكري.
وبعد ذلك اكتشف الناس خطورة ما حدث فتبادلوا التلاوم والاتهامات بعقد الصفقات مع المجلس العسكري (والحقيقة أن كل المعتصمين في ميدان التحرير منذ 25 يناير وحتى التنحي عقدوا صفقة مع المجلس بالفعل حينما غادروا الميدان وقبلوا بشراكة العسكر في الثورة)، لم يكن هناك وعيًا كافيًا حينها بخطورة الدور العسكري كامتداد لدولة يوليو وجمهورية الضباط التي ثار عليها الناس متأخرين، أيضًا كان لافتًا للنظر رفع علم جمهورية يوليو وغناء النشيد الوطني بنسخته الأخيرة وليس مثلًا نشيد “اسْلَمِي يا مِصْرُ” (نشيد مصر من 1923 إلى 1936)، أو “نشيد الحرية” (نشيد مصر من 1952 إلى 1960)، أو نشيد “والله زمان يا سلاحي” (نشيد مصر من 1960 إلى 1979) ولا حتى “بلادي بلادي بلادي” بنسخته قبل الأخيرة قبل التعديلات التي أدخلت عليه لظروف معاهدة الصلح مع “إسرائيل” فحذفت تعبيرات مثل “مقصدي دفع الغريم وعلى الله اعتمادي، نحن حرب وسلام وفداك يا بلادي”.
كنت أطوف في ميدان التحرير أثناء الاعتصام وقبل التنحي بعد أن استقرت الأوضاع نسبيًا في أعقاب لملمة الجراح من تبعات موقعة الجمل راجيًا المعتصمين أن يختاروا علمًا ونشيدًا وطنيًا يمثل الثورة أو يمثل امتداد لتاريخ الوطنية المصرية ما قبل دولة الضباط وجمهورية العسكر لكن أحدًا لم يكن يفكر في هذه الأمور، حتى العوالم الرمزية والمعنوية ظلت محكومة بسقف الشراكة مع العسكري!
كانت مواقف الشخصيات العامة مربكة لي وبخاصة هؤلاء الذين أعرفهم عن قرب، شخصيات كانت تؤمن بالتنمية المجتمعية كحل مجتمعي وحيد صارت تتحدث باسم الثورة وآخرون كانوا قد انهاروا في معركة الجمل ورجوا المعتصمين أن يرحلوا ويلملموا جراحهم ولا يعيدوا الكرة مرة أخرى حقنًا للدماء صاروا اليوم مغالين في تقدير دورهم وموقفهم، يقولون إن للنصر ألف أب لكن إلى أي مدى كان نصرًا حقًا؟! ولماذا لم يتحمل أحد مسؤولية الهزيمة ويحيلها لفرصة جديدة؟ ولماذا استمر إهدار الفرص طوال هذه السنوات الماضية بلا انقطاع وحتى الآن بلا مسؤولية؟! وكيف ساهمت النخب في خداع الناس وتزييف الوعي بحقيقة الموقف متوهمين أنهم يقودون ثورة ناجحة منتصرة أطاحت بخصومها بالضربة القاضية وحان وقت نزول الرماة من على الجبل واقتسام الغنائم؟! وإلى أي مدى تتحمل النخب المسؤولية عن تضليل جموع يناير سواء شاركت هذه النخب في الثورة المضادة بالفعل أو صمتت عنها فجأة بعد الانقلاب بعد أن كانت ملء السمع والبصر، وماذا عن الخيارات الأخلاقية والمحاسبة الأخلاقية لمواقف هذه النخب السياسية والأكاديمية والإعلامية والثقافية والشبابية وحتى “الثورية”؟ ماذا عن المواقف الحقوقية الغائبة ؟ العدالة الانتقائية؟
