لا شك وأنك سمعت بعض من قصص الأشخاص العظماء الذين فشلوا في بدايات حيواتهم ثم حققوا ناجحًا باهرًا لاحقًا، من توماس أديسون الذي كان مدرسه يرى أنه طالب شديد الغباء، مرورًا بوالت ديزني الذي أفلست شركته الأولى، حيث إن أرباح أفلامه الكرتونية الأولى لم تتمكن من تغطية تكلفة إنتاجها، إلى ستيفن كينج الذي قوبلت مخطوطة روايته كاري بالرفض ثلاثين مرة قبل أن تنشر، وكذلك جي كي رولينج التي عانت في بداية مسيرتها لنشر سلسلة هاري بوتر التي رفضت لاثنتي عشرة مرة.
ولعل الشيء الوحيد الذي يجمع بين هؤلاء المبدعين على اختلاف مجالاتهم هو استمرارهم في المحاولة وعدم الاستسلام أبدًا، لقد كانوا يؤمنون بما يفعلون، وأن هذا هو الشيء المقدر لهم، إلا أن هؤلاء يعدون محظوظين بعض الشيء، فعلى الرغم من بداياتهم المتعثرة وشبح الفشل الذي طاردهم إلا أنهم تمكنوا من النجاح وتحقيق الشهرة والثراء المادي في حيواتهم.
لكن لا يمكننا أن نشمل بذلك كل المبدعين، فهناك على الجانب الآخر أشخاص أكثر موهبة وعبقرية من أي شخص آخر إلا أنهم لم يكونوا محظوظين بالقدر الكافي، فقد عاشوا مغمورين، وأفنوا حيواتهم في فنهم الخاص، تحيط بهم أشباح الفشل والتشكك والإحباط، ولم ينالوا من الشهرة أي شيء ولم تخلد أسماؤهم إلا بعد وفاتهم، وبالرغم من أن الزمن قد أنصفهم وأعطاهم قدرهم ومكانتهم بعد ذلك إلا أنه من المؤلم تذكر أن هؤلاء ماتوا وهم يعتقدون في فشلهم، ولعل أبرز هؤلاء المبدعين:
فنسنت فان جوخ ( 1853- 1890)
كلما تقدم بنا العمر غدونا أكثر تعلقًا بالحياة، لأجل ذلك أغادرها في أوج اشتعالي، ولكن لماذا؟ إنه الإخفاق مرة أخرى، لن ينتهي البؤس أبدًا، وداعًا يا ثيو، سأغادر نحو الربيع
هذا هو المقطع الأخير الذي كتبه فان جوخ في رسالة انتحاره إلى أخيه ثيو، إن حياة فان جوخ هي حياة مأساوية لفنان عبقري، فقط مات ولم يبع سوى لوحة واحدة في حياته، واتهمه سكان مدينة آرل بالجنون، ووقعوا على طلب يطالبون فيه بإبعاده عنهم، فانتهي به الحال إلى إيداعه بمصحة نفسية بمدينة سان بول وهي الفترة التي رسم بها لوحته الشهيرة “الليلة المرصعة بالنجوم”.
ورغم أنه كان يعاني لكي يبيع لوحة واحدة خلال حياته إلا أن بعض لوحاته الآن تعد الأغلى في العالم، إذ تقدر قيمة لوحته “بورتريه الدكتور غاشيه” بـ 152 مليون دولار.
فرانز كافكا ( 1883-1924)
سوف أكتب رغم كل شيء، سوف أكتب على أي حال، إنه كفاحي من أجل المحافظة على الذات
يقول الشاعر أودن W.H.Auden “لو طلب من أحدنا أن يذكر اسم الكاتب الذي ارتبط بعصرنا بنفس العلاقة التي ربطت دانتي وشكسبير وجوته بعصرهم فإن كافكا هو أول من نفكر فيه”.
لكن لم تذع شهرة كافكا بهذه البساطة وهو على قيد الحياة، بل إنه طيلة فترة حياته لم ينشر سوى 6 مجلدات صغيرة تقل في مجملها عما هو مطلوب لرواية قصيرة.
ولم تكن آثاره وبقية أعماله لتصل إلينا، فهو قد أوصى صديقه ماكس برود بأن يحرقها وهو ما لم يفعله لحسن حظنا.
وبالرغم من أن بقية أعماله وجدت طريقها إلى النشر بعد موته في عام 1924م، إلا أن استيلاء النازيين على السلطة في عام 1933 قضى على فرصتها في الانتشار ولم يعد بالإمكان قراءة كتبه علنًا إلا في الدول الأجنبية.
يعد كافكا رائدًا للأدب الكابوسي، بل إن هناك مصطلح تم اشتقاقه من اسمه ليعبر عن سمات هذا اللون وهو “الكافكاوية”، للحد الذي دفع الشيوعيين الفرنسيين لنشر تحقيق عام 1946 بعنوان “هل يجب إحراق كافكا؟” بحجة أنه يمثل الأدب الأسود الذي يمكن أن يؤثر في الروح المعنوية ويضعف عزيمة المجتمع، إلا أن جنتر أندرز Gunter Andres يعتقد أن الصورة التي رسمها كافكا للعالم هي كما ينبغي ألا يكون، والمواقف التي لا تليق بنا سوف تفيدنا إذا غرست في عقولنا من باب التحذير.
