لم تكن درجة الحرارة لتقل بأي حال عن 45 درجة مئوية ذات يوم بينما استعدت سفينة “الرقيات” لنقل شُحنة معتادة للغاز المُسال من قطر إلى واحدة من وجهاتها المتعددة حول العالم، بيد أن حرارة مرتفعة كتلك مع رطوبة الخليج الشديدة تلاشت تلقائيًا لمن تسنى له الاقتراب من الأنابيب المحمّلة بالغاز على متن السفينة، والتي سرعان ما تحوّلت الرطوبة في الجو إلى قطع ثلج صغيرة بالاقتراب منها، إذ يقبع الغاز بداخلها عند درجة حرارة تبلغ حوالي 260 تحت الصفر ليتسنى نقله في صورته المسالة إلى مستهلكيه.
2100: الغاز الطبيعي يتربع على عرش الطاقة
على العكس من النفط الموجود بصورة سائلة والفحم الموجود بصورة صلبة، وهي أبرز المصادر غير المتجددة لتوليد الطاقة، يتواجد الغاز الطبيعي في صورة غازية تحت الأرض، وبالتالي يحتاج في نقله إلى أنابيب تنقله من مصدره إلى مستهلكيه، وهي واحدة من الأسباب التي تجعل تكاليف نقله مرتفعة نسبيًا مقارنة بالنفط إذ يحتاج إلى مشاريع بناء أنابيب على مسافات طويلة، أضف لذلك أنه يحتل مساحة أكبر كثيرًا من النفط كغاز، مما يجعل استخدامه غير اقتصادي إلا لتوليد الطاقة لمنشآت ثابتة كالمصانع ومحطات توليد الكهرباء، في حين يصعب الترويج له بسهولة كوقود للسيارات نظرًا للمساحة التي يحتلها من هيكل السيارة.
على الرُغم من ذلك، ونتيجة للقلق العالمي المتزايد حيال التلوث الشديد الذي يحدثه كل من الفحم والنفط، والضغط المتواصل لاستبدالهما بمصادر أقل تلويثًا أو غير ملوثة على الإطلاق، فإن الغاز الطبيعي على ما يبدو في صعود قوي في الفترة الأخيرة نظرًا للملوثات القليلة التي تصدر عن استخدامه مقارنة بالنفط، وكمية ثاني أكسيد الكربون الناتجة عنه وهي أقل بـ29% من النفط وأقل بـ44% من الفحم، وبينما لا تزال المصادر المتجددة كالطاقة الشمسية بحاجة إلى دفعات تكنولوجية أخرى لتصبح أقل تكلفة وأكثر كفاءة، فإن الخطة قصيرة المدى حاليًا لدى معظم البلدان هي العمل في مسارين متوازيين: الاستمرار في تطوير الطاقات البديلة وتوسيع استخدامها قدر الإمكان، واستبدال النفط والفحم بالغاز الطبيعي في القطاعات الأخرى.
لم تكن مفاجئة إذن حين احتل الغاز مكانة الفحم السابقة في الاقتصاد الأمريكي كمصدر رئيسي لتوليد الطاقة في أبريل الماضي، في حين ظل الفحم يسجل أرقامًا أكثر هبوطًا حتى وصل لأقل معدل لاستخدامه منذ 35 عامًا في نوفمبر الماضي، وهو أمر يعكس ليس فقط الاهتمام الأمريكي بخفض انبعاثات الكربون وتخفيف التلوث، ولكن القفزة الواضحة في السنوات الأخيرة لإنتاج الغاز في أمريكا الشمالية، والمدفوعة بما يُعرَف بثورة “شيل.”
غاز شيل ببساطة هو غاز موجود في شتى أنحاء العالم ولكنه محبوس في تكوينات صخرية على أعماق أكثر من الأعماق التي يتواجد عندها الغاز الطبيعي المتداول، وبالتالي لم يكن ممكنًا في السابق استخدامه، غير أن التطورات التكنولوجية في العقد الأخير سمحت للشركات الأمريكية بتجربة تكنولوجيا الحفر الأفقي والتكسير الهيدروليكي، حيث تقوم الشركات بالحفر حتى تصل لمستوى التكوين الصخري، ثم تبدأ بالحفر بشكل أفقي للوصول لمكانه، ثم تضخ الماء مع مجموعة من الكيماويات لتكسير التكوين الصخري بشكل يسمح للغاز بالخروج منه وبالتالي ضخه في أنابيب عبر القارة الأمريكية كلها.
