هذا الحوار أجرته صحيفة le temps مع الفيلسوف الفرنسي رافييل ليوجييه يوم 6 يناير 2016 حول الإسلام والأصولية ومستقبل أوروبا، ورافاييل ليوجييه عالم اجتماع وفيلسوف فرنسي متخصص في الشأن الديني، يدعو القارئ من خلال كتاباته إلى التفكير بعمق وتروي ومساءلة الصور النمطية التي يحكمها العمى للوصول إلى الحقائق.
رافييل يحمل في جعبته في هذا الحوار خبرين: الأول خبر سعيد وهو أن حرب الحضارات لن تقع، والآخر سيء وهو أن أوروبا تعاني منذ ستين عامًا من عقدة مجمع السويس التي تتفاقم شيئًا فشيء، وهو ما أدى إلى تراجع حقيقي لفرنسا وأوروبا، يحاول عالم الاجتماع والفيلسوف، والأستاذ في معهد الدراسات السياسية رافييل ليوجييه تجاوز القناعات السائدة من خلال عمل تجريبي يختبر فيه الآراء والحقائق.
صحيفة Le Temps: هل يعود تدهور صورة أوروبا إلى أزمة السويس؟
رافاييل ليوجييه: في عام 1956، قام الرئيس المصري جمال عبد الناصر زعيم دول”عدم الانحياز” (الذين يعتبرون أنفسهم محايدين، لا منحازين، لا مع الولايات المتحدة ولا مع الاتحاد السوفيتي) بتأميم قناة السويس، ولحماية مصالحها التي أصبحت مهددة، اختارت دول فرنسا والمملكة المتحدة مع إسرائيل التدخل العسكري والاستيلاء على القناة بالقوة، رأى الروس في ذلك فرصة مناسبة لكسب تأييد دول عدم الانحياز من خلالهم دفاعهم المستميت عن عبد الناصر حيث وصل بهم الأمر إلى التهديد باللجوء إلى استعمال السلاح النووي.
لقد شهدت أوروبا تقويض حكمها العسكري مقابل صعود تدريجي لنفوذ الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الأولى، أما في أعقاب الحرب الثانية، فقد خسرت تفوقها الاقتصادي بعد إمضاء اتفاقات بريتون وودز، التي أقرت الدولار الأمريكي كعملة للعالم
عندها تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية وللمرة الأولى لم تدعم حلفاءها وتركتهم بمفردهم في مواجهة الاتحاد السوفياتي قائلة بوضوح وببساطة: “لنتوقف عن اللعب، فإننا لن نخاطر بالدخول في حرب نووية من أجل بضع بقايا قوة مستعمرة لم تعد موجودة، عودوا إلى دياركم”.
لقد شهدت أوروبا تقويض حكمها العسكري مقابل صعود تدريجي لنفوذ الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الأولى، أما في أعقاب الحرب الثانية، فقد خسرت تفوقها الاقتصادي بعد إمضاء اتفاقات بريتون وودز(Bretton woods)، التي أقرت الدولار الأمريكي كعملة للعالم، وتفاقم الأمر بعد خطة مارشال التي أعادت بناء القارة من خلال الدولار، لقد انطلقت حركات التحرر من الاستعمار بعد فترة وجيزة من ذلك ولكن أزمة السويس هي في رأيي أقوى مظهر من مظاهر الوعي الجديد الذي أخذ ينتشر في عيون الأوربيين أنفسهم، لم يعودوا مثلما كانوا على الأقل على المستوى الرمزي.
سيناريو مماثل يحدث في عام 2003 أثناء الحرب على العراق
حقيقة أن البشرية تعمل بالدولار سمحت للولايات المتحدة بالإثراء على حساب بقية العالم من خلال تزويد السوق بالعملة وخلق التضخم، لقد أنشأت بورصة معيار الذهب في عام 1944 لتحويل الدولار إلى ذهب، ولكن تم التخلي عنها في عام 1971.
وبالتالي، فإن على الولايات المتحدة أن تجد طريقة أخرى لضمان حضور الدولار بقوة، فتم فرضه كعملة مقابل كل مشتريات النفط بمساعدة السعودية أكبر الدول المصدرة للنفط في العالم والتي قدمت حماية مطلقة للولايات المتحدة، ومن هنا جاء التحالف الذي يبدو بين الولايات المتحدة ودولة تمول الإرهاب، غير منطقي.
