تقف تجربة البروفيسور أحمد داوود أوغلو، عند تلك الحدود الفارقة التي تميز تجارب سياسية نادرة في تاريخ العالم الإسلامي، وفي تاريخ الإنسانية بشكل عام؛ حيث تجاوزت تجربته في مجال السياسة والحكم، مسارات صناعة واتخاذ القرار، إلى مجال صناعة تجربة، وتكوين نموذج مهم لرجل الفكر والعلم، عندما يحكم، ويوجه سياسة دولته.
ويمكن القول إنه، ومن خلال تجارب التاريخ؛ فإن تجربة أوغلو لن تأخذ حظها في الوقت الراهن، أو في غضون حتى العقد التالي لترك حزبه، العدالة والتنمية للحكم؛ حيث إن تقييم التجربة، سوف يستغرق وقتًا أطول من ذلك، حتى يأخذ حظه من التقييم السليم، الموضوعي المحايد، مثل تجارب أخرى سابقة في التاريخ الإسلامي؛ لم يتم تقييمها بالشكل الكامل الصحيح، إلا بعدما انتهت ربما بقرون طويلة.
فيكرر أمامنا أحمد داوود أوغلو، تجربة نماذج أخرى سابقة في التاريخ الإسلامي، ظهرت في عصور ازدهار دولة الخلافة العباسية، والدولة الأيوبية، وكما وضع نظام الملك، قوام الدين بن إسحاق الطوسي، الأساس الذي قامت عليه الدولة الأيوبية – للمفارقة أنه كان أحد أشهر وزراء السلاجقة الاتراك – فيمكن القول، إنه، ومن دون مبالغة، قام أوغلو بوضع أسس الجمهورية التركية الثانية، التي خرجت عن حيز الدولة الجيوسياسي، إلى آفاق إقليمية وعالمية من التأثير، غابت عنها تركيا لعقود طويلة مضت!
بدأت مسيرة أوغلو في مجال العلوم السياسية والبحث الأكاديمي عام 1983م، عندما حصل على منحة تعليمية في جامعة بوغازيتشي؛ حيث درس فيها العلوم السياسية والعلاقات الدولية، ووضع بذلك اللبنة الأولى في تخصصات عديدة ربط بين بعضها البعض في أدبياته كما سوف نرى.
فبعد إنهائه لمرحلة البكالوريوس، حصل على درجة الماجستير من ذات الجامعة، في مجال إدارة المؤسسات الحكومية، ثم حصل على درجة الدكتوراه في مجال العلوم السياسية والعلاقات الدولية؛ لتتكامل بذلك لديه التخصصات اللازمة لأي سياسي يسعى إلى رسم مستقبل أفضل لبلاده، في الداخل والخارج.
ولسنا في هذا المجال، في معرِض تناول المسيرة الأكاديمية لأوغلو؛ حيث تملأ المواقع والكتب، ولكننا آثرنا الإشارة هنا إلى التكوين الأول له، وكيف تكامل مع شخصيته في خلق التجربة الفكرية له، والتي انساحت في واقع تطبيقي، قاد إلى تأسيس دولة حديثة في تركيا.
وليس من قبيل المبالغة، المقارنة بين أوغلو وبين نظام المُلك؛ فالمتأمل فيما تركه نظام المُلك الطوسي – والذي اخترناه باعتباره أحد أجداد أوغلو العِظام – من تراث في مجال السياسة والحكم، سوف يجد الكثير من التشابه في الأدبيات المقارنة بينهما، وكذلك عند التطبيق، وربما تفوق أوغلو في المجال الذي تناول فيه السياسة الخارجية لتركيا، وواقع الأمة الإسلامية، وكيفية الخروج من أزمتها.
ولكن ربما لم يكن نظام المُلك بحاجة إلى تأسيس الجديد في هذا الجانب، السياسة الخارجية؛ حيث كانت دولة السلاجقة العِظام في ذلك الحين – وهو مسماها التاريخي تمييزًا لها عن دولة السلاجقة التالية التي كانت تتميز بالضعف والتشرذم – في القرن الحادي عشر؛ حيث عاش نظام المُلك، من أقوى الأمم.
وللمفارقة في المقارنة كذلك، أن نظام المُلك كان من أهم الشخصيات التي أثرت في حياة السلطان ألب أرسلان، وصاحبه في معظم حروبه، وهو ذات ما تكرر بين أوغلو والرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وإن اختلفت مجالات هذه الحروب، بين الميدان والسياسة.
