ترجمة وتحرير نون بوست
“المكان الأكثر خطورة هنا هو المستشفى، بمجرد وصولك، أول شيء يقولونه لك: إذا كنت تريد أن تشعر بالأمان، إبق على الجبهة”، كتبت الصحافية الإيطالية فرانشيسكا بورّي في افتتاحية كتابها “الغبار السوري”، الذي ضمنته تقاريرًا من قلب معركة حلب.
وفقًا لشهادتها الحية للحرب السورية، تقول فرانشيسكا في تقاريرها: “تقصف طائرات الأسد قنابلها فجأة، وينبثق في وجهك إعصار هائل من الرياح والغبار واللحم، ولكن الطائرات غير دقيقة أبدًا، بحيث لا تقصف الخطوط الأمامية، بل إنها تخاطر حتى بقصف مؤيدها بدلًا من المعارضين”.
الوضع كان كذلك عندما قامت بورّي بنشر كتابها في عام 2015، واليوم، يبدو الوضع شبيهًا بالماضي، بل أكثر؛ ففي الوقت الحاضر، وأمام مرأى العالم الصامت، تُقرض المقاتلات الروسية المزيد من قوة النيران للحكومة السورية، مما تسبب في موت ودمار أكبر من أي وقت مضى.
دلالات التصعيد
منذ أن تم التوصل إليه ما بين الرئيسين أوباما وبوتين في نهاية فبراير، تم انتهاك وقف إطلاق النار لأكثر من 2000 مرة على مدى الشهرين الماضيين، حيث صعّدت القوات السورية والروسية حملة القصف في يوم 22 أبريل على الرغم من سريان اتفاق وقف الأعمال العدائية، الهدنة، و”محادثات السلام” في جنيف.
إصرار بوتين على قصف المعارضة يتمحور حول إجبار الأخيرة على الخضوع في المفاوضات، في حين يفضل الأسد قصفها لتحقيق الهزيمة الكاملة والمطلقة
ربما تكون هذه المحادثات هي السبب الحقيقي الذي دفع بالقوات الحكومية السورية والروسية لتصعيد هجماتها؛ ففي ظل ما يسمى بـ”دبلوماسية طائرات الحرب”، لا يمكننا، ولا ينبغي علينا، أن نلتفت عن أهمية التوقيت الذي تم اختياره للتصعيد.
ما لم تضغط واشنطن على موسكو للالتزام بالاتفاقات التي أبرمتها وتعهدت بها، سيعمل التصعيد المستمر بالتأكيد على نسف محادثات السلام برمتها؛ فللأسف، بوتين والأسد لا يزالان مصممان على استخدام القوة العسكرية لتحقيق أهدافهما في سوريا، والفرق الوحيد بينهما هو أن إصرار بوتين على قصف المعارضة يتمحور حول إجبار الأخيرة على الخضوع في المفاوضات، في حين يفضّل الأسد قصف المعارضة السورية لتحقيق الهزيمة الكاملة والمطلقة.
ولكن مع ذلك، ومنذ أن وبّخ الكرملين الأسد لتقويضه محاولات استئناف عملية الدبلوماسية، كثّف بوتين وتيرة استخدام القوة لفرض حل ملائم لموسكو في جنيف، ولكن هل نجح في ذلك؟
المحادثات الفاشلة
بالحكم من الجولة الثالثة من المحادثات السورية في جنيف، فشل بوتين حتى الآن بترجمة العدوان العسكري الروسي، لا سيّما حملة القصف الأخيرة حول حلب، إلى مكاسب دبلوماسية؛ حيث رفضت المعارضة السورية التفاوض في ظل استمرار إطلاق النار، وانسحبت من المحادثات ريثما يتوقف التصعيد، إنهاء الحصار، والإفراج عن السجناء السياسيين.
كما رفضت المعارضة محاولات روسيا، التي تواطأت فيها أحيانًا مع أمريكا، لتغيير أساس وأهداف محادثات السلام، وهي بالتحديد الإطاحة بالأسد، وإنشاء هيئة حكم انتقالية بسلطات تنفيذية كاملة، يمكن أن تضم أعضاءًا من الحكومة والمعارضة.
وكما كان متوقعًا، رفض وفد المعارضة اقتراح روسيا لإجراء تغييرات تجميلية للدستور، وتشكيل حكومة وحدة وطنية في ظل الأسد.
