مرت العلاقات السعودية السودانية في الآونة الأخيرة بالعديد من المحطات الهامة والحساسة، ابتداءً من التطابق المشترك في الرؤى والتوجهات في مختلف القضايا والملفات الإقليمية والدولية، مرورًا ببعض العثرات التي عكرت صفو الأجواء بين البلدين وما نجم عنها من تراشق إعلامي وسياسي متبادل، وصولاً إلى الحالة الراهنة التي أسماها البعض بـ “الحميمية” حيث شهدت العديد من الزيارات رفيعة المستوى بين الجانبين أفرزت عدة اتفاقيات اقتصادية من المفترض أنها ستساهم بشكل كبير في تحقيق مآرب كلتا الدولتين من ورائها.
الرياض الجريحة من تراجع أسعار النفط العالمي تسعى لتعويض خسارتها من خلال فرص استثمارية ناشئة قادرة على سد العجز الحالي بما يحقق أهداف المملكة في رؤيتها 2030، والتي لم تجد أفضل من السودان صاحبة الموارد الطبيعية الأغنى في القارة الإفريقية لتحقيق ما تصبو إليه.
الخرطوم التي عانت في العقود الأخيرة من أزمات تلو الأزمات، أدخلت اقتصادها غرفة الإنعاش طويلاً دون أمل في إخراجه، فتحت أبوابها على مصراعيها في انتظار الفرصة التي تنتشلها مما هي فيه وتعيد للسودانيين الأمل في مستقبل أفضل، ولم تجد أفضل من الرياض بملياراتها من القيام بهذا الدور، لاسيما بعدما أبدت الخرطوم حسن نواياها تجاه دول الخليج بقطع علاقاتها مع طهران.
“نون بوست” يسعى في هذا الطرح لإلقاء الضوء على الاستراتيجية السعودية الجديدة في السودان في محاولة للإجابة عن أسباب اختيار المملكة للخرطوم تحديدًا كواحة للاستثمارات المستقبلية، وعلاقة ذلك بما تعانيه الرياض من فشل في حسم المعركة في اليمن وسوريا، إضافة إلى محاولة تطويق المد الشيعي في منطقة القرن الإفريقي، وأخيرًا مدى قلق القاهرة من هذا التقارب.
زيارة النعيمي وحزمة من الاتفاقيات
“إن هذه الزيارة هي جزء من تحركاتنا للاستثمار في المنطقة وسنركز على الاستثمار في قطاع التعدين”، بهذه العبارة استهل وزير النفط السعودي، علي النعيمي، زيارته للخرطوم الأسبوع الماضي، التقى خلالها الرئيس السوداني عمر البشير، ووفد رفيع المستوى من الوزراء ورجال الأعمال السودانيين، حيث تباحثوا سبل التعاون بين البلدين في مجالات التعدين والاستثمارات المشتركة، ورؤية المملكة 2030 وأهميتها في التنويع الاقتصادي، بما في ذلك الاستثمارات التعدينية.
وقد تمحورت زيارة وزير النفط السعودي على مشروع التعدين في البحر الأحمر على طول الحدود البحرية بين البلدين، والغني بالموارد الطبيعية الثرية وفي مقدمتها الفضة والذهب، وذلك بحلول 2020 حسبما أقرت الاتفاقيات الموقعة بين الجانبين في فبراير عام 2012 والتي تسمح بالتنقيب عن المعادن في المياه الإقليمية المشتركة بقاع البحر الأحمر، في مشروع أطلق عليه “أطلانتس2″، ويقع في منخفض سحيق بالبحر الأحمر على عمق يزيد على 2200 متر من مستوى سطح البحر، وبسُمك يتراوح من 12 – 15 مترًا.
ومن ثم فقد عقدت اللجنة الدائمة السعودية السودانية المشتركة للاستغلال المشترك للثروة الطبيعية في قاع البحر الأحمر اجتماعًا في الخرطوم، بحضور وزير النفط السعودي علي النعيمي، ونظيره السوداني الصادق الكاروري، لبحث سبل وآليات تفعيل مشروع “أطلانتس 2 “على الشريط الحدودي للبحر الأحمر للبلدين.
جدير بالذكر أنه في 3 نوفمبر 2015 قد وقّعت المملكة العربية السعودية مع السودان أربع اتفاقيات بين الحكومتين في حضور العاهل السعودي والرئيس السوداني بقيمة ملياري وربع المليار دولار، خصصت لتمويل بناء ثلاثة سدود على النيل في شمال السودان، وقد حدد لها خمس سنوات كوقت للتنفيذ، إضافة إلى 500 مليون دولار لتمويل مشروعات المياه واستزراع مليون فدان جديد في شرق السودان.
ومعروف أن السودان يمتلك وحده ما يعادل 45% من إجمالي الأراضي الصالحة للزراعة في الوطن العربي، أي نحو 200 مليون فدان تقريبًا، لم يستثمر سوى 30 مليونًا منها.