نجد في كتب أوغلو الكثير مما جاء في كتابات نظام المُلك، وغيره من فلاسفة الحكم والإدارة في العصور الإسلامية المختلفة، وبالذات العصر الإسلامي الوسيط، مثل الجاحظ، والثعالبي، وبدر الدين بن جماعة، حول أمرَيْن أساسيَّيْن.
الأمر الأول، هو الأسس القيمية للمُلك السليم، وللدولة المتينة الناهضة، وعلى رأسها حفظ الدين، والعدل، والشورى، وبناء الإنسان على العلم والتربية والأخلاق، والأمر الثاني، هو الأسس التطبيقية لصيرورة الكيان الوليد، ونموه ونهضته، وعلى رأسها المؤسسات القوية والنزيهة، والتي تلتزم بقواعد الإدارة السليمة.
ولعل أهم ما ركز عليه في السياقَيْن، هو حدود العلاقة بين الحاكم والرعية، وحقوق وواجبات كل طرفٍ منهما إزاء الآخر.
ويُلاحظ أن أوغلو، كما غيره من هؤلاء المفكرين، قدر ركزوا باهتمام شديد على وظيفة القضاء، وأهميتها في إرساء قواعد العمران السليم، من خلال إقامة العدل، وإنفاذ القانون، ورد المظالم، وهو ما يضمن تحقيق الاستقرار المجتمعي الضروري بدوره للاستقرار السياسي.
أوغلو.. الانطلاق من التاريخ والأفكار إلى البناء والسيادة
من خلال تطواف سريع على أدبيات وكتب أوغلو؛ فإننا سوف نجد أنفسنا أمام نموذج مهم من هذه النماذج التي ظهرت في التاريخ الإسلامي، وأسست دولة؛ فلم تقف عند حدود التنظير، كما تقدم.
وأهم كتبه في هذا المقام، هو كتاب “العمق الاستراتيجي: موقع تركيا العالمي”، والذي يُعتبر المحدد الأساسي الذي وجه سياسات حكومات العدالة والتنمية المتعاقبة، والتي كان أردوغان في الغالب على رأسها (من 2003م إلى 2014م)، فيما كان أوغلو بنفسه على رأسها في الفترة من 2014م، وحتى 2016م، كما كان مشرفًا على تطبيقها عندما تولى منصب وزير الخارجية خلال الفترة من 2009م وحتى 2014م.
وفي الكتاب تبرز العقلية الاستراتيجية لأوغلو، عندما رصد الواقع الذي تتحرك في إطاره تركيا منذ نهاية الحرب الباردة، وحتى وقت تأليف الكتاب، وحدد فيه المجال الجيوسياسي الحيوي الذي تتحرك فيه، وكيف يمكنها أن تواءم بين ماضيها العثماني، وحاضرها الحالي، بشكل يعتمد على الانفتاح والتعددية، بما يقود إلى تأسيس دولة جديدة قوية لها نفوذها الإقليمي والعالمي.
ويبدو فهم أوغلو للواقع العالمي جليًّا في النجاحات التي حققتها تركيا في زمن العدالة والتنمية، بناءً على أفكاره، وما رسمه من خطط، ومن يقرأ له كتب مثل “الأزمة العالمية: خطابات 11 سبتمبر”، سوف يدرك أنه أمام عقلية واعية، تدرك أبعاد الصورة بالكامل، ولا تقف عند حد التنظير فقط، والذي هو آفة الآفات أمام الكثيرين ممَّن حاولوا تكرار تجربة نظام المُلك الطوسي عبر تاريخ الأمة المسلمة.
ويبرز الجانب التطبيقي في هذا الكتاب، في أنه لمَّا تكلم فيه عن الأزمة الفكرية العالمية بين الغرب والمسلمين، جعل هناك مواضعَ شتى للحديث عن تأثير هذه الأزمة على تركيا في إطار خططها للانفتاح على محيطها الحيوي والعالم، وكيف يمكن لتركيا تجاوز هذه الأزمة لتحقيق المستهدفات الموضوعة في إطار أفكاره وخططه لتركيا ناهضة وقوية.
وهو ذات الرسالة التي يمكن الخروج بها من كتابه “من النظريات إلى التطبيق”؛ حيث أجرى جردة تاريخية متكاملة لتركيا، والحضارات التي ارتبطت بها تاريخيًّا، وخصوصًا الدولتَيْن السلجوقية والعثمانية، ثم طرح مجموعة من الرؤى – الجانب المتعلق بعبارة “إلى التطبيق” في عنوان الكتاب – التي تتعلق بكيفية توظيف ذلك في عملية صناعة تركيا قوية وسائدة.