ساءت الأمور في عام 2000 عندما طلب صدام حسين تبادل النفط العراقي مقابل اليورو، وتبين أن منتجين ومصدرين آخرين يرغبون في ذلك، غير أن هذه الزيادة الكبيرة في حصة اليورو في المبادلات التجارية العالمية من شأنها جعل المجتمع الأمريكي، وهو الأكثر مديونية في العالم، يواجه خطر الانهيار ربما أسوأ مما كانت عليه في عام 1929، وهكذا، فإن الخطوة الأولى التي اتخذتها الحكومة الأمريكية المؤقتة في العراق تمثلت في استعادة التبادل الإلزامي للنفط مقابل الدولار، وكان ذلك في الحقيقة حربًا على أوروبا.
ومنذ هذا الوقت تطورت الحركة الشعوبية الجديدة، والتي تؤثر في جميع البلدان، عندكم في سويسرا مثلاً أين أصبح الاتحاد الديمقراطي الوسطي “اليو دي سي” تدريجيًا طرفًا مشابهًا للجبهة الوطنية في فرنسا يعني تحول إلى حزب أصولي، يدعي حماية القيم الوطنية “السويسرية الصحيحة” مقابل “الكاذبة والمزيفة”، هذه الشعبوية أينما كانت لا تمتلك برنامجًا حقيقيًا.
عندما تتحدث مارين لوبان على سبيل المثال حول ضرورة الخروج من منطقة اليورو، فإن ذلك ليس لأسباب اقتصادية ولكن من أجل وجود الفرنك كشعار ورمز الوطني، أيضًا تشهد هذه الفترة انتشار مقولة “الأسلمة الزاحفة” التي تزعم أن أوروبا ستصبح إسلامية بعد خمسين عامًا، بينما لم ترتفع نسبة المسلمين في أوروبا في الحقيقة، كما أنه أمر مستحيل من الناحية الديموغرافية، كما بينت في كتاب “أسطورة الغزو العربي – الإسلامي”.
(نظرية “الاستبدال الكبير”: النظرية التي تنبّه من استبدال الشعوب الأوروبية، لاسيما أنها تعاني من ارتفاع كبير في أعداد المتقدمين في السن، بشعوب مسلمة فتيّة، وهذه النظرية قد أرستها الكاتبة البريطانية اليهودية من أصل مصري، جيزيل ليتمان ـ أوريبي، في كتابها “أوريبيا”، وهي عادة ما تنشر كتبها تحت الأسماء المستعارة، “بات ييور” أي بنت النيل في العبرية، أو “يهودية مصرية”، وذلك كما بيّنه “رافاييل ليوجييه” الذي ينتقد هذه النظرية ويفندها)**
بدلاً من الخلافات التي لا يمكن حلها بين الأديان أو الحضارات، تلاحظون في العالم اليوم ثلاثة مواقف أو توجهات دينية تعبر الحدود الطائفية، وتشمل الأولى الروحانية التي تحمل “العصر الجديد المعمم”، وأيضًا البوذية الغربية، والصوفية الجديدة للنخب المغربية المسلمة إضافة إلى اليهود الجدد، أما الثانية فتميز الدول الصعبة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي من أوجهها الكاثوليك والبروتستانت والمسلمون والبوذيون، أما الموقف الثالث فهو الأصولية.
تسود الأصولية عند أولئك الذين لديهم شعور بالتهميش وأن العالم لا يعترف بهم، الذين يعانون من عجز ما أو ما يسميه عالم الاجتماع بيير بورديو “رأس المال الرمزي”، وإذا كان هذا الشعور حاضرًا بصفة أقوى وأكبر لدى المسلمين فذلك لأن المنطقة الشرقية لشمال إفريقيا والشرق الأوسط عانت كثيرًا من آثار الاستعمار، وبالتالي تنشأ في هذا المجال الأصولية المعادية للغرب.
