يفتتح المخرجُ الأمريكيّ وودي آلن Woody Allen هذه الليلة مهرجان كانّ الدوليّ بفيلمه الجديد نخبة المقاهي Café society معلنا بداية الدورة التاسعة والستين من المهرجان الفرنسيّ العريق. أما الاختتام فسيكون يوم 22 من الشهر الجاري بإعلان الفائزين بجوائز المهرجان وأهمّها السعفة الذهبية.
تأسّس مهرجان كانّ Festival de Cannes سنة 1946، وأصبح أحد المهرجانات الثلاثة الكبرى في العالم (مع مهرجان البندقية، ومهرجان برلين)، بل هو المهرجان السينمائيّ الأكثر حضورا في الصحافة العالمية، خصوصا لمميّزاته الفنية وطبيعة مشهده النخبويّ الذي يسيل لعاب المصوّرين ومجلات الفضائح.
يرتبط مهرجان كانّ في أذهان الكثيرين بنوع من السينما الثقيلة والمثيرة التي لا تروق إلا لنخبة من السينمائيين المنعزلين عن العالم، مثلما يرتبط بالفضائح التي تصرّ على تسجيل حضورها في كل دورة.
ولئن احتلّت فضائح العري صدارة أغلفة المجلات، بفضل مادونا سنة 1991 وصوفي مارسو سنة 2005 وأوما ثورمان سنة 2011، فقد عرف المهرجان أحداثا أكثر إثارة، ففي دورة 1979 لم تنجح رئيسة لجنة التحكيم فرانسو ساغان François Sagan في كبح لسانها السليط واتّهمت إدارة المهرجان بالضغط على اللجنة من أجل إسناد السعفة الذهبية لفيلم فرانسيس فورد كوبولا الشهير : القيامة الآن Apocalypse Now، ولقد فاز الفيلم فعلا بالجائزة مناصفة مع فيلم ضارب الطبل Die Blechtrommel.
وفي سنة 1995، أبدى رجال الأمن الفرنسيّون موقفهم من فيلم الضغينة La Haine بأن أداروا ظهورهم للمخرج ماتيو كاسوفيتس Mathieu Kassovitz خلال صعوده على المدرج الشرفيّ. ذات الاحتجاج مارسه المصوّرون سنة 1983 مع الممثلة إيزابيل أدجاني فألقوا بأجهزة تصويرهم على القاعة خلال تبخترها على المدرج. الفنانون أيضا مارسوا احتجاجهم بطرقهم الخاصّة، فقد واجه المخرج الأمريكيّ كوينتن تارنتينو احتجاج إحدى الحاضرات على فوز Pulp Fiction بالسعفة الذهبية سنة 1994 بحركة بذيئة من يده، بينما كان الفرنسيّ موريس بيالا Maurice Pialat أكثر “لباقة” سنة 1987 فاكتفى بإجابة المحتجين على فوز فيلمه “تحت شمس الشيطان” Sous le soleil de Satan، بقوله “أنا سعيد بكل صافرات الاستهجان التي تلقونها، وإن كنتم لا تحبونني فاعرفوا أنني أيضا لا أحبكم”. أما الحركة الاحتجاجية الأكبر التي عبّر عنها الفنّانون، فكانت في سنة 1968 حيث تزامن المهرجان مع أحداث الانتفاضة الطلابية الشهيرة بباريس. في ذلك الوقت، أعلن المخرجون الفرنسيون الكبار من أمثال تروفو Truffaut وغودار Godard وغيرهم من غير الفرنسيين عن مساندتهم المطلقة للحراك، وبادر المخرج الكبير ميلوس فورمان بسحب فيلمه من المسابقة فتبعه البقية، وانسحب أعضاء لجنة التحكيم لتلغى المسابقة في حادثة تاريخية لم تتكرّر.
“المخرج الدنماركيّ لارس فون”
آخر أحداث المهرجان الخالدة، كانت حتما الندوة الصحفية الشهيرة للمخرج الدنماركيّ لارس فون ترييه Lars Von Trier سنة 2011. كانت الندوة مخصصة لتقديم فيلمه “كآبة” Melancholia، ولا أعرف كيف أخذته الأفكار إلى الحديث عن هتلر والهولوكوست واليهود في بلد يعاقب من “يكفر” بالمحرقة. لم يكن لارس فون ترييه ذو ميول يمينية أو معادية لليهود، ولكنّ الدعابة خانته فأصلح دعابته السمجة بدعابة أكثر سماجة، لينتهي به القول إلى تفهّمه التام لهتلر، وإشفاقه عليه رغم عدم موافقته على ما فعله. ولم ينتظر الرجل أكثر من أربع وعشرين ساعة ليجد نفسه “شخصا غير مرغوب فيه” Persona non grata من قبل إدارة المهرجان.
لكنّ الرجلَ ربط إسمه بكانّ قبل هذه الحادثة بكثير، من خلال أعماله المثيرة والصادمة. لقد كان أبرزها فيلم “نقيض المسيح” Antichrist الذي عرض سنة 2009 ليثير اشمئزاز جميع الحاضرين، ويدفع ببعض أعضاء لجنة التحكيم لمغادرة العرض، وسط حالات من التقيّؤ والإغماء! ولا تقلّ أفلام المخرج الأرجنتينيّ غاسبار نوي Gaspar Noé إثارة للصدمة، غير أنّ أشدّها وقعا على المهرجان كان فيلم “لا رجعة فيه” Irréversible بطولة مونيكا بيلوتشي Monica Bellucci وفانسون كاسال Vincent Cassel فأثار حفيظة الكثيرين خصوصا نشطاء حقوق الإنسان والمنظمات النسوية.