إنعاش للاقتصاد السوداني أم إنقاذ للسعودي؟
زيارة وزير النفط السعودي للخرطوم، ومن قبلها حزمة الاتفاقيات الموقعة من زعيمي الدولتين، تضع العديد من علامات الاستفهام حول جدوى هذه التحركات الاقتصادية في هذا التوقيت بالذات.
العديد من المحللين أشاروا أن هناك استفادة مشتركة للجانبين السعودي والسوداني جراء هذه المشروعات الضخمة، منوهين أن الرياض تسعى في المقام الأول للبحث عن قِبلة استثمارية جديدة تعوضها الخسائر الفادحة التي تعرضت لها جراء انخفاض أسعار النفط العالمية، فضلاً عما تتعرض له من استنزاف موارد في اليمن وسوريا، وهو ما دفعها للتنقيب عن بديل يعوض جزءًا من هذه الخسائر، فوقع الاختيار على السودان بصفته الأقرب جغرافيًا والأنسب في الموارد المتاحة، فضلاً عن محاولة تحقيق انتصار ولو نسبي على طهران من خلال إفقادها أحد أهم حلفاءها في القارة الإفريقية.
بداية أشار محمد أبو فاطمة مدير الهيئة الجيولوجية للأبحاث السودانية إلى أن قاع البحر الأحمر غني بالمعادن النفيسة، مؤكدًا أن المنطقة الحدودية المشتركة بين السودان والسعودية بها أكثر من 47 طن ذهب و2 مليون طن زنك و500 ألف طن نحاس و3000 طن فضة وكميات كبيرة من المعادن ذات العائد المادي الكبير.
أبو فاطمة أضاف في تصريحات خاصة لصحيفة “سودان تريبيون” أنه من المتوقع أن تجني السودان والسعودية 20 بليون دولار من مشروع “أطلانتس 2”.
وفي سياق متصل أشار وزير المعادن السوداني محمد صادق الكاروري أن بلاده خصصت 100 موقع تعدين للمستثمرين المحليين والعالميين، مشيرًا إلى أنه ناقش مع السفير السعودي في الخرطوم كيفية استغلال الموارد الطبيعية المشتركة في البحر الأحمر.
أما فيصل المعلا السفير السعودي لدى السودان، فأعلن أن بلاده حريصة كل الحرص على الاستثمار في كل القطاعات في السودان من ضمنها المعادن، معربًا عن أمله أن تركز السودان والسعودية على المضي قدمًا في جهودهما للاستفادة من المعادن التي يزخر بها أعماق البحر الأحمر بطول الشريط الحدودي للبلدين.
أما فيما يتعلق بالجانب السوداني، فقد أكد أستاذ لاقتصاد في جامعة السودان عبد العظيم المهل أن العلاقات السودانية السعودية أصبحت في أحسن حالاتها بعد تعبير الخرطوم عن حسن نيتها للخليج من خلال تغيير دفة سياستها الخارجية من الخرطوم إلى الرياض، معتبرًا أن ذلك من شأنه أن يسهم بقدر كبير في تطور الاقتصاد السوداني إلى الأفضل، وإخراجه من عنق الزجاجة.
وأضاف المهل في تصريحات له أن هناك نحو سبعة مليارات ريال سعودي هي حجم تحويلات المغتربين السودانيين في المملكة العربية بجانب الاتفاقيات والتحويلات الرسمية الأخرى، والتي تمثل العصب الأساسي للعائدات المالية على الاقتصاد السوداني من السعودية، مشيرًا أن ارتفاع الاستثمارات السعودية إلى نحو 22.5 مليار ريال في بعض المشروعات المهمة بالسودان، سيساهم في توفير نحو 370 ألف فرصة عمل في مجال الزراعة والتعدين مقارنة بـ13 ألف فرصة عمل توفرها الحكومة السودانية.
سد الفراغ الإيراني
التحول المفاجئ في العلاقات السودانية الإيرانية لم يكن وليد اليوم، وليس نتاجًا للضغوط السعودية الآنية وحدها، لكن الخرطوم ووفق ما تراه من مواءمات سياسية استشعرت أن تواجدها تحت عباءة دول الخليج أكثر دفئًا لها من التمرغ في أحضان طهران.
في سبتمبر 2014 أغلقت الخرطوم ما يزيد عن 25 مركزًا ثقافيًا إيرانيًا بتهمة التبشير بالمذهب الشيعي، وقتها اعتبر محللون أن هذه الخطوة بمثابة الشارة التي رفعها البشير مغازلاً بها الرياض وأشقائها الخليجيين، بعد مرحلة الصدام التي نشبت بين الجانبين جراء التقارب الشديد بين الخرطوم وإيران، وهو ما أقلق الإدارة السياسية في الرياض مما دفعها لفرض بعض العقوبات على الحكومة السودانية حينها.
