تميزت الدبلوماسية المصرية في العقود الأربعة الأخيرة بالالتزام بمنهج “الموائمات” في توجهاتها وسياساتها حيال القضايا الإقليمية والدولية المختلفة، خاصة بعدما تعرضت له من نكبات وأزمات خلال الحقبة الناصرية، حيث اتبعت الخارجية المصرية مبدأ “البراجماتيكية” في التعامل مع المسائل العالقة لاسيما التي تقف القاهرة فيها على نفس المسافة من جميع الأطراف المتنازعة.
ونحن على مشارف العقد الرابع من أزمة الصحراء الغربية والتي طفت على السطح منذ 1975م، وطيلة هذه الفترة الطويلة وقفت مصر من تلك الأزمة موقف المحايد السلبي، حتى وإن دعمت موقف المغرب وأحقيته في استرداد هذه المنطقة، فلم تخرج عن الخارجية المصرية أي بيانات طيلة هذه الفترة تطالب فيها بأحقية المغرب في الحفاظ على وحدة أراضيه، أو تتخذ موقفًا من الجزائر لدعمها جبهة البوليساريو الساعية إلى الاستقلال بهذه المنطقة تحت مسمى “الجمهورية الصحراوية”.
وما بين غمضة عين وانتباهتها وفي أعقاب أحداث 30 يونيو والإطاحة بالرئيس محمد مرسي، ودخول المملكة العربية السعودية كشريك استراتيجي لدعم نظام ما بعد الإخوان، وما تلاه من تدفق المليارات السعودية لحكومة السيسي في محاولة لتثبيت أركانها وشرعنة وجودها السياسي والاقتصادي، إذ بالدبلوماسية المصرية تنتفض وتزأر من جديد لتؤكد دفاعها عن موقف المغرب في الصحراء، حتى وإن استعدت بذلك الأمم المتحدة وتضرب بتقاريرها عرض الحائط، وتطالب المجتمع الدولي بالقيام بمسؤولياته حيال هذه الأزمة.
موقف القاهرة جاء بالتزامن مع موقف الرياض المعلن والداعم شكلاً ومضمونًا للمغرب في قضيتها في مواجهة الجزائر وموريتانيا، مما يضع العديد من علامات الاستفهام حول الدلالات الزمنية للموقفين، فهل تحركت مصر إرضاءً للسعودية صاحبة الدعم والتمويل والمليارات؟ أم كان التحرك إيمانًا بالقضية نفسها والتي كانت حبيسة “ثلاجة ” الدبلوماسية لعقود طويلة؟ أم أن هذا الموقف جاء معاقبة للجزائر على موقفها من الأزمة الليبية ورفضها للتدخل العسكري الدولي كما كانت تريد القاهرة؟ هذا ما يسعى “نون بوست” للإجابة عنه خلال هذا الطرح.
الصحراء الغربية… أزمة متجددة
تعد أزمة الصحراء المغربية من القضايا الجدلية التي تؤرق منظومة الاستقرار في دول المغرب العربي، إثر الخلاف السياسي المحتدم بين الثلاثي ( المغرب – الجزائر – موريتانيا) على هذه المنطقة، وهو ما تسبب في أزمات دبلوماسية عديدة بين الدول المتناحرة.
ترجع بداية أزمة الصحراء الغربية والتي تبلغ مساحتها 266 ألف كم2، وتنقسم إلى قسمين هما: الساقية الحمراء شمالاً، ووادي الذهب جنوبًا، إلى ما قبل الانسحاب الإسباني منها عام 1975م، حيث أدعت كل من الدول المجاورة أحقيتها في هذه المنطقة الحيوية.
والملاحظ أن اختلاف الدول المحيطة بالصحراء الغربية على المستوى الإيديولوجي وعلى مستوى التوجهات السياسية والمصالح أدى إلى تعميق المشكلة، وظهور نزاعات متوالية، بالإضافة إلى ذلك، فموقع الصحراء الممتد على طول الواجهة الغربية للساحل الأطلسي منحها موقعًا استراتيجيًا مهمًا، والمعروف في الجغرافيا السياسية أن المناطق الساحلية تحظى بمكانة خاصة مقارنة بالأقاليم القارية.
