نشرت صحيفة يني شفق التركية، والتابعة رسميًا لحزب العدالة والتنمية التركي الحاكم، أخبارًا تناقلتها وكالات أنباء عدة عن قيام مجموعة من القوات الخاصة التركية، تراوح عددها من 15 إلى 20 جنديًا، بالتوغل في المناطق الواقعة تحت سيطرة داعش في شمال سوريا الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل يوم السابع من مايو، وقد استمرت العملية لمدة أربع ساعات استهدفت فيها القوات قواعد قاذفات الصواريخ التابعة لداعش، فيما أشارت الصحيفة إلى أن العملية أتت بعلم المسؤولين العسكريين الأمريكيين والروس.
كانت ولاية كيليس الواقعة جنوب تركيا والمتاخمة للحدود السورية قد تعرّضت لهجمات من صواريخ داعش مرات عدة على مدار الأشهر الماضية، مما أدى لمقتل حوالي عشرين مواطنًا تركيًا ولاجئًا سوريًا على السواء، وبدء موجة نزوح من المدينة، وهو ما دفع الحكومة التركية في الفترة الأخيرة لتكثيف جهودها الاستخباراتية في تلك المنطقة من الحدود لتحديد مواقع مقاتلي داعش وقاذفات الصواريخ الخاصة بهم، لتتم بالفعل قبل يومين دون أي تصريح رسمي حتى الآن يوضّح تفاصيلها من جانب الجيش التركي.
كان رئيس الأركان خلوصي أكار قد زار مدينة كيليس قبل أيام قليلة في إشارة واضحة لقلق الجيش التركي من الوضع الأمني المتدهور في المدينة، والتي شكلت صُحُف المعارضة بسببها ضغوطًا مؤخرًا على الحكومة للتحرك من أجل حمايتها، لا سيما وأن أيًا من الأطراف الموجودة على الحدود التركية لم تجرؤ من قبل على استهداف تركيا بهذا الشكل المتواصل، أضف لذلك أن وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو قد حذر قبل أيام من أن تركيا لا يمكنها السكوت عما يدور في كيليس، وأنها بحاجة لدفع مقاتلي داعش جنوبًا لإبعادهم عن حدودها.
ترتيب العملية العسكرية القادمة لتحرير المناطق الواقعة تحت سيطرة داعش على حدود تركيا هو ملف لا يزال قيد المفاوضات التركية الأمريكية لوضع تفاصيله بدقة على الأرض، وبالأخص الدور الذي تريد الولايات المتحدة أن توكله لقوات حماية الشعب الكردية التي تعتبرها تركيا امتدادًا لحزب العمال الكردستاني الإرهابي في نظرها، وترفض بالتبعية مشاركته في أية عملية لتحرير الشريط الحدودي الواقع بين مدينتي مارع وجرابلس من قبضة داعش، وهو أمر طبيعي بالنظر لكونها المنطقة الحدودية الوحيدة التي لم تسيطر عليها القوات الكردية بعد، وهو خط أحمر بالنسبة لتركيا أن تفصلها قوات الحزب الكردي بالكامل عن عُمق سوريا أولًا، وتسيطر على حدودها الجنوبية بالكامل ثانيًا.
تفاصيل العملية التركية الجوية
عملية التوغل العسكرية التركية برًا بين البندقيتين (المنطقة الرمادية داعش، والخضراء لثوار سوريا، والصفراء لقوات الأكراد)
لم تقتصر العملية التركية على دخول القوات الخاصة برًا فقط، ففي ساعات الصباح الأولى من السابع من مايو، وبعد عودة القوات الخاصة إلى الأراضي التركية، شن الجيش التركي أربع ضربات جوية على مواقع لداعش في شمال سوريا تحت مظلة التحالف الدولي، وهو ما أسفر عن مقتل 48 من مقاتلي داعش، والذين كان مسؤولون عسكريون أتراك وأمريكيون من المتواجدين في قاعدة إنجيرليك بجنوب تركيا قد حددوا مواقعهم في شمال سوريا قبلًا.
تكررت الضربات الجوية ثلاث مرات في خمس مناطق بشمال سوريا بطائرات إف 15 وإف 16 وإيه 10 على مدار ساعتين تقريبًا بين الخامسة والنصف والسابعة والنصف صباحًا، ثم أظهرت الصور الأولية مقتل 44 من مقاتلي داعش في تلك العمليات الثلاث علاوة على إصابة آخرين، لتتبعها ظهر نفس اليوم عملية جوية أخيرة على منطقة قره كوبرو لقي فيها أربعة آخرون من مقاتلي داعش مصرعهم.