إن كافكا يعد مصدر إلهام لكتاب كثيرين، فبالنسبة لماركيز وانطباعه عن رواية المسخ، فيقول “لم أعرف من قبل أن أحدًا يسمح له بأن يكتب شيئًا هكذا، ولو كنت أعلم هذا لبدأت الكتابة منذ زمن طويل”، كما كتب الروائي صنع الله إبراهيم روايته “اللجنة” متبعًا رواية المحاكمة كنموذج له.
إيميلي ديكنسون ( 1830- 1886)
أنا لا أحد .. مَن أنت؟
أأنتَ أيضًا… لا أحد؟
هناك إذن اثنان منا… لا تخبر أحدًا
فسوف ينبذوننا… كما تعلم!
تعد إيميلي ديكنسون واحدة من أشهر الشاعرات ممكن كتبوا باللغة الإنجليزية، ولكن قبل أن تصبح ديكسنون على قائمة القراءات وضمن المقررات الأدبية الدراسية من التعليم الأساسي إلى الجامعي، لم يكن هناك أحد يعرف عنها أي شيء.
ولدت ديكنسون في عام 1830 بولاية ماساتشوستس بأمريكا، وعاشت حياتها في عزلة، وعرفت بانطوائيتها، وكان ينظر إليها في بلدتها على إنها امرأة غريبة الأطوار مما ساهم في زيادة عزلتها، فلم تغادر مدينتها إلا لمرات قليلة.
نشرت لديكنسون سبع قصائد قبل موتها، وقد تم مراجعتها عدة مرات لكي تتناسب مع قواعد الشعر المتبعة آنذاك.
المذهل أن ديكسنون كتبت أكثر من 1800 قصيدة ورغبت في أن تخفيها عن العامة والاحتفاظ بها لنفسها، ومطالبتها لأختها بأن تحرقها بعد مماتها إلا أن لافينيا ديكنسون لم تفعل ذلك وقامت هي وصديقتان أخرتان لها بنشر مجموعة من أعمالها في عام 1890م.
حاليًا يعود الفضل لإيميلي ديكنسون بالإضافة إلى معاصرها والت ويتمان في وضع الأسس الأولى للشعر الأمريكي المعاصر.
إدجار آلان بو ( 1809-1849)
يعد إدجار آلان بو جزءًا من الحركة الرومانسية الأمريكية، وغالبًا ما تركزت كتاباته على قصص الموت والألغاز.
ويعتبر بو أول من كتب قصص التحري، فيقول السير آرثر كونان دويل مبتكر شخصية شيرلوك هولمز الشهيرة عنه “تعد كل قصة بوليسية لبو أساسًا لهذا اللون، فأين كانت القصة البوليسية قبل أن يبعث بو فيها الحياة؟”.
كان بو يأمل بأن يصبح أول أديب وكاتب يكسب لقمة عيشه من الكتابة، مما جعله يمر بحياة صعبة ماليًا ومهنيًا.
وعلى الرغم من أنه نشر العديد من القصص القصيرة والقصائد خلال حياته إلا أنه لم يحصل في الغالب على مقابل مادي لها، وقد باع قصيدته الشهيرة “الغراب” مقابل 9 دولارات فقط.
عاش بو حياة مأساوية وتعيسة وانتهى به الحال وقد عثر عليه في زقاق بأحد شوارع بالتيمور مخمورًا ويهذي، وتم اقتياده إلى كلية الطب بواشنطن حيث توفي في صباح الأحد 7 أكتوبر 1849.
من أشهر أعمال بو: سقوط منزل آشر، القط الأسود، قناع الموت الأحمر، القلب الواشي، الغراب، أنابيل لي.
إتش. بي. لافكرافت ( 1890-1937)
لا ينكر أحد أهمية لافكرافت وبصمته الواضحة في أدب الرعب والفانتازيا، فيقول ستيفن كينج ملخصًا ذلك “هو أعظم كاتب رعب في القرن العشرين”، وتقول جويس كارول أوتس عنه “لافكرافت – بالإضافة إلى إدجار الآن بو – قد أثرا على نجاح عدد لا يحصى من كتاب أدب الرعب”، إلا أن إتش. بي. لافكرافت لم يصادف سوى نجاح محدود في حياته وحظى بعدد قليل من القراء لدرجة أن أحدًا لم يعرف اسمه الأول.
نشر لافكرافت الكثير من قصصه القصيرة من المجلات الشعبية، ولكن أن تعد كاتب أدب رخيص pulp writer في عشرينات القرن الماضي مثلها مثل أن تكون مدون Blogger في الزمن الحالي.
ترك لافكرافت بصمته الواضحة على أدب الرعب إلى جوار مثله الأعلى إدجار آلان بو، وبدت حياته لا تختلف عنه كثيرًا في مآسيها، فكلاهما مات فقيرًا ومجهولًا.
وتعد “نداء كتولو” من أشهر آثاره الخالدة والتي تبعها بقصص قصيرة تخوض في عالم الكيانات القديمة وخرافاته، وكذلك سلسلة الأحلام Dream Cycle وهي من إسهاماته الفانتازية، وهي عبارة عن مجموعة من القصص القصيرة التي تحكي عن عالم موازٍ يمكن الدخول إليه عبر الأحلام.