في العام الذي تعهد فيه حاكم سوريا تدمير واحدة من أجمل مدن الشرق وأقدم حواضر العالم؛ في العام الذي تشرد خلاله السوريون في مختلف بقاع الأرض، وانطوت فيه أوروبا على نفسها كما لم تفعل من قبل، خوفاً من موجات اللاجئين من الحرب والموت؛ في العام الذي طالب فيه مرشح للرئاسة الأمريكية بمنع المسلمين من دخول الولايات المتحدة الأمريكية ومراقبة من يقطنها منهم؛ في العام الذي شهدت خلاله مدن القارة الأوروبية تعبيرات الخوف من المسلمين والتمييز ضدهم، كما لم تشهد هذه التعبيرات من قبل؛ حقق محام مسلم ونائب برلماني، ابن أسرة من المهاجرين، من خلفية اجتماعية عمالية، الانتصار في واحدة من أكثر معارك الديمقراطية البريطانية انقساماً، وأصبح عمدة لمدينة لندن، واحدة من أهم مدن العالم على الإطلاق.
إن قورن صديق خان برئيس حزبه، جيرمي كوربن، أو حتى بعمدة لندن الأسبق، كين ليفنغستون، فلا يمكن اعتباره سياسياً عمالياً راديكالياً، ولا حتى في مناصرته لقضايا الشعوب المسلمة والدفاع عن حقوق المظلومين في بريطانيا. ولم يخطط صديق خان، ولا كان يرغب بالتأكيد، في أن تكون هويته الدينية محل جدل في الانتخابات. ولكن تنصيبه عمدة للعاصمة البريطانية ليس بلا دلالات سياسية ـ اجتماعية، وتاريخية. هذا هو أول عمدة مسلم منتخب لأكثر مدن غرب ـ أوروبا تأثيراً؛ وقد جاء فوزه، بما يزيد عن مليون وثلاثمائة ألف صوت، وبفارق كبير ومريح عن خصمه، مرشح حزب المحافظين، زاك غولدسميث.
ولم يكن مدهشاً أن يعلق أحد المراقبين للحدث بأن الشرعية الانتخابية التي تحققت لصديق خان تفوق أية شرعية مماثلة حققها أي سياسي بريطاني في السابق؛ وهي بالتأكيد شرعية تفوق تلك التي حققها سابقاه في المنصب، كين ليفنغستون، العمالي، وبوريس جونسون، المحافظ. وبالنظر إلى التراجع الملموس في حظوظ حزب العمال في الانتخابات المحلية لاسكتلندا، كان هذا الفوز لمرشح الحزب في لندن رافعة معنوية لا يمكن الاستهانة بها.
ليس ثمة شك أن صديق خان حاول طوال حملته الانتخابية الاستقلال بصورته عن صورة زعيم حزبه، الذي يثير مخاوف ما في بعض دوائر الناخبين البريطانيين، وسعى إلى أن تتمحور حملته حول قضايا لندن الكبرى وسكانها وليس حول مسائل السياسة القومية. ولكن فوزه، في النهاية، كان فوزاً أيضاً لقيادة الحزب الحالية، وساهم، وإن بصورة غير مباشرة، في وضع حد لخطط من شحذوا أنيابهم للتخلص من كوربن.
هذا على المستوى السياسي والحزبي، أما على المستوى الاجتماعي، فالدلالات أوسع بكثير. يوصف المجتمع البريطاني بأنه مجتمع طبقي؛ وبالرغم من التراجع الملموس لدور الخلفية الاجتماعية في الحياة السياسية والاقتصادية/ المالية خلال العقود القليلة الماضية، لم يزل للطبقة دور كبير في نجاحات أو إخفاقات الأفراد. تصنف حكومة المحافظين الحالية، على سبيل المثال، بأنها حكومة خريجي المدارس الخاصة.
ومقارنة بالولايات المتحدة، حيث يرمز «الحلم الأمريكي» إلى ديمقراطية المجال العام وانفتاحه على الكفاءة، أكثر من الجذور العائلية للافراد، لم يزل من الصعب في بريطانيا لابناء الناس العاديين القفز على الحدود الطبقية والاجتماعية، التي تتجلى عادة في نوعية التعليم الذي يتلقاه الفرد وطبيعة الأوساط التي يختلط بها. لا تنطبق هذه المحددات بالضرورة على حزب العمال، ولكن صديق خان لم يكن مرشحاً لدائرة انتخابية معروفة بميولها العمالية، بل لقيادة مدينة هائلة، وبالغة التنوع. بهذا المعنى، كان لفوز خان، الذي ولد لأسرة مهاجرة، من أب سائق حافلة عامة وأم خياطة، دلالة هامة على أن بريطانيا تتغير، وأنها مستمرة في التغيير.
بيد أن الدلالة الأكبر في فوز صديق خان تتعلق بمدينة لندن نفسها. انتصار خان، بكل المقاييس، هو انتصار للندن، مدينة الملايين الثمانية ونصف المليون نسمة، التي يتحدث سكانها ما يقارب الثلاثمائة لغة، يشكل ما يوصف بالمواطنين البيض بينهم 60 بالمئة، والآسيويين 18 بالمئة، والسود 13 بالمئة، والعرب 1.3 بالمئة، والمختلطين عرقياً زهاء 5 بالمئة، وبينما يشكل آخرون من خلفيات عرقية مختلفة 2 بالمئة. التصويت لخان كان في الحقيقة تصويت لندن لنفسها، وانتصاره كان في جوهره انتصار للندن. عرفت آلة حزب المحافظين الانتخابية تقليدياً بأنها آلة لا تتورع عن استخدام أية وسائل، أخلاقية وغير أخلاقية، لتحقيق هدف الفوز. ولكن الحزب في السنوات الأخيرة أوحى للناخبين بأنه أصبح أكثر ورعاً في معاركه السياسية.