لكنّ أفلام المهرجان التي أثارت الرأي العام، لم تكن دوما تتعلّق بالجنس أو بتداعيات النفس البشرية. فقد كان للدين والسياسة حظّهما ليكتمل مثلّث التابو الشهير. كان فيلم الإسباني لويس بونويل قنبلة دورة 1961 حيث هاجم فيه المسيحيّة بشكل لاذع ونقل صورة عن دكتاتورية الجنرال فرانكو في إسبانيا. وفشلت محاولات الجنرال الإسبانيّ لمنع الفيلم في كانّ، وفشلت كذلك محاولات الأحزاب اليمينيّة الفرنسية، وسخط الفاتيكان واعتبار الفيلم هرطقة، فقد حاز فيريديانا Viridiana على السعفة الذهبية بينما قضي على بونويل بالنفي حتى موت الجنرال فرانكو وسقوط الدكتاتورية. وفي سنة 2004 قدّم الأمريكيّ مايكل مور فيلمه الوثائقي فهرنايت 9/11 الذي هاجم خلاله إدارة بوش وسياستها في زمن شهدت خلاله العلاقات الفرنسية الأمريكية فتورا شديدا بعد معارضة فرنسا لحرب العراق واصطفاف الصحافة الفرنسية ضدّ السياسة الأمريكية. واشتدّ الجدال حول الفيلم بعد قرار كوينتن تارنتينو Quentin Tarantino رئيس لجنة التحكيم آنذاك بمنحه السعفة الذهبية ليكون أوّل وثائقي يفوز بها منذ فيلم جاك كوستو الشهير عالم الصمت Le monde du silence سنة 1956. ولقد احتجّ الكثيرون على اعتبار الجائزة منحت لا للاستحقاق السينمائيّ وإنّما لاعتبارات سياسية.
لا نعلم أيّة فضيحة ستحدث، وأي جدال سيطرأ خلال هذه الدورة، ولكنّنا نعرف الأسماء التي ستسير على البساط الأحمر، و الأفلام التي ستشارك في المسابقة الرسمية. يرأس لجنة التحكيم للمسابقة الرسمية لهذه الدورة المخرج الأستراليّ جورج ميلر صاحب سلسلة أفلام ماكس المجنون Mad Max، وتسند هذه اللجنة أهمّ جوائز المهرجان : السعفة الذهبية لأفضل فيلم، الجائزة الكبرى لثاني أفضل فيلم، جائزة أفضل آداء رجالي، جائزة أفضل آداء نسائي، جائزة الإخراج، جائزة السيناريو، وجائزة لجنة التحكيم وهي التي تقدّم للفيلم الأكثر ابتكارا وطرافة من بين أفلام المسابقة الرسمية. ويتسابق على السعفة الذهبية واحد وعشرون فيلما طويلا، لمخرجين تعوّد أكثرهم على المهرجان. فهاهو الإسبانيّ بيدرو ألمودوفار Pedro Almodovar يعود بعد خمس سنوات بفيلم خولييتا Julieta. وكذلك الأمريكي جيم جرموش Jim Jarmusch بفيلم باترسُن Paterson، وفتى كندا الذهبيّ كزافيي دولان Xavier Dolan ذو السبعة والعشرين ربيعا، بفيلمه الجديد “فقط نهاية العالم”. كما تشهد القائمة وجود إسمين آسويين بارزين، هما الكوريّ تشان ووك بارك Chan-wook Park بفيلم المعينة (ah-ga-ssi) والإيرانيّ أصغر فرهادي بفيلم البائع (فروشنده).
ولا تقلّ مسابقة “Un certain regard” (نظرة ما) أهمّية عن المسابقة الرسمية، حيث تتميّز بقائمة أكثر تنوّعا وانفتاحا على العالم. وسنجد في هذه القائمة مشاركة عربية من خلال الفيلم المصريّ إشتباك للمخرج محمد دياب. وتسند إلى الفائز في المسابقة “جائزة نظرة ما” وتهتم كثيرا بالسينمائيين الشبان، أو المغمورين. أما المشاركة العربية الثانية، فهي تونسية، حيث يشارك فيلم “علّوش” (خروف) للطفي عاشور في مسابقة الفيلم القصير وهي المشاركة العربية الوحيدة في المسابقات الرسمية. أما فيلم شوف (انتاج فرنسي) للمخرج التونسي الفرنسي كريم الدريدي فيعرض في الحصص الخاصة ويخوض في تورط الشباب المغاربي في شبكات المخدرات بمارسيليا.
“من كواليس فيلم Café society”
تبدو دورة كانّ لهذا العام واعدة ومليئة بالمفاجآت، كما يبدو الحضور العربي فيها كما في بقية الدورات الماضية، ضعيفا وبعيدا عن المأمول. ولا يسوءنا ضعف التمثيل العربيّ في هذا المهرجان العريق، بقدرما يسوءُنا يقينُنا من وجود الكفاءات العربية، والعين المبدعة العربية، ويقينُنا من أنّ سوء التمثيليّة العربية ناجم أساسا عن أسباب لا علاقة لها بالفنّ والإبداع. وككلّ دورة نقول : ربّما في الدورة القادمة!