بدورها ردت داعش على العملية خلال ساعة ونصف بإطلاق صاروخي كاتيوشا على مدينة كيليس دون أن تحدث أية خسائر، لترد عليها القوات التركية مجددًا من الحدود التركية باستخدام المدفعية مستهدفة بعض الأهداف التابعة لداعش بشمال سوريا، هذا وقامت دوريات المراقبة التركية في مساء نفس اليوم بالتعرف على مواقع أخرى لداعش في منطقة صوران شمالي حلب، ومنطقتي براغيدة وقوشاجيك شمالي شرقي تليل الحصن، ليصل إجمالي عدد المقتولين لـ55 مقاتل تابع لداعش، علاوة على تدمير ثلاث مدرعات وثلاث قاذفات صواريخ تابعة لها.
فجر الثامن من مايو، عادت القوات التركية لتركيزها على مقاتلي حزب العمال الكردستاني بقصف مواقعه في جبال قنديل بشمال العراق بطائرات إف-16 وإف 4 2020، هذا لو لم تذكر المصادر حتى الآن ما إن كان التوغل في سوريا قد استهدف بأي شكل قوات حماية الشعب الكردية الواقعة إلى جنوبي غربي كيليس.
أول توغل بري هجومي
ضريح سليمان شاه القريب من الحدود التركية، ومن حلب (إلى الغرب) والرقة (إلى الجنوب)
من الجدير بالذكر أن تلك العملية البرية هي الثانية من نوعها التي تقوم بها قوات الجيش التركي داخل الأراضي السورية، فقد قامت في فبراير عام 2015 قوة مكونة من 572 جنديًا تركيًا وعدد من الدبابات والمدرعات بالتوغل لنقل ضريح سليمان شاه وأربعين جنديًا تركيًا في حراسته من موقعهم على ضفاف الفرات بولاية الرقة، والواقع حوالي أربعين كيلومتر جنوبي مدينة جرابلس، إلى الأراضي التركية بعد تدهور الأوضاع في تلك المنطقة ومخاوف تركيا من استهداف داعش للضريح.
بيد أن تلك العملية ظلت محدودة في أهدافها وفي معناها سياسيًا نظرًا لاقتصارها بوضوح على حماية جنود أتراك تواجدوا لحماية الضريح، ونقل الضريح كجزء من التراث التركي بالمنطقة لحمايته، أضف لذلك أنه لا يعتبر توغلًا عسكريًا هجوميًا بالنظر لكون موقع الضريح تابع للسيادة التركية وفق معاهدة لوزان التي وقعتها تركيا عام 1923 وتشكل حدودها الحالية، إذ نصت الاتفاقية على أن الموقع الصغير المحيط بالضريح سيكون تحت سيادة تركيا رُغم وقوعه في سوريا وإحاطة الأراضي السورية به من كل جانب (وهو أمر طبيعي في حالات عديدة حول العالم، وتُعرَف تلك المنطقة المنفصلة بالجيب الخارجي أو Exclave، انظر على سبيل المثال حالة مشابهة هي مدينة المدحاء العمانية الواقعة بالكامل في الإمارات والمنفصلة عن الأراضي العُمانية)
تباعًا، تمثل تلك العملية الأولى من نوعها تمامًا حيث تضمنت استهداف قوات مجاورة لتركيا وليس مجرد حماية جنود أتراك، كما تضمنت تجاوز الحدود التركية كهدف بحد ذاته، وليس للوصول لمنطقة أخرى ذات سيادة تركية منفصلة، وهي حالة يبدو وأنها نجحت في تحقيق أهدافها الضيقة، وستكشف الأسابيع القادمة عما إذا كانت تركيا راغبة في توسيع نشاط من هذا النوع بالتنسيق مع الأمريكيين والروس أم لا، وإلى أي مدى سيوافق الأمريكيون على تخفيف دعمهم للقوات الكردية مقابل الاعتماد على تركيا والتي تطرح نفسها كبديل كما هو واضح نظرًا لضعف قوات الثورة السورية، وإلى أي مدى أيضًا ستتمكن تركيا من الوصول إلى نقطة مشتركة مع روسيا حيال عملية مشابهة مستقبلًا بالنظر لتضارب مصالحهما في سوريا.