في معركة عمدة لندن الانتخابية أطلق المحافظون لآلتهم الانتخابية العنان. ولم يكن زاك غولدسميث وحسب من تورط في حملة التشويه القبيحة ضد صديق خان، بل وقطاع واسع من قيادات الحزب ونشطيه، بمن في ذلك رئيس الحكومة نفسه. وصف خان بصديق الإرهابيين من المتعاطفين مع داعش، ورمي بمعاداة السامية، وحاولت آلة المحافظين الانتخابية استخدام هويته الإسلامية لصنع انقسام في أوساط الناخبين الآسيويين وإثارة مخاوف غير المسلمين.
ولدت لندن قبل زهاء الألفي عام كمستعمرة رومانية، مباشرة بعد الغزو الروماني لبريطانيا في 43 بعد الميلاد. ولكن لندن الرومانية اقتصرت على ما يعرف اليوم بالسيتي، أو الحي المالي، الذي لا يزيد عن ثلاثة كيلومترات مربعة. خلال القرون التالية، سيما منذ العهد النورماندي في القرن الحادي عشر، بدأت لندن في اكتساب ملامحها، سيما بعد بناء أول قصور ويستمنستر. ولكن ليس حتى العصر الثيودوري في القرن السادس عشر، والتوسع الكبير في حدود المدينة، أن تحولت لندن إلى واحدة من أكبر مدن بريطانيا وأكثرها أهمية.
أضاف العصر الميركنتالي للمدينة بعداً جديداً باعتبارها مركزاً تجارياً، سواء للتجارة الداخلية أو الخارجية؛ ثم جاءت الثورة الصناعية في نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر لتعزز من موقعها المالي/ الاقتصادي وتضيف إلى دورها السياسي في المملكة المتحدة دوراً ثقافياً بالغ التأثير.
ولكن لندن الحالية هي، وبصورة كبيرة، صنيعة الإمبراطورية. ثمة مدن، بالطبع، وثمة مدن إمبراطورية؛ وهذه مدينة إمبراطورية بامتياز، صنعها وحماها الفائض الاستعماري للإمبراطورية وجهود أبناء البلاد المستعمرة، وتتوزع شوارعها وميادينها تماثيل ونصب بناة الإمبراطورية. في موجة الطاعون العظيم، 1665 ـ 1666، لم يكن تعداد سكان لندن يزيد عن نصف مليون نسمة، حصد الوباء خمسهم تقريباً. خلال حقبة الصعود الإمبراطوري، 1831 ـ 1925، أصبحت لندن أكبر مدينة في العالم.
منذ ما بعد الحرب الثانية، أخذت الإمبراطورية في الانحسار، ولكن ضرورات إعادة البناء في الخمسينات والستينات، فتحت أبواب بريطانيا للوافدين من ممتلكات الإمبراطورية السابقة. كاريبيون وهنود وباكستانيون، جاءوا بمئات الآلاف لتشغيل خدمات السكك الحديدية ومصانع وسط البلاد وشمالها؛ وحتى الإيرلنديون، الذين بدأوا في الوفود منذ المجاعة الإيرلندية في منتصف القرن التاسع عشر، لم تنقطع هجرتهم إلى المدينة المدهشة، القاسية، التي غلفت الفرصة فيها دائماً بفقدان التعاطف الإنساني. في السنوات العشر الأخيرة، وبعد توسع الاتحاد الأوروبي، أخذت المدينة في استقبال أعداد متفاوتة من أنباء دول أوروبا الشرقية.
وإلى جانب هؤلاء، لم تتوقف لندن عن توفير الملاذ للاجئين السياسيين، من كافة البلدان العرببة والآسيوية ودول أمريكا اللاتينية، كلما قرر العسكر في هذه الدولة أو تلك الانقلاب على الشرعية الانتخابية، أو أطلق الحكام الطغاة موجة قمع جديدة لشعوبهم.
خلال العقدين الماضيين، وبالرغم من أصوات اليمين المحافظ التي ترتفع من وقت إلى آخر، من صعود حزب استقلال المملكة المتحدة وتجمعات اليمين العنصري، ومن الهجمات الإرهابية، بدا أن لندن تتصالح مع نفسها ومع ميراثها الإمبرطوري. في لندن فقط، وليس في أية مدينة أخرى، تذهب إلى مطعم يملكه عربي، لتجد أن من يقوم على خدمة زبائنه شبان من أوروبا الشرقية، ومن يحفظ سجله المالي هندي. وفي لندن فقط، مدينة الثلاث وأربعين جامعة، تجد الطلاب من كافة أنحاء العالم، يملأون قاعات الدرس أو قاعات مراكز الإرشيف البريطاني، يدرسون تاريخ بلادهم، الذي هو، على نحو ما، أيضاً، تاريخ الإمبراطورية.
لندن هذه، المتصالحة مع نفسها، رفضت الاستسلام للخوف الذي حاولت آلة حزب المحافظين الانتخابية زرعه في قلوب مواطنيها، وأعطت صوتها لابن المهاجرين الباكستانيين.