ولكن إذا كنت تعتقد بأن فشل بوتين بإملاء شروطه من شأنه دفع موسكو لإعادة النظر في إستراتيجيتها، فقد حان الوقت لتستيقظ من أحلامك؛ فعندما لا تؤتي القوة نتائجها المرجوة، يستخدم بوتين المزيد منها، وهنا يبدو من الواضح بأن زعمه بسحب قواته من سوريا هو مجرد حيلة وخدعة لا أكثر، حيث صعّدت روسيا الحصار والقصف، وأصرّت مرة أخرى على معاملة جيش الإسلام، وبشكل أكثر تحديدًا، تجمع أحرار الشام، الجماعة المعارضة الأكثر تمثيلًا في محادثات جنيف، كجماعة إرهابية ينبغي دحرها وهزيمتها، وقد تكون المسألة مسألة وقت فقط حتى يتبنى بوتين خيار الأسد المفضل بالحرب الشاملة.
أوجه شبه للتأمل
النظامان السوري والروسي ليسا أول من استعمال سياسة القصف والقتل لتمهيد الطريق إلى الحل الدبلوماسي، إن لم يكن لتأمين الخنوع الكامل للأعداء، فهما يحذوان حذو قصف بيروت، بلغراد / سراييفو، وبغداد، على سبيل المثال لا الحصر، ناهيك طبعًا عن حادثة هيروشيما، والتي سأعفيكم من تذكرها في هذا الوقت.
ولكن في الوقت الذي يتخذ فيه التصعيد منعطفًا نحو الأسوأ ضمن وحول مدينة حلب، يبدو من المفيد أن نرسم وجه المقارنة مع غروزني؛ فهناك، أظهر بوتين للعالم في خضم حرب الشيشان الثانية ما الذي يستطيع نظامه أن يرتكبه بالمدينة، حتى وإن كان يعتبرها تابعة له.
كالشيشان تمامًا، يصوّر بوتين عناصر المعارضة السورية المسلحة برمتها كـ”إرهابيين” لابد من سحقهم، وحلب، كغروزني، يجب أن “تتحرر” بأي ثمن
بعد حربين متتاليتين، وإثر الحصار والقصف، وصفت الأمم المتحدة غروزني بـ”المدينة الأكثر دمارًا على الأرض”، حيث لم يعد هناك مبنى واحد في المدينة لم يتضرر إثر الحرب، وبمجرد تسويتها بالأرض تمامًا، بدأت موسكو بإعادة بناء غروزني لمحو أي أثر للموت أو الدمار.
من خلال هذا الطريق أرسل بوتين رسالة لبقية العالم بأن روسيا ستعيد المطالبة والتأكيد على لقبها كقوة عظمى، وحينها دفعت الشيشان الثمن، وأصبح بوتين الرجل القوي في روسيا، ودفعت به هذه الحرب إلى سدة الرئاسة.
استغل بوتين هاجس الولايات المتحدة بتنظيم القاعدة وتنظيم داعش لخوض حروبه الخاصة، وكالشيشان تمامًا، يصوّر بوتين عناصر المعارضة السورية المسلحة برمتها كـ”إرهابيين” لابد من سحقهم، وحلب، كغروزني، يجب أن “تتحرر” بأي ثمن.
هل سينجح بوتين؟
يبدو بأن محاولات الرئيس الروسي لتكرار “نصر” غروزني في حلب تجري على قدم وساق، حيث تمت تسوية ثاني أكبر مدينة في سورية بالأرض، وفي خضم هذه العملية، يفرض بوتين على الشعب السوري ثمنًا لا يطاق أملًا بتوسيع النفوذ الروسي في منطقة الشرق الأوسط، ويبدو أن هذه السياسة تنجح إذا ما أخذنا بعين الاعتبار محاولة المزيد والمزيد من الزعماء الإقليميين والدوليين للعمل من خلال روسيا لإنهاء الحرب السورية.
ولكن سوريا ليست الشيشان، والشرق الأوسط ليس الحديقة الأمامية ولا الخلفية لروسيا، وفي حال استمر بوتين برفض التنازلات وتصعيد الحرب، ستتحول سوريا، كما حذّر أوباما في أكتوبر من العام الماضي، إلى أفغانستان روسيا، أو أميركا، لا إلى الشيشان.
لا ينبغي أن نتلقى هذه التناقض بنوع من التهاون أو الاستخفاف، لأن تداعياته لن تكون أقل من كارثية بالنسبة لسوريا وللمنطقة على حد سواء.
وفي الوقت عينه، وعلى النقيض من الإستراتيجية الأمريكية الفاشلة لمكافحة التمرد في العراق وأفغانستان والقائمة على خطة “نظّف، سيّطر، وعمّر”، فإن الإستراتيجية الروسية القائمة على “إقصف، نظَف، وأقم حفلات الأوركسترا” لا تبدو بأنها ستنجح أيضّا.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية