أعلن رئيس جنوب افريقيا جاكوب زوما مساء البارحة وفاة المناضل السياسي والرئيس السابق نيسلون مانديلا عن عمر يناهز 95 عاماً بعد أن صراع مع المرض الذي اشتدّ عليه في السنوات الأخيرة قضاها متردداً بين المستشفى ومنزله معانياً من الالتهاب الرئوي ومشاكل في المرارة حتى وفاته المنيّة مساء البارحة.
الرئيس الافريقي الذي كان يقف على التلفزيون الرسمي لجنوب افريقيا محاطاً بأفراد العائلة ليعلن وفاة مانديلا حيث قال : ” الرئيس السابق مانديلا رحل، لقد ارتاح الآن وفقدت الأمة أشهر أبنائها”، ثم أعلن الحداد وتنكيس الأعلام وأضاف: “لنعبر عن امتناننا العميق لحياة عاشها في خدمة الناس في هذا البلد وفي خدمة الانسانية”.
السياسيّ الجنوب افريقيّ والمناهض لسياسة الفصل العنصري نيسلون مانديلا ولد في الثامن عشر من يوليو 1918 حيث قضى من حياته 27 عاماً في السجن مدافعاً عن حق الشعب في المشاركة السياسية ومتصدياً لكل أشكال العنصرية والفقر وعدم المساواة وسيطرة الأقلية البيض في جنوب افريقيا حتى تحقق ما ناله بالمساواة والحرية وتنّصب رئيساً للبلاد في الفترة ما بين 1994 حتى 1999 ليكمل بعدها نضاله في المؤسسات الخيرية التي أنشئت باسمه حتى مات.
ولد مانديلاً في قرية صغيرة تدعى “مفيتزو” في منطقة ترانسكاي بجنوب افريقا حيث سمّاه والداه دوليهلاهلا، الذي يعني “المشاغب” حيث كان له كثير نصيب من اسمه لاحقاً في مناهضة السلطة الحاكمة التي كانت تمارس سياسة الفصل العنصري بين السود والبيض، والذي استطاع دون كثير من غيره من السود من دخول المدرسة الابتدائية، حيث اختار المدرسون الانجليز له اسم نيسلون لصعوبة لفظ الاسم الافريقي عليهم، ليلتحق بعدها بكلية فورت هاري قبل أن يطرد بسبب مشاركته في الاحتجاجات الطلابية اعتراضاً على سياسة التمييز العنصري .. وهنا ابتدأت قصة نيلسون.
جنوب أفريقيا التي كانت محكومة من قبل أقلية من البيض الانجليز كانوا يمارسون سياسة الفصل العنصري والحرمان من أبسط الحقوق للأكثرية السود كرّس نيسلون حياته لمكافحة هذه السياسة فانضم الى حزب المجلس الوطني الافريقي المعارض للتمييز العنصري عام 1944 ثم ساهم في تحويل حركة جماهيرية شبابية الى ضمّ الأفارقة بكل فئاتهم تحت ” اتحاد الشبيبة” الذي كان تابعاً للحزب.
ثم أخذ اسم مانديلا يبرز أكثر في عام 1952 مع اطلاق الحزب “حملة التحدي” التي أشرف عليها مانديلا وطاف البلاد محرضاً ضد قوانين التمييز العنصري حتى صدر بحقه حكم السجن مع وقف التنفيذ ومنع من مغادرة جوهانسبرغ، اتخذها نيسلون فترة لتحويل فروع الحزب الشبابية الى خلايا للمقاومة السرية حتى جاءت أحداث مذبحة شاريفيل في عام 1960 حيث سقط مئات القتلى باطلاق الشرطة النار على المتظاهرين ويحظر على اثرها نشاط حزب المجلس الوطني الديمقراطي.
