في الأوكسترا، الوحيد الذي يحق له إعطاء ظهره للجمهورهو ضابط الإيقاع “قائد الأوكسترا”، أوغلوا أعطى ظهره للسلطة قبل أيام ليضبط مسار الحزب والدولة باتجاه واحد ولم ينقل اختلافه مع أردغان في بعض القضايا إلى خلاف سياسي يضر بالحزب والدولة، فقراره المسؤول أضر بمصلحته الشخصية لكنه ضبط إيقاع نهج الدولة ولم يعكر مسارها.
قبل عامين أعطى الغنوشي وحركته ظهرهما للسلطة بعد فوز النهضة بالانتخابات بقرار جرئ، ليضبط هو الآخر المسار الديمقراطي في تونس من أن يمس أو يدخل في عسر التحول كما حصل مع ثورات الأشقاء العرب وقال جملته الشهيرة “خسرنا السلطة وكسبنا تونس”، وكذلك أوغلوا خسر السلطة وكسب قلوب الناس وكسب تركيا ومسارها في هذه الفترة الحرجة التي تمر بها المنطقة وتداعياتها المباشرة على تركيا.
هذان المفكران السياسيان وأحزابهما سيكونوا قدوة يشار إليهم بالبنان على مواقفهم السياسية التي تنم عن وضوح الرؤية وامتلاكهم القدرة على الإجابة على الأسئلة الصعبة التي لم يستطع الإسلاميون في أغلب دول المنطقة الإجابة عليها، فهي ليست سلوكيات عفوية وعلى البركة، فهما طبقا بقوة ما موجود في فلسفة الخطاب الإسلامي التقليدي الذي يقول “لسنا طلاب سلطة” والسلطة وسيلة للوصول إلى غايات وأهداف كبناء الدولة والمجتمع، فعندما يتعارض البقاء في السلطة مع تلك الغايات العليا نضحي بالسلطة من أجل أستقرار الدولة والحزب والاستمرار في النهج الإصلاحي والتقدم بدل التراجع، فخطوة شخصية للوراء وخطوة للدولة للأمام.
فأوغلوا لديه الحق والمبررات الكافية ليسلك سلوكًا مغايرًا تمامًا لذلك السلوك الذي سلكه، لكنه لم يفعل والغنوشي كان لديه الشرعية ليبقى في السلطة لكنه لم يفعل، فهما فكرا ببعد استراتيجي يخدم الدولة، علمًا أن السلطة ستعود إليهما يومًا في المستقبل وعلى قمة هرمها وسترون.
هناك عدد من الشخصيات السياسية في الحركات والأحزاب الإسلامية اتخذوا قرارات فردية أضرت بأحزابهم وجماعاتهم وبدولهم، وأضروا أنفسهم بعد ذلك والأمثلة كثيرة، فباسم عزة النفس تتخذ قرارات غير مدروسة فالعزة حين يعز الناس وتقدم المصلحة العامة على المصالحة الشخصية.
إن المفكر السياسي الذي يرسم المسار ويوضح الصورة لرجل السياسة بحلمه وهدوئه ونظرته الثاقبة سيذكره التاريخ لا الأحداث اليومية، وستذكره أجيال المستقبل، فقيادات السياسة يقودون الدول على خريطة المفكر كقيادة أردوغان على أنغام أوغلو، فهناك قادة وهناك عقول جبارة ومدبرة ترسم الطريق لهؤلاء القادة وهناك من يصنع قادة.
إن السلوك السياسي الخاطئ والتخبط في الأداء الذي يصيب الكثير من القوى والأحزاب الإسلامية في العالم العربي نابع من عدم الإجابة على منظومة متكاملة من التساؤلات الفكرية والسياسية المؤثرة على سلوك الأفراد والجماعات وعلى مستقبلهم ومستقبل بلدانهم، فهم ليس لديهم أجوبة دقيقة ومقنعة عن ماذا تريدون مثلاً؟ ولماذا يشاركون في الانتخابات وهم لا يسعون للسلطة؟ وكيف يرفضون العلمانية وهم يشاركون في الانتخابات في نظم ديمقراطية ليبرالية أساسها الدولة العلمانية؟ وكيف يدار الخلاف بينهم؟ ولمن الأولوية للفرد أم للدولة أم للحزب؟ وغيرها الكثير الكثير من الأسئلة التي تنتظر “أزمة” ما لتطفو على السطح من دون جواب مقنع، فتخلق أزمات مترابطة تسبب انشقاقات لا تخدم أحد.
قبل فترة قال الغنوشي “نحن حزب سياسي ويسعى إلى السلطة” فرب قائل يقول وماذا كنتم قبل ذلك وإلى ماذا تسعون؟! إنه السؤال الصعب الذي أجاب عنه الغنوشي ذو المرجعية الإسلامية ولم تجب عليه أغلب الأحزاب والقوى الإسلامية أو أجابت عليه بلسانها لا بسلوكها، فالجماعات تتدخل بالأحزاب والأحزاب تتدخل بالجماعات والتنظيمات من دون تحديد مهامها وحدود مهامها وتحديد العلاقة بينهم وأدوارهم، فليس لديهم إلى الآن من يضبط إيقاع الأحزاب كالغنوشي وداود أوغلو.
أخيرًا، إذا كان هناك من يستحق أن يكون قدوة ليس فقط للإسلاميين في العالم العربي فحسب وإنما للعالم أجمع، فهم دواود أوغلو والغنوشي ومن قبلهم عبدالله غول الذي تنازل لأردوغان المندفع لإنجاز المزيد، هؤلاء قدوات نادرة يجب أن تدرس خاصة للإسلاميين وألا تلقى المديح فقط وألا تؤخذ إنجازاتهم بغير سياقها.
القيادة قرار وحسم ولكم في مصر عبرة؛ فهناك من لم يقاتل من أجل السلطة وقال سلمية ولم يتخل عنها وقال شرعية فكان المصير، دولة ضائعة وجماعة صنفت بالإرهاب وقيادة في السجون وأحلام أصبحت سرابًا.