يشهد العالم تغييرات متسارعة في كل المجالات وترتبط هذه المتغيرات بالحاجة الإنسانية بالدرجة الأساس، فقد أدرك العالم ولو بعد حين ضرورة الاستجابة للرغبة البشرية بكون الإنسان كائنًا اجتماعيًا لا يمكن له أن يعيش منعزلاً عن غيره ولا يمكن له أن يلبي احتياجاته اعتمادًا على إمكانياته الذاتية، بل لا بد له من الاستعانة بغيره وتبادل المنفعة.
وأمام هذا التوجه بدأت دول العالم بتشكيل التحالفات والاتحادات والابتعاد شيئًا فشيء عن التشرذم، ورغم الاختلافات الواضحة بين هذه الدول في اللغة والتاريخ والعادات والتقاليد والدين والمعتقد السياسي، فقد استطاعت تجاوز هذه الاختلافات والاتجاه لتلبية مصالح شعوبها والانصهار في منظومة موحدة متكاملة اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا وأمنيًا، ولعل خير مثال على ذلك تأسيس الاتحاد الأوروبي الذي حقق نهضة كبيرة لشعوب الدول الأوروبية، وأيضًا ساهم بشكل كبير في تضاؤل حجم تأثير سياسة القطب الواحد التي انتهجتها أمريكا لفترة من الزمن وقبلها سياسة القطبين التي شارك فيها الاتحاد السوفيتي السابق أمريكا في الهيمنة على مقدرات العالم احتكامًا إلى منطق القوة.
لذلك يمكن القول أنه لا يمكن الآن لأي حكومة أن تواجه التحديات وتضمن حقوق شعبها وأن تحقق أمنه الغذائي والذاتي دون أن تكون جزءًا من منظومة دولية واسعة وذات تأثير يمكن له أن يفرض إرادةً وينتج أثرًا مباشرًا على الواقع، وأمام هذا التوجه الجديد يمكن القول أنه قد نشأت قوميات جديدة وشعوب جديدة بل حتى قارات جديدة، ولم يعد للعالم بشكله القديم وجود حقيقي بل نشأ عالم جديد، عالم متماسك ومتوحد لارتباطه في تشكيله بالأساس بالحاجة الإنسانية التي لا يمكن لها أن تتغير بحكم الطبيعة التي خلقنا عليها الله سبحانه وتعالى.
وأمام الواقع الجديد الذي أخذ يفرض وجوده على الساحة الدولية نجد عالمنا العربي وكالعادة لازال متخلفًا عن إدراك هذه المتغيرات ولا زال يؤمن بالمحلية والقطرية الضيقة، بل إنه ازداد تشرذمًا بعد أن لعبت الدول الكبرى في العالم الجديد بمقدرات العالم العربي ورسمت له أمام ضعف الحكومات خارطة طريق تقود إلى مزيد من التشرذم والفرقة من خلال توسيع الهوة بين مكونات هذا العالم وتأجيج النزاعات القومية والطائفية بين الدول العربية، فارتضت للأسف حكوماتنا بأن تكون أداة لقوى دولية وظيفتها سحق شعوبنا ودفعها إلى مزيد من الاقتتال والفرقة لتتمكن هذه القوى من فرض هيمنتها ودون حروب على عالمنا العربي تحت حجة تأمين الحماية الدولية أو تقديم المنح والإعانات أو غيرها من الحجج التي لا أساس لها من الواقع.
وخير مثال على ذلك ما حصل في السنوات الأخيرة من كوارث في الدول العربية التي كان يمكن لها بشيء من الجهد أن تغادر خانة العالم الثالث، ونقصد هنا العراق ومصر وليبيا وسوريا، فنجد الآن شعوب هذه الدول تتقاتل فيما بينها، ونجد أيضًا تنامي فكر خطير بتوجيه من القوى الدولية التي أشرنا إليها فحواه ضرورة تأسيس أقاليم أو فيدراليات على أساس طائفي في هذه الدول كضرورة ملحة لتحقيق الأمن، وبالتالي وجدنا أنفسنا نندفع بجهل كبير لتنفيذ ما تم إملاؤه على بعض حكوماتنا العربية لنعمل على تجزئة البلد الموحد إلى دويلات صغيرة متنازعة ومتقاتلة ولا تمتلك أدنى مقومات الدولة، فتظل بحاجة دائمة للحماية الدولية التي توفرها بالطبع دول العالم العظمى التي كنا لوقت قريب نسميها بالقوى الاستعمارية.
فانظروا إلى المفارقة، العالم المتحضر يتجه إلى التوحد ونحن نتجه إلى التشرذم، حكومات العالم الجديد انصاعت لرغبات شعوبها ورضيت بأن تمارس دورًا قياديًا جمعيًا في إدارة شؤونها، ونحن نعمل جاهدين على عسكرة مجتمعاتنا وخلق أقطاب متنافسة وزرع المزيد من الفرقة والانقسام، ونتفنن في امتهان كرامة المواطن العربي وانتهاك حقوق الإنسان، فرضينا لأنفسنا كشعوب أن نكون الضحية والجلاد، وارتضى بعض حكامنا لأنفسهم بأن يكونوا بيادقًا تحركها دول وقوى أصبحت تتحكم بمصير العالم الجديد.
أمام الوضع الحالي لا بد من إيجاد حلول، وقد يكون ما نطرحه مخالفًا لمعتقد الكثيرين لكنه واقع لا بد من مواجهته، فمسألة الرهان على القومية والاتجاه نحو تحقيق الوحدة العربية التي طالما تغنت بها الأحزاب القومية، نعتقد أنها أصبحت رهانًا خاسرًا، وهذا الهدف رغم مشروعيته أصبح هدفًا صعب التحقيق بل يبدو مستحيلاً، لذلك يجب أن نصارح أنفسنا ونعترف بأنه لم يعد هناك وجود لشيء اسمه الوطن العربي أو الأمة العربية، وعلى حكومات الدول العربية أن تبحث عن مصالح شعوبها والسعي لإدراك ما فاتنا والإسراع للانخراط في منظومة دولية تحقق مصلحة شعوبها وتجعلنا كعالم عربي قريبين من الواقع.