شهدت الساحة السياسية التركية خلال الأيام الماضية تطورات جديدة ارتكزت بالأساس لقيام حزب العدالة والتنمية الحاكم بطرح فكرة حزمة تعديلات دستورية بخصوص مهام وطبيعة منصب رئيس الجمهورية في الدستور الحالي، في دفعة واضحة نحو نظام أكثر انحيازًا لمؤسسة الرئاسة يحتاجها الحزب حاليًا حتى قبل خوض مناقشات الدستور الجديد والإعداد له، والتي ستتطلب وقتًا أطول على ما يبدو.
“حزمة دستورية مصغّرة” كما وُصفَت ستتيح لرئيس الجمهورية أن ينتمي لحزب سياسي، على عكس ما تنص عليه المادة 101 من الدستور الحالي والتي تقضي بضروره قطع الصلة بين الرئاسة والأحزاب السياسية لترسيخ حيادية الرئيس كمنصب شرفي تنفيذيًا ورمزي للجمهورية، وستضيف تعديلات على المادة 104، والتي تنص على أن الرئيس هو رأس الدولة، لتنص بعد تعديلها على أن الرئيس هو “رأس الدولة والجهاز التنفيذي،” طبقًا لمصادر من داخل الحزب.
كانت الاقتراحات قد تبلورت أثناء اجتماع الرئيس رجب طيب أردوغان مع مجموعة من نواب الحزب الحاكم في البرلمان خلال الأسبوع الماضي، إبان إعلان رئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو عن استقالته وعدم ترشحه لرئاسة الحزب في جمعيته العمومية 22 مايو القادم، وتمت الموافقة عليها كما صرّح نائب رئيس الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية نور الدين جانقيلي، قائلًا أن التعديلات الخمسة ستركّز على تحويل مؤسسة الرئاسة إلى مؤسسة قابلة للانتماء للأحزاب التركية، وهو تحوّل واضح نحو النظام الرئاسي فعليًا.
تتضمن التعديلات أيضًا إمكانية أن يصبح الرئيس، ليس فقط عضوًا بحزبه، ولكن رئيسًا له يمارس مهام ترأس اجتماعاته وحضور جمعياته العمومية وحملاته الانتخابية، في نفس الوقت الذي يظل فيه رئيس الوزراء على رأس الحكومة في نموذج أشبه بالنموذج الفرنسي ولو مؤقتًا حتى تتضح معالم الدستور الجديد، وبالنظر لعدم امتلاك حزب العدالة والتنمية أغلبية الثلثين اللازمة لتمرير هكذا تعديل كما ينص الدستور، إذ يمتلك الحزب 317 مقعدًا فقط في حين يحتاج إلى 367 لتمريره مباشرة، أو على الأقل 330 لطرحه لاستفتاء، فإن الحزب سيكون بحاجة إلى الحصول على دعم 13 نائبًا إضافيًا قبل الإعلان عن حزمة التعديلات المفترض تقديمها في البرلمان الشهر القادم، وطرحها لاحقًا لاستفتاء.
السيناريو الأول لتمرير تلك الحزمة هو أن ينجح الحزب في استقطاب 13 نائبًا من الأحزاب الموجودة وهو أمر شبه مستحيل حاليًا، أما السيناريو الثاني والأوقع فهو الحصول على دعم واحد من الأحزاب بالبرلمان الحالي والتي يمتلك كل منها 40 مقعدًا على الأقل، ولكن مَن مِن بين الأحزاب الموجودة الآن يمكنه أن يُسدي تلك الخدمة لحزب العدالة؟ يستحيل بالطبع أن يكون حزب الشعب الجمهوري العلماني الذي يصر بقوة على عدائه للنظام الرئاسي، ويستحيل أيضًا أن يكون حزب الشعوب الديمقراطي الكردي بالنظر للتوتر الكبير بين الحكومة والحركة الكردية التي يمثلها حاليًا، وهو ما يترك حزب الحركة القومية التركية صاحب التوجهات اليمينية والقواعد الشعبية المحافظة كخيار واحد ممكن، بل وممكن جدًا بالنظر لما يجري داخل أروقة الحزب مؤخرًا.
