برقيات واضحة تارة و مشفرة تارة أخرى تخص أنشطة هياكل حزب النهضة على جميع المستويات الهيكلية خلال الفترة الأخيرة تعطيك انطباعا صريحا بأن أمرا غير اعتيادي يدور رحاه داخل الحزب,ليس اجتماعا شعبيا مع أحد قيادات الحزب,ليس حملة انتخابية للحزب و لا شيئا من هذا القبيل,و ليس تظاهرة سياسية أو ثقافية حاشدة بصدد التنظيم, بل إنه “المؤتمر التاريخي العاشر للحزب”,هكذا عبر عنه عبد اللطيف المكي الوزير السابق و القيادي بالنهضة.
أسبوع واحد يفصل أبناء النهضة عن المؤتمر العاشر لحزبهم المزمع عقده بداية من يوم 20 ماي الحالي, ليس النهضويون وحدهم من ينتظرون في الحقيقة, فبعد أسبوع من الآن ستتجه كل الأضواء إلى قاعة رادس أين سينعقد افتتاح المؤتمر العاشر للنهضة و منها الى مدينة الحمامات أين ستدور فعاليات المؤتمر و نقاشاته. وقد بدأت مؤخرا وسائل الإعلام المحلية و الدولية في الإحماء لتغطية فعاليات هذا المفترق التاريخي في سيرة أحد أكبر أحزاب البلاد و أكثرهم اثارة للجدل و النقد, و بدأ الحديث في الأوساط السياسية و الإعلامية عن سيناريوهات محتملة قد يكشف عنها هذا المؤتمر, من سيكون في الموقع كذا؟
من سيشرف على كذا؟ ما الآلية التي يكون من خلالها كذا؟ كيف سيطبق كذا؟ من سيكون عضوا في كذا؟ و من سيتخلى لفائدة كذا؟ مؤتمر من الواضح أنه يحمل في طياته و أبعاده السياسية و الهوياتية رسائلا ثقيلة تؤرق قيادة حزب النهضة و تثقل سقفهم الداخلي ووجب بثها للخارج قبل الداخل عاجلا لا آجلا , المؤتمر العلني الثاني لحركة النهضة ,مؤتمر ولد قبل أن يولد.
السياسة أو الدعوة
خلال المؤتمر التاسع للنهضة سنة 2012 و هو المؤتمر العلني الأول للحزب تم التطرق الى مسالة الفصل بين الدعوي والسياسي في نشاط الحزب لكن تم تأجيل الحسم في ذلك الى المؤتمر العاشر وهو ما تدعو اليه عديد القيادات في الحركة وتعتبره آلية مهمة لتطوير المشاركة السياسية للحزب وجعله في منأى عن كل الانتقادات والاتهامات.إما كرسي السلطة أو منبر الإمامة , النهضة تقف في مؤتمرها العاشر بين خيارين منفصلين, لا جمع بينهما و لا ثالث لهما,
معادلة تقوم قيادات النهضة بالترويج لها منذ فترة ممتدة نسبيا مفادها أن حزبهم يتجه نحو توضيح علاقة بالعمل السياسي القائم على المنافسة على السلطة في اطار الدولة الديمقراطية الوليدة من ناحية و بالعمل الدعوي الديني الذي تأسست النهضة خلال سبعينات القرن الماضي على أساسه و بنت ركائز تنظيمها و نواميسه وفقه من ناحية أخرى. و لعل خيار النهضة بخصوص هذه المسألة قد أضحى جليا في الأيام الأخيرة حيث تحدث ثلة من قياداتها أن توجه ما بعد المؤتمر العاشر لحزبهم سيكون التفرغ التام للعمل السياسي مقابل التخلي عن العمل الدعوي ليكون من مشمولات المجتمع المدني حسب تعبير رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي خلال أشغال الدورة الأخيرة لمجلس شورى الحركة و ليكون هذا المؤتمر بالتالي نقطة تحول منهجي في مسيرة النهضة تحولها من جماعة تعتبر الدعوة أرضيتها الحاملة لبقية أنشطتها إلى حزب سياسي لا يمثل الشأن الدعوي في رؤيته أولوية تذكر.
التخصص الوظيفي
مبدأ لا يختلف كثيرا عن نظرية تقسيم العمل للإنجليزي آدام سميث اذ يمكن اعتباره مستوحى منه. فقد عبرت النهضة عن سعيها إلى توجيه الجهد التنظيمي لهياكلها نحو العمل السياسي داخل المشهد السياسي دون غيره من المجالات الأخرى الدعوية و الخيرية التي دأبت سابقا على الإنخراط فيها منذ بداياتها .و قد اتخذت النهضة هذا التوجه الجديد في ظل التطورات السياسية النوعية التي تشهدها تونس.
الحركة تعبر بصراحة عن توجهها للتخصص الوظيفي في إطار “حزب مدني يعتمد المرجعية والثوابت الإسلامية والعربية للبلد”
حيث كانت في السابق تواجه نظاماً شمولياً، أما اليوم فإن الحركة تعبر بصراحة عن توجهها للتخصص الوظيفي في إطار “حزب مدني يعتمد المرجعية والثوابت الإسلامية والعربية للبلد” حسب تعبير القيادي بالحزب رفيق عبدالسلام خلال تدخل تلفزي على قناة الجزيرة. عبد السلام تحدث عن تجارب مماثلة في العالمين العربي والإسلامي كالمغرب والأردن و قال إن النهضة ستكون تجربتها بخصوصية تونسية، أي وفق حاجيات الواقع التونسي، بحيث يتفرغ الحزب للعمل السياسي دون غيره و هذا ما يدعو للتساؤل بخصوص قدرة قيادة النهضة في المرحلة الحالية على اقناع قواعدها بجدوى هذا الخيار الذي بات غير مرحب به لدى طيف واسع من أبناء النهضة الذين لولا خاصية الإلتزام التنظيمي الصارم الذي تتميز به حركتهم و لولا الدور الذي لعبه رئيس الحركة راشد الغنوشي في لملمة بوادر هذا التشتت في أكثر من مناسبة اشتعل فيها الفتيل بين “الصقور” و “الحمائم” لأصبحوا و حزبهم هشيما تذروه الرياح.
