كونها الدولة العربية الأقل حظًا في التغطية الإعلامية للفضائيات والمواقع الإخبارية لا يعني أنها الأكثر استقرارًا أو الأبعد عن ساحات الصراع التي تعصف بالعديد من النظم العربية في الآونة الأخيرة.
موريتانيا، أو بالأدق الجمهورية الإسلامية الموريتانية، تلك الدولة القابعة شمال غرب القارة الإفريقية، والتي يقطنها ما يقرب من 4 ملايين نسمة، والتي دومًا ما كانت نقطة الوصل بين شمال القارة وجنوبها، وتجمع في صحاريها الشاسعة عشرات الأعراق والثقافات المختلفة، في مقدمتها، العربية والأمازيغية والإفريقية.
العديد من الخبراء أطلق عليها دولة “الانقلابات العسكرية” لما عانته عبر تاريخها الحديث من انقلابات على أنظمتها الحاكمة، بدءًا بالانقلاب على حكم ولد الطايع أغسطس 2005، وصولاً إلى الانقلاب على سيدي ولد الشيخ عبد الله، أول رئيس مدني منتخب في تاريخ موريتانيا، وذلك في 2008 بعد عام واحد فقط من الحكم، عن طريق الجنرال محمد ولد عبد العزيز الرئيس الحالي للبلاد.
ومنذ ذلك الحين وموريتانيا تحيا على صفيح ساخن من الصراعات الداخلية، بين نظام ولد عبد العزيز وبين المنتدى الديمقراطي المعارض، إلا أن هذه المواجهات دومًا ما كان يخمد نيرانها بالحوارات الشكلية، وسياسة التهدئة التي تتبعها الحكومة الحالية بين الحين والآخر، إلى أن جاء التلويح مؤخرًا بتعديل دستوري يسمح بولاية ثالثة للرئيس الحالي، وهو ما يعد نسفًا صريحًا لمواد الدستور المعدلة في 2005.
تصريحات المقربين من ولد عبد العزيز بالتعديل الممهد لولاية ثالثة أصابت الشارع الموريتاني بالصدمة، ورفعت منسوب التراشق السياسي والإعلامي بين الحكومة والمعارضة بصورة تهدد مستقبل الشعب الموريتاني، فهل يدخل الجنرال المنقلب على رئيسه حربًا جديدة ضد المعارضة من جانب والشعب من جانب آخر من أجل الحفاظ على كرسيه لفترة رئاسية جديدة مهما كان الثمن؟ وما هو موقف المعارضة والشارع حال إقرار ذلك؟
تعديل دستوري يثير الجدل
في سابقة هي الأولى من نوعها في التاريخ الموريتاني، أعلن الرئيس محمد ولد عبدالعزيز نيته إجراء تعديل دستوري يلغي مجلس الشيوخ الذي يعد الغرفة الثانية للبرلمان في موريتانيا، إضافة إلى التلويح بتعديل المادة الدستورية المحددة للمدة الرئاسية والتي أقرتها بدورتين فقط غير قابلة للتمديد، بما يؤهله للترشح لولاية رئاسية ثالثة تسمح له بتكريس أوضاعه السياسية.
ولد عبد العزيز أكد خلال مشاركته في مهرجان جماهيري بمدينة النعمة شرق موريتانيا، أنه على استعداد لمناقشة أي مقترحات تتقدم بها أحزاب المعارضة لمواصلة مسيرة الحوار البناء، في الوقت الذي اتهم فيه قياداتها بالفساد وإشعال الرأي العام وإثارته بسلبيات النظام الحاكم دون التطرق لما أقره من ديمقراطية وحريات فضلاً عن التطور في البنى التحتية التي شهدتها البلاد في الأونة الأخيرة.
تصريحات الرئيس الموريتاني بشأن تعديل الدستور أثارت جدلاً واسعًا في الساحة السياسية، لاسيما بعد الاعلان عن عدة تصريحات لبعض أعضاء الحكومة طالبوا فيها بولاية ثالثة لولد عبدالعزيز بما يخالف الدستور الحالي مما أثار حفيظة المعارضة من جانب والشعب من جانب آخر.
المعارضة: الدستور خط أحمر
شنت المعارضة الموريتانية هجومًا لاذعًا ضد تصريحات ولد عبدالعزيز التي ألمح فيها إلى تعديل دستوري يسمح له بالتمديد لولايات رئاسية قادمة، حيث نظم منتدى الديمقراطية المعارض مسيرة في نواكشوط انتقد خلالها ما أسماه تردي الأوضاع الاجتماعية، وتفاقم الأزمة السياسية والاقتصادية في البلاد بفعل السياسات التي تنتهجها الحكومة، حسب تعبير قادة المنتدى.