الكرة بين القصر والحركة القومية
دولت بغشلي رئيس حزب الحركة القومية
لعله كان أبرز تصريح لدولت بغشلي، رئيس حزب الحركة القومية العريق، منذ دخوله البرلمان في انتخابات نوفمبر الماضي جريحًا بعد خروجه كأكبر خاسر من حيث عدد الأصوات والمقاعد، وحلوله في المركز الرابع بعد حزب الشعوب الكردي في أول مرة يتفوق فيها الحزب الكردي على الحزب الممثل للقومية التركية، لكن الضعف الحالي الذي يعانيه الحزب علاوة على الانشقاقات داخل الحزب، قد دفعلت ببغشلي للإدلاء بذلك التصريح الذي قلب الصحافة التركية رأسًا على عقب: “إننا على استعداد لأن يكون دعمنا الحالي الفعلي للحكومة دعمًا تشريعيًا أيضًا لحماية المصالح القومية والتاريخية لتركيا… ولطالما استمرت الحكومة في محاربة الإرهاب فإن دعمنا لها سيكون غير مشروط.”
بتلك الكلمات ألقى بغشلي الكرة في ملعب أردوغان، معلنًا ببساطة أن الأربعين مقعدًا التي يمتلكها حزبه في البرلمان متاحة للتعاون مع الحزب الحاكم، وهو موقف يحاول به بغشلي إنقاذ ماء وجهه بعد توتر الأوضاع داخل حزبه، فهناك جبهة جديدة تتبلور داخل الحزب من المعارضين لتوجه بغشلي الداعم للحكومة، والمطالبين بتبني مواقف أكثر حدة تجاه أردوغان، وهي جبهة نجحت في استصدار قرار بعقد جمعية عمومية طارئة للحزب 15 مايو المقبل لطرح أسماء جديدة تقود الحزب، في معركة قد لا ينجو منها بغشلي.
بغشلي هو الوجه الوحيد القديم في الساحة السياسية التركية ما بعد 2002، فهو يتربع على عرش الحركة القومية منذ التسعينيات، وكان صعوده في الحزب يمثل الابتعاد بالحركة القومية عن العنصرية العرقية والعلمانية، والاقتراب أكثر من فكرة القومية المحافظة القادرة على كسب بعضًا من قواعد الإسلاميين، وهي سياسات تنعكس بوضوح في مواقف كثيرة ظهر فيها داعمًا للعدالة والتنمية، أشدها هذه الأيام بينما يصارع للبقاء لفترة أطوال على رأس حزبه، ويحاول ربما أن يقنع أردوغان بأن يرمي له طوق النجاة مقابل دعم تشريعات الحزب الحاكم.
لم يكن غريبًا إذن منذ أيام أن يقوم الحزب بطرح مقترح تشريع جديد يقضي بمنح راتب شهري ثابت يبلغ عشرة آلاف ليرة من جانب الجمهورية التركية لأعضاء الأسرة العثمانية الباقين على قيد الحياة، وهو ما علله الحزب بمرورهم بأزمات مالية مؤخرًا، على حد قول النائبين اللذين دفعا قدمًا بالمشروع وهما مصطفى قاليَجي، والوجه المألوف للكثيرين أكمل الدين إحسان أوغلو، الرئيس السابق لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وصاحب التوجهات الإسلامية المعروفة الذي انضم لركب الحركة القومية في الانتخابات الأخيرة.
نجاح الحزب في ضم صفوف شخص مثل إحسان أوغلو، والتشريعات القريبة من توجهات الشرائح المحافظة كالتشريع “العثماني” المذكورة أعلاه، والذي لم يكن يمكن تصوره ربما أيام تمسك الحزب بمبادئ الجمهورية الأتاتوركية العلمانية قبل رئاسة بغشلي، تشي بوضوح بالتغييرات التي طرأت الحزب ليتمكن من حصد أصوات أكبر، وتشي في الحقيقة بأزمة تعريف جذرية لدى الحزب، والذي لم يكن لينجح في البقاء على الساحة السياسية لولا إعادة توجيهه نحو القواعد المحافظة في السنوات الأخيرة، ولكنه في نفس الوقت يبدو في طريقه لفقدان طابعه الخاص تدريجيًا لصالح الاندماج في صفوف كُتلة محافظة واسعة.