ثورة “شيل” تلك كما تسمى هي واحدة من الأسباب الرئيسية التي جعلت الولايات المتحدة المستهلك والمنتج الأكبر للغاز في العالم لتتجاوز بذلك العملاق الروسي، وهي تطمح ربما في المستقبل إلى التصدير، ولكن كما ذكرنا، لا يمكن نقل الغاز في صورته الطبيعية إلا بأنابيب، وبالتالي سيكون شبه مستحيل بناء خطوط أنابيب تعبر الأطلنطي إلى أوروبا أو تعبر المحيط الهادي إلى آسيا، وهي الأسواق الأكثر جاذبية بالطبع في المستقبل للغاز الأمريكي ليتسنى له المنافسة عالميًا، ولذلك فالأمريكيون الآن عاكفون على محاكاة ما احترفه القطريون منذ زمن، وهو ببساطة إسالة الغاز.
الغاز بين الأنابيب الإقليمية والإسالة العالمية
لم تتبلور أسواق الغاز الطبيعي أبدًا لتكون أسواقًا عالمية على غرار النفط، فبينما تم تثبيت سعر برميل النفط على مستوى العالم على مدار العقود الخمسة الماضية دون أي تباين بين منطقة وأخرى، وبصعود وهبوط الأسعار في نفس اللحظة في شتى أنحاء العالم لنفس القيمة، فإن الغاز ظل حبيس الأسواق الإقليمية نتيجة اقتصاره على عالم الأنابيب بشكل كبير، وهو ما جعل السوق الأوروبي المعتمد على روسيا والجزائر وليبيا بشكل كبير سوقًا قائمًا بذاته، مقابل السوق في أمريكا الشمالية والمعتمد على الغاز الأمريكي والكندي، ثم السوق الآسيوي المعتمد على روسيا جزئيًا أيضًا، ولكل سوق من هؤلاء أسعاره وتقلباته الخاصة.
على الناحية الأخرى، تواجد سوق عالمي صغير للغاز وهو سوق الغاز المُسال Liquefied Natural Gas، وهو الغاز الذي يصل بالأنابيب من مصدر إلى محطة إسالة قريبة تقوم بخفض درجة حرارته إلى 260 تحت الصفر ليتحول من غاز إلى سائل، وتنكمش مساحته بالتبعية حوالي 600 مرة بشكل يسمح بتعبئة كميات كبيرة منه وشحنها، قبل أن يُعاد إلى صورته الغازية عند محطات الاستلام المختلفة، ورُغم التكلفة الباهظة بالطبع لتلك العملية، إلا أنها تمتعت منذ اليوم الأول بنفس ميزة النفط: القدرة على التصدير لأي مكان بالعالم مهما كان بعيدًا دون أنابيب، وبالنظر لموقعها في الجزيرة العربية وبعدها عن قلب الأسواق في آسيا وأوروبا والأمريكتين، فقد برعت قطر في ذلك المجال لسنوات بامتلاك ست محطات إسالة والتربع على عرش تصدير الغاز المُسال والذي تمثل ثُلث إنتاجه عالميًا.
خمسة محطات تطمح الولايات المتحدة لتشغيلها بشكل كامل بحلول العام 2025، وهو ما سيسمح لها بالتصدير ولو بكميات بسيطة إلى أوروبا وآسيا، وهي كميات ستكون كفيلة بإضفاء طبيعة “عالمية” على أسواق الغاز، والتي ستصبح بالأحرى “سوق الغاز العالمي،” وتشكل ضغطًا على الأسواق الإقليمية المعتمدة على مصدر واحد، وأبرزها بالطبع السوق الأوروبي حبيس الاعتماد على روسيا، وهو اعتماد يسمح للروس حاليًا بفرض أسعار معيّنة من الناحية الاقتصادية، كما يسمح لهم بالضغط على الاتحاد الأوروبي في ملفات عدة أبرزها أوكرانيا من الناحية السياسية.