وتحت شعار “الدستور خط أحمر” رفع المشاركون في المسيرة المعارضة لافتاتهم، محذرين من الإقدام أو التفكير في هذه الخطوة التي قد تقود البلاد إلى أزمة سياسية قابلة للانشطار في أي وقت بما يمهد الطريق لحرب أهلية.
محمد جميل ولد منصور القيادي بالمنتدى ورئيس حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية المعارض قال في تصريحات صحفية له إن الدستور وثيقة مؤسِّسة ولا يمكن الإقدام على تعديلها إلا في أجواء التوافق والحوار الجدي بين مختلف الأطراف، ولا تعدل برغبة أحادية، مضيفًا أن المساس بالدستور في الوقت الراهن قد يؤدي إلى التعديلات المحرمة في المواد المحصنة في الدستور، وهو تخوف عند كثير من أفراد الشعب الموريتاني”.
أما الخبير والباحث السياسي سيد أعمر ولد شيخنا فقد أشار إلى أن حل مؤسسة مجلس الشيوخ لم يكن مطلبًا لأحد، وإنما تم النص عليه في دستور (1991) الممنوح من قبل الحاكم العسكري كمؤسسة لاحتواء النخب التقليدية، وكسب ودّها، بالإضافة إلى طلبه التقليد للدستور الفرنسي.
ولد شيخنا أشار إلى أن التلاعب بهذا القرار ما هو إلا محاولة من قِبل الرئيس الموريتاني لتمرير تعديل دستوري يخلده في السلطة، ويتجاوز به عائق الولاية الثالثة الذي كان أهم مكاسب مرحلة ما بعد الرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع، حيث نص تعديل 2006 خلال المرحلة الانتقالية على تحديد المأموريات باثنتين غير قابلتين للزيادة، وأقر بتحصين هذه المواد من التعديل.
أما الكاتب محمد الأمين سيدي مولود، فقد حذر من التداعيات الخطيرة لإمكانية تعديل الدستور من أجل ضمان ترشح الرئيس لفترة رئاسية ثالثة، في ضوء التلميحات الصادرة بهذا الشأن من وزيري المالية والعدل المقربين من الرئيس.
الكاتب في مقاله “تعديل الدستور… من هنا يبدأ الانفجار”، المنشور في وكالة الأخبار الموريتانية المستقلة، اعتبر أن هذه التصريحات التي تم الإعلان عنها تحت قبة البرلمان والتي جاء فيها: “بعض الأنظمة تستحق التجديد لثلاث مأموريات أو حتى أربعة، بالنظر إلى الرؤية الشاملة للتنمية والإنجازات على أرض الواقع”، تعد أول مؤشر مقلق حول سعي الرئيس إلى تغيير الدستور بما يضمن له البقاء في السلطة فترة أطول، مضيفًا أنها تعد انتهاكًا صارخًا للدستور وتهديدًا للاستقرار إن نحن عدنا إلى نص الدستور نفسه، ومن المخجل أن يكون التصريح تحت سقف هيئة تشريعية، فهل يكون كلام الوزيرين مخالفًا لإرادة الرئيس وقسمه مع مخالفته الصريحة للدستور؟ أم أن عزيز نفسه هو من أمر أو غمز لتسريب مثل هذه التصريحات؟
الأمين لفت في مقاله الذي أثار الجدل داخل الأوساط السياسية الموريتانية إلى أن الغريب في الأمر هو أن الدستور في مواده هذه والتي وصفتها السلطات بأنها “أقفال” دون الاستمرار في السلطة يضع أي محاولة لتغييرها في نفس الخانة التي يضع فيها الطعن في كيان الدولة أو النيل من الحوزة الترابية، وهذه خيانة عظمى، فكيف يتجرأ وزير نافذ بالتصريح بها تحت قبة البرلمان؟
ومن ثم فقد أجمع الخبراء والمحللون المعارضون لنظام ولد عبدالعزيز أن اقتراح الرئيس الموريتاني لتعديل الدستور بغرض حل وإلغاء مجلس الشيوخ قد يكون مدخلاً ذكيًا لتمرير فترة رئاسة ثالثة والتي تتعارض مع الدستور وترفضها القوى السياسية الوطنية بالدولة.