ومنذ هذه اللحظة شهدت العلاقات السودانية السعودية مرحلة من النضج الربيعي غير المسبوق، حيث قدمت الخرطوم عشرات المبادرات الإيجابية استرضاءً لدول الخليج، كان أبرزها إعلان السودان مشاركتها في عملية “عاصفة الحزم” العسكرية التي تقودها السعودية في اليمن، ثم قطع العلاقات مع إيران واستدعاء السفير السوداني من طهران إثر إعدام الرياض للقيادي الشيعي الشيخ “نمر النمر”، وهي الأزمة التي ظهر فيها مجددًا انحياز الخرطوم للرياض.
ومن هنا لم تجد السعودية بدًا من تحسين علاقاتها مع الخرطوم، في محاولة لسد الفراغ الإيراني وملئه بالتواجد السني الثقافي والعسكري والاقتصادي، وهو ما دفع الرياض إلى مكافأة السودان بعقد العديد من الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية، فضلاً عن تبادل الزيارات بين البلدين، في محاولة لتقريب وجهات النظر والبحث عن فرص استثمارية وسياسية جديدة في منطقة القرن الإفريقي والتي تعد شريان حياة للرياض.
وتحت عنوان “السودان يبيع إيران لصالح السعودية” نشرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية تقريرًا استهلته بـ “يساعد السودان، إيران منذ سنوات، في تهريب السلاح لغزة، ونُسب للجيش الإسرائيلي مجموعة من الهجمات على قوافل ومصانع أسلحة على أرضها، لكن في تحول حاد أغلق الرئيس السوداني البشير مراكز إيرانية، وطرد الملحق الثقافي معلنًا: “لدينا إستراتيجية جديدة”، فما سبب هذا التحول؟ وماذا بشأن التعاون العسكري بين البلدين؟”.
روعي كايس محرر الشؤون البرلمانية بالصحيفة تناول في تقريره التدهور المفاجئ في العلاقات بين طهران والخرطوم، محاولاً التوصل إلى الأسباب الحقيقية التي دفعت البشير لتغيير سياسته تجاه “الجمهورية الإسلامية”، دون سابق إنذار.
وقد أنهت الصحيفة الإسرائيلية تقريرها بأن هناك ضغوطًا خليجية مورست على الخرطوم لتغيير سياساتها تجاه إيران في مقابل تعويض النقص المحتمل نتيجة غياب التمويل والدعم الإيراني، حيث أكدت أن الرياض تسعى من خلال هذه الخطوة إلى فرض السيطرة على الخرطوم من خلال تمويل المشروعات الاستثمارية، إضافة إلى سد الفراغ الإيراني والذي يعد انتصارًا سعوديًا جديدًا على طهران في القارة الإفريقية في ظل الفشل في حسم المعركة في اليمن وسوريا.
الاستثمارات السعودية في السودان… هل تقلق القاهرة؟
حالة من القلق تسيطر على القاهرة جراء مضاعفة استثمارات السعودية الزراعيّة في السودان لترتفع من 7% في عام 2013 إلى 50% في عام 2015، وهو ما أكدته تقارير أعدتها وزارتا الريّ والزراعة في مصر رفعتاها إلى مؤسسة الرئاسة المصرية، والتي أشارت إلى أن السودان تستخدم كامل حصتها من النيل حاليًا، وفي ضوء حجم الاستثمارات الزراعية السعودية التي تضخ في السودان والتي تتضمن بناء سدود جديدة على النيل في السودان فإنها بلا شك ستهدد بالجور على حصة مصر وأمنها المائي.
خبراء المياه في مصر ينظرون إلى التوسعات الزراعية في السودان كونها أمرًا كارثيًّا، محذرين من الصمت حيال هذه التوسعات والتي من شأنها تهديد مستقبل مصر المائي لاسيما بعد إقامة سد النهضة الأثيوبي والذي أوشك على الانتهاء.
وزير الري والموارد المائية الأسبق الدكتور محمد نصر الدين علام أشار في حديث صحفي له نشر مؤخرًا أن السودان يستخدم كامل حصته المائية حاليًا على الرغم من أنّه يعلن مرارًا عكس ذلك، قائلاً: قبل خروجي من الوزارة في عام 2011، أشرفت على إنشاء ميزان مائي للاستخدامات السودانية لمياه النيل، والنتيجة كانت أن السودان يستخدم كامل الـ 18 مليار ونصف المليار متر مكعب من المياه التي تحددها اتفاقية 1959″.
الوزير المصري حذر من أن أي استثمارات زراعية جديدة في السودان على مياه النيل ستكون خصمًا من حصة مصر، وانتهاكًا لاتفاقية 1959 بين البلدين، مضيفًا أن الأمر يتطلب من المسؤولين في مصر الإسراع في عقد جلسة مفاوضات للهيئة المصرية – السودانية المشتركة لمياه النيل، وطرح المخاوف المصرية من تلك الاستثمارات الجديدة، ووضع النقاط على الحروف مع الشقيقة السودان.