المغرب تنظر إلى الصحراء الغربية على أنها جزء من أرضها اقتطعه الاستعمار الإسباني والأوروبي كما اقتطع من بقية الدول المجاورة الأخرى، وترى أحقيتها في استعادته بعد انسحاب الدول المستعمرة.
أما الجزائر وإن كانت غير معنية بالقضية من حيث الجغرافيا، إلا أنها تدعم وبقوة جبهة البوليساريو الرامية إلى انفصال الصحراء والاستقلال بها، وهو ما يضعها في موقف صدامي مع المغرب، إذ تنظر الجزائر للمغرب على أنها المستعمر الحالي للصحراء الغربية ومن ثم فتحولت المغرب من جارة حدودية إلى عدوة مستعمرة وهو ما أدى إلى تفاقم الأزمة بين الدولتين طيلة العقود الماضية.
أما موريتانيا، فقد أعلنت أن لسكان الصحراء الغربية نفس التقاليد والعادات التي لدى الشعب الموريتاني، وعلى هذا الأساس طالبت بالجزء الجنوبي من الصحراء الغربية، ثم ما لبثت أن تراجعت عن مطالبها، ودعمت جبهة البوليساريو في حقها في الاستقلال بما يسمى “الجمهورية الصحراوية”، وفي سنة 1979 تم توقيع اتفاق السلام بين موريتانيا والجمهورية الصحراوية بالعاصمة الجزائرية والذي بموجبه انسحبت موريتانيا بصفة نهائية من الجزء الذي كانت تحتله من تراب الصحراء الغربية واعترفت بالجمهورية الجديدة.
وقد شهدت العلاقات المغربية الجزائرية انحدارًا رهيبًا في أواخر فبراير الماضي، وذلك بعد تقديم الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان تقريره حول وضعية عملية التسوية الأممية بالصحراء والخيارات المستقبلية لها، والتي تمثلت في: إجراء الاستفتاء، منح حكم ذاتي موسع في إطار السيادة المغربية، تقسيم الصحراء بين البوليساريو والمغرب، سحب بعثة مينورسو من الصحراء، وهو ما رفضته المغرب تمامًا، واعتبرته تدخلاً سافرًا في الشؤون الداخلية المغربية، مما تسبب في أزمة دبلوماسية بين المغرب والأمم المتحدة تم احتواؤها مؤخرًا بعد تدخل عدد من الدول.
السعودية وأزمة الصحراء الغربية
تعد المملكة العربية السعودية من أوائل الدول الداعمة لحق المغرب في استرداد الصحراء الغربية بوصفها جزءًا أصيلاً من أرضه اقتطعه الاحتلال، حيث عبرت الرياض في أكثر من موقف عن إيمانها بعدالة قضية المملكة المغربية في وحدتها الترابية، ودعمها المتواصل لجهود المغرب الرامية إلى وضع حل نهائي وسلمي للنزاع حول الصحراء.
العديد من الشواهد والأدلة تؤكد حرص السعودية على التواجد المستمر خلف القيادة المغربية في حربها من أجل استعادة الصحراء الغربية، وهو ما اتضح جليًا في الدعم منقطع النظير الذي أولته بلاد الحرمين لقيادة المغرب في الأزمة الأخيرة التي نشبت بسبب تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون والتي طالب فيها بتقسيم الصحراء ما بين المغرب والبوليساريو، كما أن الدعم السعودي لهذه القضية تجلى بصورة واضحة حين أقدمت المملكة على إطلاق اسم “الصحراء المغربية” على أحد شوارعها بمدينة الرياض، وهو ما اعتبره البعض تأييدًا لا يقبل الشك.
وفي المقابل هناك من اعتبر الإصرار السعودي على دعم حق المغرب في الصحراء الغربية نوعًا من العقاب للجزائر، لاسيما بعد شذوذها عن الخط العام الذي ترتضيه الرياض لاسيما فيما يتعلق بالموقف من حزب الله والأزمة السورية واليمنية.