مواصلة للإنجازات
(…الموريتانيون عليهم أن يطالبوا الرئيس ولد عبد العزيز بزيادة ولاياته الرئاسية لاستكمال ما أسماها إنجازات كبيرة استفاد منها الفقراء في الأحياء والمناطق الهشة…) بهذه الكلمات استهل وزير العدل الموريتاني إبراهيم ولد داداه، حديثه من داخل البرلمان، مطالبًا بضرورة تعديل الدستور بما يسمح للرئيس الترشح لفترة رئاسية ثالثة.
وزير العدل أشار إلى أن حزمة الإنجازات التي حققها ولد عبدالعزيز خلال دورتين رئاسيتين خير شاهد على نجاح مسيرته التنموية لاسيما في مجال دعم الحريات والديمقراطية فضلاً عما حققه في مجال البنية التحتية، على حد قوله.
وبعد الجدل الذي أثارته تلك التصريحات، فهناك من ألمح إلى أن رئيس الجمهورية لم يطلب تغيير الدستور ولم يعبر عن رغبة في ذلك تصريحًا أو تلميحًا، وما يجري هو تعبير عن مواقف أو آراء شخصية، ونحن لسنا معنيين بالتعليق عليها، وهو ما أشار إليه رئيس تحرير صحيفة “لاتريبون” الموريتانية محمد فال ولد عمير.
ولد عمير أكد أن ما صدر لا يعكس إرادة من الرئيس ولد عبد العزيز في تغيير الدستور، بقدر ما هي مواقف وزراء جاءت في سياقات معينة استغلتها المعارضة للتعبير عن رفض واضح لأي توجه من هذا النوع، ملفتًا أن التجاذبات التي رافقت هذه التصريحات قد تفهم في سياق شد الحبل بين الحكومة والمعارضة حول الحوار، والمواضيع التي يتناولها.
أزمة سياسية جديدة
في أول رد فعل سياسي حيال هذه التصريحات، أعلن منتدى الديمقراطية المعارض إيقاف أي تواصل مع السلطة بشأن الحوار، ما لم يعتذر أعضاء في الحكومة أو يُقالوا على خلفية دعوتهم إلى السماح للرئيس الموريتاني بالترشح لولاية ثالثة.
من جانبه استنكر رئيس القطب السياسي بالمنتدى المعارض محفوظ ولد بتاح دعوة وزراء في الحكومة إلى تعديل المواد الدستورية المتعلقة بالولاية الرئاسية، مشيرًا أن هذه الخطوة مرفوضة تمامًا، و تعد منعطفًا خطيرًا في المسار السياسي للبلاد.
ولد بتاح أعتبر أن ما حدث خطيئة في حق الشعب الموريتاني ومدانة أخلاقيًا وسياسيًا، داعيًا أطياف المعارضة إلى التكاتف والوقوف في وجه ما أسماها محاولة الانقلاب على إرادة الشعب، ملفتًا أن هذه التصريحات تعكس رغبة السلطة في التمسك بالحكم وإعادة إنتاج الاستبداد، حتى لو كان في ذلك خرق سافر للدستور، وحنث من الرئيس ولد عبد العزيز بالقسم الذي أداه أمام المجلس الدستوري والشعب الموريتاني”.
أحمد ولد داداه زعيم حزب تكتل القوى المعارض اعتبر أن تصريحات الوزراء الرامية الى التمديد لولاية ثالثة أسقطت القناع عن إرادة ولد عبد العزيز في التمسك بالسلطة بأي وسيلة، حتى لو قادت البلاد إلى حرب أهلية وأزمة سياسية قد تعصف بالجميع.
ويبقى التساؤل: ما بين فترة وأخرى تطفو على السطح السياسي الموريتاني أزمة تلو الثانية دون حلحلة حقيقة لأي منها، مما يزيد من تأزم الوضع بما ينعكس سلبًا على الحياة المعيشية للمواطن الموريتاني، وما بين مطرقة عناد الرئيس وسندان جمود المعارضة يحبس الموريتانيون أنفاسهم خشية اشتعال فتيل الأزمة في أي وقت، لاسيما ومقومات الاشتعال متوفرة للقاصي والداني، فهل يتخلى ولد عبدالعزيز عن حلمه السياسي في ولاية ثالثة من أجل استقرار الأوضاع وفق أرضية مشتركة مع الفصيل المعارض؟ وفي المقابل هل يرجع منتدى الديمقراطية المعارض خطوة للوراء ويتراجع عن شروطه الجامدة لاستئناف الحوار مع الحكومة من أجل إنقاذ الشعب الموريتاني من الولوج في حرب أهلية لا يحمد عقباها؟