كذلك في كتابه “التحول الحضاري والعالم الإسلامي”، والذي صدر بالعربية تحت عنوان: “العالم الإسلامي في مَهب التحولات الحضارية”؛ لم يقف عند حدود الحديث عن واقع الأزمات التي تواجهها الأمة الإسلامية، وإنما تطرق كذلك إلى رسم نموذج معرفي وسياسي – كما فعل مع تركيا – يمكن السير عليه لتحقيق حالة من الانفراجة في الأزمة الحضارية الراهنة التي تمر بها الأمة الإسلامية، مركزًا في هذا النموذج على أمرَيْن.
الأول يتعلق بضرورة توحيد الأمة تحت أية صورة من الصور، وكان واقعيًّا ومنطقيًّا في ذلك؛ فلم يطرح تصورات خيالية تتعلق بإزالة الحدود أو ما شابه، وإنما طرح الاستفادة من تجارب سابقة، حتى ولو تم الأخذ من العالم المسيحي نفسه، والأمر الثاني، أنه أكد على دور المركزيات الكبرى في العالم الإسلامي في تحقيق ذلك.
وفي هذا الكتاب، وفي كتبه الأخرى المتقدمة، كان أوغلو حريصًا على تحليل النماذج التاريخية، والإفادة من قوانينها العامة، ولم يكن يتحرَّج من الدعوة إلى دَرْس نماذج الحضارات الأخرى، حتى الحضارة المسيحية، كما تقدَّم.
بل إنه في كتابه “تحول التاريخ”، والذي اشترك في تأليفه مع إلبار أورتايلي، وهو أحد أهم الأكاديميين المتخصصين في مجال التاريخ في تركيا، حلل فيه النموذج المعرفي اليهودي، وكيف تم لهم التأسيس لدولة قوية إقليميًّا، بعد شتات طويل.
ولأوغلو كتاب شديد الأهمية بعنوان “الفلسفة السياسية”، ترجمة الدكتور إبراهيم البيومي غانم، وتقديم الدكتور محمد عمارة، ضمن سلسلة “هذا هو الإسلام”، عن مكتبة الشروق الدولية، في العام 2006م، ولكنه لم يحظَ – بطبيعة الحال – بالرواج والانتشار المطلوبين بسبب الظروف السياسية التي تمر بها بلدان العالم العربي باعتبار الأنظمة المستبدة الحاكمة، والتي تعادي المشروع الإسلامي والفكرة الإسلامية بشكلٍ آلي، لأنها تطرح بديل حكم نزيه ورشيد، وهو أمرٌ غير مطلوب بطبيعة الحال.
الكتاب كما يقول الدكتور محمد عمارة، يقدم كنزًا من الرؤى المعرفية حول الإسلام، وكيف يمكن أن يحكم، ومصادره الحقيقية، وعلى رأسها الوحي.
ويزيل الكتاب الكثير من الغبار عن تجربة الإسلام في الحكم، ويؤكد على أنها ممكنة، وربما هذا هو أهم ما يمكن الخروج به من الكتاب، مهما كان محتواه.
الدرس الأهم!
وتبقى الدروس المستفادة من تلك التجربة الفريدة في التاريخ الإسلامي المعاصر؛ حيث لم يسبق أوغلو الكثيرون في وضع قواعد وقوانين وخطط بهذه الشمولية، فالإمام محمد عبده، تبنى الدعوة الأخلاقية والتربية كأساس لحل مشكلات الأمة، بينما اقتصر فكر جمال الدين الأفغاني، على الجانب السياسي، رصدًا وثورةً عليه، وكذلك فعل عبد الله النديم، فيما اقتصر الكواكبي على الجوانب النظرية والتحليل، ولكنه لم يطرح حلولاً أو يؤسس لنموذج تطبيقي تقدمي.
وربما يقف أبو الأعلى المودودي في كتابه “الدولة الإسلامية” على مقربة منه، ولكنه يبقى أسير الأمنيات أكثر من التطبيق، بينما وضع حسن البنا أسسًا عامة للإصلاح من دون الخوض في التفاصيل الدقيقة التي خاض فيها أوغلو، كما أنه – بحكم الظرف – لم تسنح له الفرصة لخوض تجربة الحكم بالكامل، كما فعل أوغلو، فوقف عند حدود رسم القواعد العامة، من دون الممارسة.
نقول إن أهم الدروس المستفادة من تجربة أوغلو، هو أوغلو نفسه، ونجاحه؛ حيث إن ذلك يعني أن الأمة قادرة على إنجاب مثل هذه النماذج، وأنه متى آمنت القيادات السياسية بذلك الدور الذي يمكن أن يلعبوه؛ لتغير وجه الأمة بالكامل، كما تغير وجه تركيا بالكامل!