الخطاب الجديد, بين الضرورة و التكتيك
المتابع لخطاب النهضة الحالي و المتأمل في رموزه و معانيه الظاهرة و الباطنة يلاحظ سريعا أن نقلة نوعية ما قد طرأت على هذا الخطاب من الحد إلى الحد,خطاب جديد نجد أن قيادة النهضة قد حرصت على نشره و التعريف به و هي تحاول بما أوتيت من “تكتيك” اقناع الرأي العام بأن نهضة الثمانينات انتهت و أن صفحة جديدة قد فتحتها النهضة لنفسها.
هذا التحول الحدي الذي قد عرفته المضامين الدلالية للخطاب السياسي الرسمي لحزب حركة النهضة في السنوات القليلة الأخيرة تعلق أساسا بالرموز السينمائية les codes sémiotiques المستعملة في صياغة الخطاب المُوجه إلى الجمهور المتلقي و التي بلورت الرؤية العامة للحزب التي تراوحت بين التشبث بمعطيَا “الإسلام” و “الإخوان” في مرحلة أولى و بين التوجه نحو إرساء مفهومَي “المدنية” و “الوطنية” كحاويات أساسية لهوية الحزب في فترة ما بعد الترويكا و هذا ما يحيلنا للقول بأن حركة النهضة تشهد تحولات عميقة تتعلق بالصورة التي تريد بها النهضة ابراز نفسها بها للجماهير العريضة محليا و إقليميا و دوليا عبر تحوير نوعيّ لمضامين خطاباتها الكلاسيكية برموزها و إشاراتها المألوفة التي لطالما اتصلت في المخيلة الشعبية بالتشدد و التدين و الإنزواء.
فكرة ترسخت لدى أغلب التونسيين لأكثر من أربعة عقود أو هكذا رُوجَ لها و أدت إلى اقصاء النهضة من المشهد و حشرها في الزاوية التي خرجت منها بعد الثورة مصابة, هرمةً تتلمس مضطرة مكونات بيتها الداخلي الذي بقي جامدا لأكثر من عقدين رغم محاولات “إعادة التأهيل” عبر عقد مؤتمرات الحزب الثمانية في الخفاء و التي لم تكن فاعلة في إيجاد سبل فاعلة كفيلة بإخراج النهضويين من كهف استبداد نظام بن علي , مثلما لم تكن فاعلة في أن تخرج جسمها من دائرة الإتهام بالتطرف و دعم الإرهاب و الفشل في إدارة مؤسسات الدولة ابان مرحلة الحكم التي فشلت النهضة خلالها في التسويق لبرامجها و رؤاها لدى العامة و النخب و تفعيلها بالكيفية اللازمة مما أدى إلى خروجها من السلطة سريعا في ظرفية تاريخية و سياسية معينة نعلمها جميعا كانت نقطة بداية تفكير جزء من قيادة النهضة في تحوير خطاب حزبهم في اتجاه “التونسة” بمختلف ابعادها المادية و المعنوية ,خطاب قد يتحول من مرحلة التنظير إلى مرحلة الفعل السياسي وفقا لما سيقره المؤتمر العاشر الذي لاحت نسبة كبيرة من توجهاته و قراراته ووفق الإرادة الذاتية لقيادات النهضة و أبنائها في الإلتزام الفعلي بخطوط الخطاب الجديد دون اعتبار المفاجآت التي تظل عاملا حاضرا بقوة لا يجب اغفاله.
ما يمكن التسليم به أن المؤتمر العاشر للنهضة سيكون محددا بارزا للمستقبل البعيد للنهضة ذاتها كما لمستقبل الإسلام السياسي في تونس
ما يمكن التسليم به أن المؤتمر العاشر للنهضة سيكون محددا بارزا للمستقبل البعيد للنهضة ذاتها كما لمستقبل الإسلام السياسي في تونس باعتبار القضايا الحارقة التي من المنتظر أن يتم طرحها خلاله و البت فيها و التي ستكون نتائجها معبرة عن روح النهضة الجديدة بمختلف أركانها و ركائزها كما عن علاقتها بمختلف العائلات السياسية الأخرى في تونس و عن علاقتها بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين الذي طالما كان تهمة تلاحقها. كما لا يمكن تجاهل مسألة مدى تأثير ما سيقره المؤتمر العاشر للنهضة على الساحة الوطنية و خاصة في علاقة بقضايا البلاد الاجتماعية و الاقتصادية التي تضل في جميع الحالات مركز اهتمام المتابعين في الداخل و الخارج قبل الحديث عن كل خطاب و تكتيك و استراتيجيا باعتبار النهضة حزبا حاكما و بالتالي مسؤولا عن خيارات الدولة و مناهجها التنموية التي لم تستجب إلى حد الآن لتطلعات المواطنين و آمالاهم مما يجعل المسألة التنموية بجميع مستوياتها تحدّ صعب أمام النهضة و أمام مؤتمرها العاشر الذي يمكن أن نفهم من خلال ما سيفرزه مدى وجود إرادة سياسية داخل حزب النهضة للشروع عمليا في بلورة خطط تنموية اقتصادية و اجتماعية و ثقافية واضحة و ملائمة و قادرة على إعادة جزء من ثقة التونسيين في النخبة السياسية.