الجزائر التي أعلنت رفضها التام للتصويت على اعتبار “حزب الله” منظمة إرهابية في الاجتماع قبل الأخير للجامعة العربية بتونس، فضلاً عن تأييدها للنظام السوري الحالي برئاسة بشار الأسد وما تلا ذلك من زيارات متبادلة بين الجانبين، إضافة لرفضها الانضمام لـ “التحالف العربي” ضد اليمن، استحقت بما أقدمت عليه العقاب الشديد، ولم تجد الرياض أفضل من “الصحراء الغربية” سوطًا تجلد به بوتفليقه ونظامه، إيمانًا منها بالتأثير الذي من الممكن أن تقوم به هذه الأزمة في إزعاج الجزائر وتهديد استقرارها ووحدة أراضيها.
العلاقات المصرية الجزائرية والتغير المفاجئ
العلاقات بين مصر والجزائر مرت خلال الخمسة عقود الأخيرة بالعديد من المرتفعات والمنخفضات، ساهمت بشكل كبير في إصابتها بالعديد من الشروخ السياسية والاقتصادية والشعبية، ففي عهد جمال عبد الناصر، بلغت العلاقات بين البلدين قمة ازدهارها، حيث ساعدت الجزائر آنذاك تحت رئاسة هواري بومدين مصر بشكل قوي بالجنود والعتاد في حرب أكتوبر 1973 مع إسرائيل.
واستمرت العلاقات في أوج نموها حتى وصول السادات إلى الحكم في مصر، خصوصًا بعد زيارته للقدس في نوفمبر عام 1977، حيث تعرضت العلاقات إلى هزة عنيفة، أعقبها ترديًا أكثر وأكثر في عهد مبارك، حتى إن الجزائر، قبل 25 يناير بسنة واحدة، أقدمت على قطع تصدير الغاز الطبيعي لمصر نتيجة تأخر الأخيرة في دفع مستحقاتها المالية وكذلك ما اعتبرتها، حسب الصحف الجزائرية، إساءة لشعب الجزائر بإعادة تصدير مصر للغاز الجزائري إلى إسرائيل.
وبعد 30 يونيو اختارت القاهرة تقوية علاقتها مع الجزائر رغم الخلافات بينهما، وقد ظهر جليًا هذا التقارب تبادل الزيارات رفيعة المستوى بين البلدين، كما أن الجزائر أعادت استئناف إمداد مصر بالغاز بعد انقطاع دام خمس سنوات.
وبالرغم من أن معظم المؤسسات الإعلامية الجزائرية ولاسيما الخاصة منها، لازالت ترى أن “30 يونيو” انقلابًا عسكريًا كامل الأركان، حيث شنت صحيفة الشروق الأكثر انتشارًا في الجزائر، حملات إعلامية لاذعة ضد ما تسميه “الحكم الانقلابي العسكري”، ودافعت بشراسة عن “الرئيس الشرعي” محمد مرسي بعد وقبل إسقاط، إلا أن هذا لم يثن نظام السيسي عن تحسين الأجواء مع الجزائر بغية استئناف تصدير الغاز خاصة بعد توقف توريده من دولة قطر.
وبينما يتوق نظاما السيسي وبوتفليقه إلى تفعيل لغة الحوار والتعاون المشترك بينهما، إذ ألقت الأزمة الليبية بظلالها القاتمة على الأجواء بين الدولتين، لتضيف خلافًا جديدًا قد يزيد الشروخ السياسية بين الجزائر والقاهرة، حيث تتوق القيادة السياسية المصرية إلى محاربة الفصائل الإسلامية المتواجدة بليبيا، ما حذا بها إلى اقتراح قوة مشتركة للتدخل عسكريًا في ليبيا، غير أن الجزائر رفضت الاقتراح وأبدت تحفظها من محاولة مصر تصفية حساباتها الداخلية على حساب أمن المنطقة، وفضلت الحل السلمي من خلال الحوار بين مختلف الفرقاء الليبيين كطريق لمعالجة الأزمة الليبية، وهو الأمر الذي أيدته الأمم المتحدة وسارت على نهجه.