مثل حقل مغناطيسي تخترق الأصولية جميع الديانات: في المسيحية (على سبيل المثال عند البروتستانت الأمريكيين) واليهودية (المتشددين) والبوذية (مثل سري لانكا)، ترتبط هذه المواقف بحجم الإحباط والقمع الديني.
اليوم هناك أصولية إسلامية التي تركز بشكل حصري تقريبًا على العادات، وتذكرنا إلى حد ما بطائفة الأميش في الولايات المتحدة، طائفة رجعية نعم، ولكنها تعارض تمامًا الإرهاب، المساجد التي نريد إغلاقها في فرنسا والعلماء والزعماء والشخصيات المسلمة التي نهاجمها باعتبارها أصولية هي نفسها في مرمى داعش التي تعتبرها عدوها الرئيسي لأنها تعمل على نفس الشريحة التي تعيش سباتًا عميقًا.
أعرف ذلك جيدًا، لقد عملت عليه منذ 13 نوفمبر/ تشرين الثاني مع طلابي، وهذه الأصولية تلقن الأفراد لإبعادهم عن التيار الجهادي والتركيز على كونها إسلامًا محضًا، أن تكون مسلمًا يعني أن تمشي وتغسل أسنانك وتحب وتأكل وترتدي ملابسك مثل المسلم، فقط.
بالنسبة لهؤلاء الإرهاب هو رجس ونجس.
تريد أن تثبت أيضُا أن الجاهديين سنة 2010 لا علاقة لهم أو ابتعدوا بالتحديد عن بالأصولية؟
في هذا العالم المعلوماتي المعولم، خلق الإحباط ما أسميه بالسوق العالمية للإرهاب، تنظيم القاعدة كان مدفوعًا بأيديولوجية تحركه، والإرهابيون في سنة 2001 كانوا غالبًا طلبة في الجامعة، أما إرهابيو 2010 أي إرهابيي داعش بالتحديد فلا علاقة لهم لا بالأيديولوجيات أو بالإسلام عامة.
الإسلام هو دين مثل كل الأديان، ليس عاملاً لا للحرب أو لا للسلام، ليس عنيفًا وليس مسالمًا، إنه محايد، الغرض من الدين هو التعالي عن الحياة الفانية، التوق إلى حياة سامية مع تحمل كل الصعوبات التي نواجهها
إن الانضمام إلى داعش رهين اتفاق على عدد من النقاط والقضايا، إنه عقد كما هو الحال في شركة عابرة للقارات، في المقابل تمنحهم داعش المال والشهرة في مختلف أنحاء العالم.
عندما قمت بدراسة لبروفيلات العشرات من الجهاديين أو مشاريع جهاديين في المستقبل قبل هجمات يناير/ كانون الثاني عام 2015 أجريت مقابلة مع لجنة المراقبة في الجمعية الوطنية حتى قبل مقابلة وزير الداخلية، الذي لم يكن لديه أي معلومات، لقد قلت لهم ما أردده دائمًا: “لا أحد من أولائك الذين تدخلوا (نفذوا عمليات إرهابية) فوق الأرض الفرنسية، انطلاقًا من محمد مراح، وصولاً إلى جهاديي نونبر، لم يتلقوا أي تكوين في علم اللاهوت، أو تدريب مكثف على الممارسة الدينية، إنهم أناس ارتبطوا بالعنف، وهؤلاء الشباب الجهاديون يريدون التعبير عن رغبتهم في معاداة المجتمع، يأخذون بمواقف الأصوليين، ولكنها لا تعدو أن تكون مجرد مواقف، قاسمهم المشترك هو الجريمة، ومشاكل صعبة فى طفولتهم ورغبتهم في التحول إلى قادة، إنهم لا يتكلمون العربية حتى”.
وفي مقابل هذا يعجز مانويل فالس رئيس الوزراء الفرنسي عن اتخاذ قرارات فعالة لأنه مهووس بفكرة صراع الحضارات، حتى إنه يقوم بخيارات خاطئة وسيئة بالنسبة لأمننا جميعًا، عندما أقول هذا فإنني لا أسعى للدفاع عن الإسلام، بقدر ما أريد أن أقول إن القرارات السياسية في مواجهة الإرهاب غير فعالة، لأن المسؤولين لديهم عمى.