إحصائيات سوق الغاز المُسال العالمي
سيشكل دخول الغاز الأمريكي المُسال أيضًا منافسة شديدة للقطريين، والذين يتوقع تراجع الفائض في ميزانيتهم بعد عام 2020 حين يبدأ تجديد اتفاقات التصدير الخاصة بهم، حيث سيطلب مشترو الغاز القطري على الأرجح أسعارًا أقل وربما يلجأون لورقة البديل الأمريكي للضغط على الشركات القطرية، بيد أن الدخل القطري في المجمل لن يقل بشكل حاد على المدى البعيد بالنظر للنمو في استهلاك الطاقة عالميًا بشكل عام، والنمو في استهلاك الغاز الطبيعي بالتحديد كبديل للنفط والغاز، وهو ما يعني تضاؤل الحصة القطرية من كعكة الغاز المُسال، على أن تظل قيمة تلك الحصة الأصغر محسوبة بالقدم المكعّب مساوية أو أقل قليلًا لما تصدره حاليًا.
الإيرانيون من ناحية أخرى قد يعانون قليلًا، ولكن بالنظر لخضوعهم للعقوبات لفترة طويلة، وإنتاجهم أقل بكثير مما يمكن لهم نظريًا أن يضخوه للسوق العالمي، فإنهم في جميع الأحوال على موعد مع زيادة إنتاجهم من الغاز والنفط، وكل معاناتهم ستكون نظرية ليس أكثر؛ فكمية الغاز التي سينتجونها ستكون أكثر من ذي قبل ولكن ليس أكثر كثيرًا كما توقعوا سابقًا قبل شطب العقوبات، وهو ما يعني فعليًا عدم وجود أزمة اقتصادية حقيقية أو هبوط في الدخل القومي الإيراني جراء دخول الغاز الأمريكي للسوق.
هل يعني الغاز المُسال نهاية الأسواق الإقليمية المعتمدة على الأنابيب؟ في الحقيقة ستظل الأسواق الإقليمية موجودة، وستكون مدفوعة بالأساس بكونها أرخص في النهاية نظرًا لعدم وجود تكلفة إسالة الغاز وإعادته لحالته الغازية باستمرار، وواقعية الاستفادة من المصادر الأقرب، فالغاز الموجود في تركمنستان وإيران وأذربيجان مجمعًا سيكون منطقيًا أن يؤسس لمشروع أنابيب واحد يصل لأوروبا من ناحية وللصين من ناحية أخرى، وربما للهند أيضًا، كما أن الاكتشافات المتزايدة في شرق المتوسط أمام الشواطئ المصرية والقبرصية والإسرائيلية واللبنانية ستدفع هي الأخرى نحو تشكيل نظام طاقة إقليمي للمتوسط ربما يتكامل مع النظام الموجود بالفعل بين الجزائر وليبيا وأوروبا، بيد أن وجود البديل المُسال في النهاية سيكون لاعبًا مهمًا في تحديد الأسعار وسيجعل الأسواق الإقليمية شبه عالمية في نفس اللحظة.
إجمالًا، ستنمو أسواق الغاز بقوة خلال العقود القادمة مع نمو الاقتصادات الجديدة كالهند وجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية وجنوب وشرق أفريقيا، وستنمو في المطلق حتى في الاقتصادات المستقرة مثل أوروبا والصين والولايات المتحدة نتيجة استبدالها للنفط والفحم، مع وجود نمو لقطاع الطاقات المتجددة سيأتي على الأرجح على حساب النفط والفحم لا الغاز الطبيعي، والذي يتوقع تربعه على عرش الطاقة العالمية بحلول عام 2100، وبالنظر لزيادة نصيب الغاز المُسال من كعكة سوق الغاز الطبيعي، فإن الأسواق الإقليمية/العالمية في آن ستشهد تحولات وصراعات شبيهة بما جرى في عالم النفط خلال السنوات الخمسين الماضية، وستكون اللعبة بالأساس بين الولايات المتحدة وروسيا وإيران وقطر.