إرضاء للرياض أم معاقبة للجزائر؟
جاءت تصريحات وزير الخارجية المصري سامح شكري أواخر الأسبوع الماضي بشأن دعم بلاده لموقف المغرب من قضية الصحراء الغربية، بعد سنوات من الصمت حيال الإعلان عن دعم أي من أطراف الأزمة ضد الآخر، لتضع العديد من علامات الاستفهام حول اختيار هذا التوقيت بالذات لتبني وجهة نظر المغرب في مواجهة الجزائر.
شكري أشار أن بلاده تهتم بقضية الصحراء وتتابعها منذ مدة طويلة، إلا أنها في هذا الوقت قد اختارت التيار الذي تدعمه، قائلاً “تلتزم بأهمية أن تتم معالجة هذه القضية في إطار الشرعية الدولية، وفقًا للقرارات الصادرة عن مجلس الأمن والمسار الذي يرتضيه المغرب في هذا الشأن”، مؤكدًا على دعم القاهرة للمغرب بعد التوتر الأخير الناجم عن تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون خلال زيارته الأخيرة للمنطقة، مؤكدًا أن المغرب دولة لها مكانتها ولها تقديرها لدى الشعب المصري ولدى القيادة المصرية.
الموقف المصري المفاجئ من الأزمة والمتبني لوجهة نظر واحدة دون الأخرى، لا يخرج عن سيناريوهين لا ثالث لهما، في محاولة للوقوف على دلالاته والعوامل التي تداخلت في بنائه على هذه الشاكلة.
- السيناريو الأول
محاولة إرضاء الحليف السعودي، فالقاهرة في هذه الظرفية تسعى دومًا لاتخاذ المواقف التي تحقق لها مصالحها السياسية والاقتصادية بصرف النظر عن البُعد التاريخي أو القانوني للأزمة، فمن يتابع الدلالات الزمنية والظرفية لتبني مصر موقف المغرب في أزمة الصحراء الغربية يجد أن هناك تطابق واضح مع مواقف دول الخليج، لاسيما المملكة العربية السعودية، والتي وقفت بجوار مصر منذ الإطاحة بالرئيس محمد مرسي في 2013، ودعمت نظام السيسي بعشرات المليارات من الدولارات، فكان لزامًا على مصر أن ترد الجميل للقيادة السياسية السعودية، داخليًا وخارجيًا، فبالأمس تنازلت مصر عن جزيرتي صنافير وتيران للرياض كأحد مقررات إعادة ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، واليوم القاهرة تدعم الرياض – التي لن تنسى للجزائر مواقفها السياسية الأخيرة – في موقفها الخارجي من الصحراء الغربية.
- السيناريو الثاني
معاقبة الجزائر، فبالرغم من التقارب بين مصر والجزائر منذ الإطاحة بأول رئيس مدني منتخب في تاريخ أرض الكنانة، والدعم البترولي الذي قدمه بوتفليقه لمصر، إلا أن القاهرة لا تنسى للجزائر تجاوزات بعض القوى السياسية المعارضة فيها، فضلاً عن دعم مؤسسات الإعلام الرسمي والخاص لجماعة الإخوان المسلمين، والرئيس الشرعي للبلاد، والثبات على أن ما حدث في 3 يوليو انقلابًا عسكريًا مكتمل الأركان.
ثم جاء الخلاف السياسي بين البلدين حول التدخل العسكري الخارجي لمحاربة الفصائل المسلحة في ليبيا ليزيد حجم الهوة بين القاهرة والجزائر، مما دفع بالأولى إلى عقاب الثانية من خلال دعم المغرب على حسابها في قضية أزمة الصحراء الغربية، وبالتالي تضرب القاهرة “عصفورين بحجر واحد” كما يقول المصريون، فمن ناحية تقدم قرابين الولاء والعرفان بالجميل للسعودية أحد أبرز الداعمين للنظام المصري الحالي، ومن ناحية أخرى معاقبة الجزائر على تصديها للمشروع المصري الرامي إلى تفريغ الساحة الليبية من أي مقومات ثورية، بما يقضي على أي أمل في مواصلة قطار الربيع العربي سيره في دول المنطقة وهذا ما تسعى إليه القاهرة والرياض في نفس الوقت.