الإسلام ليس المحرك للإرهاب
الإسلام هو دين مثل كل الأديان، ليس عاملاً لا للحرب أو لا للسلام، ليس عنيفًا وليس مسالمًا، إنه محايد، الغرض من الدين هو التعالي عن الحياة الفانية، التوق إلى حياة سامية مع تحمل كل الصعوبات التي نواجهها، ثم تتم كتابة الأديان في التاريخ، منذ البداية، ونحن نرى مناقشات داخل الإسلام، وعلماء الدين الذين يقولون إن هناك آيات أساسية، والبعض الآخر يعتبر أنها لا تغطي سوى فترة يجب تجاوزها، هناك الأصوليون الذين يتفقون مع هذه الفكرة، وآخرون من التيار الوهابي أو السلفي الحرفيون الذين يقولون لا، يجب أن نأخذ حرفيًا كل شيء.
نلاحظ مثلاً في نفس السياق أنه إذا أخذنا كل شيء حرفيًا من الكتاب المقدس العبري، فإن الأمر سيكون أسوأ من ذلك بكثير؛ تعدد الزوجات، على سبيل المثال، يقتصر في القرآن على أربع نساء، في حين كان العدد غير محدد قبل الإسلام، الشيء نفسه بالنسبة للعنف اللامحدود باسم الدين في الكتاب المقدس.
هناك عوامل تاريخية أيضًا تعود إلى حملة نابليون على مصر في عام 1798 وفي القرن التاسع عشر، أصبح الإسلام حاملاً للشعلة المضادة للغرب، في هذا السياق، تمت إعادة تفسير القرآن كحافز على شن الحرب ومقاومة الاحتلال، هذا سلوك طبيعي ومتأصل في الإنسان أن يلجأ لمبرر ودافع لأفعاله، أسميها “الرغبة في أن يكون شخص ما” ليس مجرد الرغبة في البقاء على قيد الحياة، بل الرغبة في أن يكون، هذه الرغبة، تحتاج، في مرحلة ما إلى هياكل قد تكون دينية، إلى سردية أو أسطورة ذاتية ولقد تم استخدام الإسلام لذلك.
إن الانضمام إلى داعش رهين اتفاق على عدد من النقاط والقضايا، إنه عقد كما هو الحال في شركة عابرة للقارات، في المقابل تمنحهم داعش المال والشهرة في مختلف أنحاء العالم.
تؤكد أيضًا أن الأصولية الإسلامية تغذت من الفكر الأوروبي الناقد للحداثة (هيدجر، جونغر …)، إذن بشكل ما من نفس الإناء الذي يغذي الفكر الغربي والذي يعتبر أن الثقافات لا يمكن أن تتلاقح.
هذا الخطاب التفاضلي أصبح اللون المهيمن على الساحة الفكرية الأوروبية، إن كتبًا مثل كتب – Eric Zemmour, , Alain Finkielkraut, Renaud Camus – هي الأكثر مبيعًا، وهذا أمر مقلق، لأنه في مرحلة ما سوف ينتخب الناس هؤلاء الذين سيكون لهم رؤية سياسية مقيدة للحرية، هذا هو الخطر تحديدًا وهو ما أسميه “الشعبوية السائلة ” بدون برنامج وسوف تستغل رغم ذلك الآلية الديمقراطية.
لاحظ أن هذا ليس هو الحال في بقية دول العالم، في كندا – ما عدا في كيبيك، الذي يشعر بالحصار لأنه يحاكي فرنسا – في والولايات المتحدة أيضًا، يجب علينا أيضًا أن نقول إن هناك يمكنك التعبير بسهولة أكثر في موضوع ولكن في واقع الأمر يمكن أن يطبق على الجميع.
في الختام، هل من الضروري إقامة شكل من أشكال الحكم العالمي؟
يمكن للمرء أن يتصور مركزيات متعددة مع حماية المصالح المحلية وأفق عالمي يدير الإنسانية جمعاء، أعطي مثالاً سويسرا، التي تحمي الهويات المحلية والإقليمية وتضمن في نفس الوقت التنوع، أنا لا أقول أن نجعل العالم سويسرا عملاقة ولكن يجب أن نأتي بشيء جديد.
يمكن أن تجد الحوار الأصلي هنا