استنادًا إلى الدراسة الأكاديمية للبروفسور الدكتور التركي “حسرت جوماك”، الدكتور بقسم الاقتصاد السياسي التابع لكلية العلوم الإدارية والاقتصادية في جامعة كوجا إلي، والتي حملت عنوان “مدى تأثير العولمة على دول العالم”، فإنه من الممكن تعريف العولمة على النحو الآتي؛ هي ذلك النظام العالمي الجديد الذي يقوم على الإبداع العلمي والتطور التقني والتكنولوجي وثورة الاتصالات والتواصل، بحيث تزول الحدود بين الدول والشعوب ويصبح تنقل الأيدي العاملة والناس العاديين أمر حيوي، وإن صح الاختصار يصبح العالم في إطار العولمة قرية كونية صغيرة.
وعند النظر إلى نظرية “النظام العالمي الجديد” للمفكر السياسي إيمانويل والرشتاين، نجد أن دول العالم في إطار العولمة تنقسم إلى ثلاث فئات هي:
ـ الدول المركزية: هي الدولة الصناعية التكنولوجية المتطورة على أصعدة عدة، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا.
ـ دول حلقة الوصل “الدول نصف الفرعية”: هي الدول التي تقع بين الدول المركزية والفرعية، وأهم ما يميزها هو الموقع الجغرافي الاستراتيجي الذي يشكل حلقة الوصل بين فئات الدول المتنوعة، وكما تتميز تلك الدول بتقدم اقتصادي صناعي تكنولوجي أقرب إلى الدول المركزية أكثر منه إلى الدول الفرعية، مثل تركيا ودول شرق أوروبا.
ـ الدول الفرعية: هي الدول النامية التي توفر أيدي عاملة رخيصة ومواد خام وتنشط في القطاع الزراعي أكثر من القطاع الصناعي، مثل باكستان وبنغلادش.
حلول تركيا في الفئة المتوسطة دفعها للانضمام للعولمة مرغمة، وذلك للقيام بدورها في وصل العالم الشرقي النامي بالعالم الغربي المتطور على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية والثقافية، وعند النظر إلى التسلسل التاريخي للتحركات السياسية والاقتصادية الخاصة بتركيا، نجد أن بوادر انضمام تركيا للعولمة بدأت بالظهور للسطح في مطلع ثمانينات القرن الماضي، حيث تولى تورغوت أوزال الليبرالي اقتصاديًا وسياسيًا مقاليد الحكم وشرع في تطبيق الأسس السياسة والاقتصادية التي أسهمت في عولمة تركيا.
وقبل الشروع في سرد آثار العولمة يجب علينا اعتبار العولمة مرحلة انتقال عالمية وليست حركة سياسية موجهة من قِبل الدول العُظمى كما يدعي البعض، بل هي مرحلة فرضها التطور التكنولوجي وموجات الاقتصاد المعرفي على الجميع، وهذا ما يدلل على أن تركيا وغيرها من الدول كان لا بد لها من الانضمام لعملية العولمة في الثمينينات أو التسعينات.
آثار العولمة الإيجابية والسلبية على دول العالم
ـ التطور الاقتصادي والانفتاح الاجتماعي: لا أحد ينكر فضل العولمة في تطوير القطاعات الاقتصادية الصناعية والزراعية والخدماتية، ولكن عند مقارنة هذه المميزات مع العيوب، نجد أن العيوب أي الآثار السلبية أكثر وأوسع من مميزاتها الإيجابية، إذ إنها تحمل في طياتها الكثير من التحديات للجهاز الأمني والسياسي للحكومة، وهذا ما سيظهر من خلال سرد آثارها.
ـ انتشار أسلحة الدمار الشامل: أحد التأثيرات الأمنية العسكرية للعولمة، حيث اتسمت حقبة الحرب الباردة بسيطرة معيار توازن القوى القائم بين قطبين أساسيين، وهذا ما حد من انتشار أسلحة الدمار الشامل في بقاع جغرافية واسعة، حيث إن كل طرف كان يحاول تجنب التصعيد ليتفادى الاصطدام مع الطرف الآخر، الأمر الذي ساهم في حجر انتشار أسلحة الدمار الشامل.
لكن عقب انهيار النظام ثنائي الأقطاب، أمسى هناك نظام متعدد الأقطاع قضى على ظاهرة توازن القوى وأفسح المجال لجميع الدول للاتجاه نحو الحصول على أسلحة دمار شامل، وفيما يتعلق بتركيا فقد باتت الكثير من الدول – قرابة الثلاثين دولة – البعيدة والقريبة الصديقة والعدوة لها تمتلك أسلحة دمار شامل، وأصبح ذلك يشكل أحد الآثار السلبية على أمنها واستقرارها.
ـ انتشار الجرائم العالمية المنظمة: حرية انتقال الأشخاص والبضائع رفعت من حجم الجرائم العالمية المنظمة مثل جرائم الهجرة غير الشرعية وسرقة النقود إلكترونيًا، وعند النظر إلى تركيا نلاحظ أنها تتوسط قارتين آسيا وأوروبا، الأمر الذي جعلها من أكثر الدول التي تعاني من جرائم الهجرة غير الشرعية التي تقوم بها منظمات الجريمة العالمية.
ـ انتشار الأمراض الوبائية: زادت العولمة ثراء الثري وفقر الفقير، وهو ما تمخض عنه انتشار الجهل والأمراض الوبائية في المناطق الفقيرة، ومع حرية التنقل أصبح انتقال هذه الأمراض أمر يسير، وقد وقعت تركيا عرضة لخطر مرض إنفلونزا الطيور والإيبولا مثلها مثل جميع الدول.
ـ الحروب المذهبية: تطور ظاهرة التواصل وحرية التنقل جعل انتظام المنظمات المذهبية أمرًا يسيرًا، وقد بدأت هذه التحركات في نهايات تسعينات القرن الماضي ولكن مرتعها الوخيم ظهر للسطح عقب احتلال الولايات المتحدة الأمريكية للعراق عام 2003، حيث تأسست المليشيات الشيعية وأخذت تهاجم المناطق السنية، الأمر الذي نتج عنه تسلح المناطق السنية وهكذا تحولت إلى حرب طائفية داخلية وقد زادت شعلة هذه الحرب بعد انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من العراق وتسليمه لإيران على طبق من ذهب.
ولم تكتف إيران بإبقاء حربها الطائفية في العراق بل رمت بشعلتها في سوريا عقب انطلاق الثورة الشعبية السورية وكون العراق وسوريا دولتين محاذيتين لتركيا، فإن العواقب السياسية والاقتصادية الوخيمة التي أصيبت بها تركيا ماثلة أمام الجميع.
العولمة سيف ذو حدين، له فوائده وعيوبه، ولكن حد العيوب أشد حدة من حد المميزات، وهذا ما يوقع على عاتق الدول الوطنية مسؤولية ضخمة لحيازة الفائدة ودرأ العيوب، بمعنى إذا كان الانضمام للعولمة أمر حتمي، فهذا يعني أن الدول الوطنية بحاجة ماسة لرفع مستوى الإجراءات الأمنية على حدودها للإبقاء عليها آمنة من المخاطر المذكورة، ولكن دون التعارض مع معايير العولمة الحاكمة لأبعاد عصرنا الحالي.