هناك أمثلة كثيرة لقضايا وموضوعات من الوعي الزائف على سبيل المثال: الاحتجاج ليس عملًا ثوريًا، والثورة تحتاج لبنية تنظيمية وليس شبكات مفتوحة فقط، والثورة تلزمها قيادة قوية والمبادئ لا تكفي، والثورة لا تنتصر بالقيم والمبادئ والشعارات بل بشبكات مصالح الثورة وتحالفاتها ومخططها ورؤيتها للمستقبل وعلاقاتها، والنشطاء لم يصنعوا الثورة ولا الثورة المضادة بل استخدموا في هذه وتلك لا أكثر، والثورة ليست عملاً بحثيًا ونشاطًا ثقافيًا وحضورًا إعلاميًا عبر الفضائيات ولا يمكن أن تصورها عبر تويتر والفيس بوك، والضجيج لا يحدث التغيير ومعركة الوعي لا تحسم شيئًا إلا في الأذهان، والنضال الإلكتروني سيظل إلكترونيًا والشبكات المترابطة إلكترونيًا أضعف من الحركات المنظمة بشريًا، والثقافة السياسية ليست كتابات الفيس بوك، والشهرة الإعلامية تصنع أبطال من ورق والأكاديميون لا يعرفون الغيب، والنخب السياسية والثقافية والإعلامية ليست بالضرورة أكثر وعيًا وإدراكًا، وانتظار غضب الجماهير يمكن أن يطول للأبد! ولا توجد حلول سحرية سواء كانت سلمية أو عنيفة، ومناشدة المنظمات الحقوقية والنيابة العامة والتعويل عليها تضليل للناس.
يمكن أن تقرأ مراجعة جيدة لموضوعات كهذه مثلًا في كتاب لعنة الألفية الذي يتناول حركات التغيير الجديدة مثل موجات الربيع العربي وكيف قامت على ردات فعل قصيرة الرؤية ولم تمتلك خططًا واستراتيجيات بل اكتفت بالنشاطات والفعاليات مما أفشل غالبها، استبدل النشطاء المواجهة الفعلية بالضغط والاحتجاج، واستبدلوا الفعل المباشر بالتوعية، والنشاط التغييري الحقيقي بالحضور الإعلامي عن بعد، وتحول النضال القائم على مفاهيم التطوع والطوعية لوظائف تدر دخلًا وأنشطة احترافية أو حتى ربحية، وحتى الأنشطة التغييرية تحولت في الفضاء الإلكتروني لخمول حقيقي سلبي وفعالية رقمية غير مؤثرة حتى صارت الثورة عملية مسرحية مملة وقاتمة!
أيضًا لم يكن أبناء التحرير على وعي كافٍ بطبيعة المشهد الإقليمي وارتباط الثورات ببعضها ولم تخرج ثوراتهم في الغالب عن الجغرافيا والتاريخ الاستعماريين بل سلمت بالزمان والمكان الموروث ولم تكن ثورة على الزمان والمكان المفروض علينا بغير اختيارنا؛ فكانت الثورة المضادة أكثر وعيًا بالعمق الإقليمي فجاءت موجتها متزامنة ومرتبة ومنسقة جيدًا، كان هناك محورًا وحلفًا واضحًا للثورات المضادة أما الثورات فلم تكن أكثر من حلقات منفصلة، أخيرًا لم يتبنَ أبناء يناير قضايا المظلوميات في مصر وما أكثرها من سيناء لمطروح والمناطق الشعبية القاهرية وأرياف الدلتا ومهمشي الصعيد والطلاب والعمال… إلخ.
فرق القرآن بين ممارسة النشاط في وقت وسياق معين لغرض خير نبيل وممارسة النشاط ذاته لغرض دنئ، في الآية الكريمة {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} فرق القرآن بين السقاية والعمارة وبين الإيمان والجهاد ورغم أن السقاية والعمارة فعل خيّر نبيل لكنه مبني على أصل مزيف غرضه الظلم والخداع فسماهم القرآن بالظالمين!
{الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴿20﴾ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ ﴿21﴾ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.