العدالة والتنمية ينتصر في جميع الأحوال
مرال أكشَنَر غريمة بغشلي الرئيسية في حزب الحركة
في تلك المعركة التي يخوضها بغشلي لعل أردوغان سيخرج منتصرًا في جميع الأحوال، فاستمرار بغشلي سيعني ببساطة بقاء حليف فعلي قوى في البرلمان سيساعده حتمًا في تمرير التعديلات التي يريد، أما بروز قيادة جديدة مع الانقسامات المتوقعة لحركة تلك والضعف الواضح للحزب الذي صارت صراعاته عنوانًا للصحف بين الحين والآخر، فيعني أن الحزب ربما لا ينجح في تخطي عتبة الـ10% ودخول البرلمان حال جرت انتخابات مبكرة، وبالتالي فالحزب يضعف في جميع الأحوال بشكل يعزز من هيمنة العدالة والتنمية على القواعد المحافظة، في حين سيمثل بقاء بغشلي مجرد مكسب إضافي.
في هذه الأثناء إذن نكون على موعد مع جمعيتين عموميتين هامتين في الأيام المقبلة، أولها لحزب الحركة القومية في 15 مايو وثانيها لحزب العدالة والتنمية في 22 مايو، ولا نعرف على وجه اليقين حتى الآن ما إن كانت الأولى ستنعقد أم لا، فقد حكمت محكمة منذ أسابيع بعدم أحقية عقد جمعية عمومية طارئة بناءً على احتجاج تقدم به بغشلي، قبل أن تحصل جبهة معارضيه على حق عقدها من جديد في 15 مايو.
الجبهة الجديدة داخل حزب الحركة القومية تقودها مرال أكشَنَر، التي يتهمها أنصار بغشلي في الحزب بتمثيل حركة كولن التي قررت على ما يبدو وضع رهانها في صراعها مع العدالة والتنمية على حزب الحركة القومية وتعزيز أرصدته بين المحافظين مقابل الإطاحة ببغشلي، وهي ادعاءات كذّبتها بالطبع مرال في حوار تلفزيوني مؤخرًا، “ليس صحيحًا أبدًا إنني مشروع “موازي”… بل بغشلي بوضوح هو الذي يمثل شخصية موازية داخل الحزب،” هكذا تحدثت مرال مستخدمة تعبير الحكومة في الإشارة لحركة كولن ككيان موازي، وفي تهكم واضح على مواقف بغشلي الداعمة لأردوغان الآن.
في جميع الأحوال تبدو أرصدة الحزب الحاكم في طريقها للزيادة، فحال نجحت مرال في ضرب جبهة بغشلي وعقد الجمعية العمومية بالفعل في 15 مايو المقبل والفوز فيها، سيكون أردوغان قد خسر حليفًا ولكن حليف يزداد ضعفه نظرًا لمشاكله الداخلية، وحينها فإن الاتجاه لانتخابات مبكرة قد يزداد قوة كخيار يتمكن عن طريقه الحزب من زيادة مقاعده في البرلمان، والعودة إلى عصره الذهبي عام 2002، حين أدى خروج الحركة القومية من البرلمان لاستحواذ العدالة والتنمية على أغلبية الثلثين، وهو خروج غير مضمون بالطبع بالنظر للدعم الذي سيحظى به حزب الحركة حينئذ من حركة كولن في الانتخابات، لكنه راجح وفق الاستطلاعات الأخيرة، ناهيك عن احتمالية خروج حزب الشعوب الكردي هو الآخر بسبب عدم رضا قطاعات واسعة من الأكراد عن سياساته في الأزمة الأخيرة.
فوق كل ذلك، وحال فازت مرال أيضًا، قد يتمكن الحزب الحاكم في الحقيقة من خلخلة كتلتها البرلمانية، وحينئذ فإن جذب 13 نائبًا من نوابه المحسوب بعضهم بالتأكيد على جبهة بغشلي قد يكون ممكنًا للمفارقة بشكل يتيح له تمرير التعديلات التي يريد، بل وترسيخ صورة حزب الحركة القومية كحزب ضعيف، ليضرب بذلك عصفورين بحجر في هذا البرلمان والذي يليه، ولذا فإن العدالة والتنمية يبدو فائزًا في كافة السيناريوهات في المرحلة المقبلة، ويبدو قادرًا كما تقول المؤشرات، على تمرير النظام السياسي الجديد الذي يريد.