اعتقل مانديلا لأول مرة في عام 1961 ثم افرج عنه ليقود الافارقة الى ميثاق وطني يوحدهم ويعطي كلاً منهم حقوقه السياسيّة، ثم أنشأ ما عرف على أنه الجناح العسكري الذي نفذّ عمليات ضد مؤسسات حكومية واقتصادية، وغادر الى الجزائر لترتيب دورات لأفراد الجناح العسكري ليعتقل أثناء عودته الى البلاد في الخامس من أغسطس 1962 بتهمة التحريض على العنف و التخريب ومغادرة البلاد بصورة غير قانونية حكم على أثرها بخمس سنوات، ولكن الحكم تمدد الى المؤبد أثناء المحاكمات التي اختار مانديلا الدفاع فيها عن نفسه بنفسه، واستغلال المحاكمة لتسليط الضوء على قضية بلاده السياسية حيث نجح من خلال خطبه باستقطاب اهتمام دوليّ واسع وما لبث أن تحول الى رمز كبير وسجين مقاوم للتمييز العنصري.
ليمضي بعد ذلك 27 عاماً من حياته في السجن مكافحاً للتمييز العنصري حيث رفض خلال هذه المدة عرضين للافراج عنه مقابل تخليه عن مواقفه والعودة الى حياته الطبيعية الا أنه ظل متمّسكاً بمواقفه، بل زاد من نشاطه بمراسلته مع نشطاء آخرين وكتابة سيرته الذاتية في السجن الى أن اطلقت حملة دولية للافراج عنه تكللت بالنجاح في الحادي عشر من فبراير 1990 وسط حرب أهلية متصاعدة حيث خرج في كلمة مباشرة على الهواء، ثم أعلن لاحقاً وقف الصراع المسلح وقاد البلاد الى المفاوضات مع سجانيه السابقين للانتقال بالبلاد إلى الديمقراطية، صار بعدها مانديلا رئيسا لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي الذي فاز في الانتخابات لعام 1994 ليصبح بعدها أول رئيس أسود للبلاد في أول انتخابات متعددة وممثلة لكل الأعراق.
مانديلا الذي شكل حكومة وحدة وطنية لنزع فتيل التوترات العرقية أسس دستوراً جديداً ولجنة للمصالحة والتحقيق في انتهاكات حقوق الانسان حيث اتخذ شكل السياسة الاقتصادية الليبرالية للحكومة، وعرضت إدارته تدابير لتشجيع الإصلاح الزراعي ومكافحة الفقر وتوسيع نطاق خدمات الرعاية الصحية، الا أنه لم يترشح لولاية ثانية بعد انتهاء ولايته عام 1999 حيث أعلن رغبته في التقاعد والتركيز على العمل الخيري ومكافحة الفقر والايدز من خلال مؤسسته الشخصية حيث تلقى أكثر من 250 جائزة منها جائزة نوبل للسلام 1993 و ميدالية الرئاسة الأمريكية للحرية ووسام لينين من النظام السوفييتي.
انسحب بعدها نيلسون تماماً من المشهد السياسيّ و كرّس حياته للعمل الخيري من خلال مؤسسة نيلسون مانديلا التي ركزت على مكافحة انتشار الإيدز والتنمية الريفية وبناء المدارس، ثم أعلن في أيار 2004 رغبته في تخفيف نشاطاته العماة والتمتع بحياة أكثر هدوءاً بين عائلته وأصدقائه بعيداً عن الظهور الاعلامي، لتعلن بعد ذلك الأمم المتحدة في عام 2009 يوم ميلاد مانديلا يوماً عالمياً أول تكريم خاص من نوعه لفرد، ومن أبرز وآخر المناسبات التي ظهر فيها مانديلا على الساحة الدولية هي مساعدته حصول جنوب افريقيا على حق استضافة كأس العالم لكرة القدم لعام 2010 للمرة الاولى في القارة الافريقية.
اذن .. رحل مانديلا وترك لنا كثيراً من آثاره وقيمة العيش لفكرة دون التنازل عنها، ليست وحدها افريقيا من خسر بوفاة مانديلا .. بل العالم كله خسر بوفاة أطول نهر في افريقيا من الكفاح والنضال.