ربط الكثيرون بين التغييرات الإدارية والوزارية الأخيرة التي أجراها العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، وبين خطة “رؤية المملكة 2030″، إلا أنه كالعادة في السياسة العربية، بالذات في بلدان تُعتبر الأنظمة الحاكمة فيها، ظواهر سياسية فريدة من نوعها مثل المملكة العربية السعودية؛ لا يمكن الركون فيها إلى التفسيرات المعلنة للأمور والأحداث الكبيرة، والتي من هذا النوع.
مبدئيًّا؛ شملت هذه التغييرات بعض الأمور الشكلية التي يمكن وضعها في إطار “الرغبة في الظهور بمن يقوم بإجراءات تنفيذية من نوع ما، من دون عمق أو مبرر حقيقي لازم.
فبالنظر إلى القرار الملكي الذي شمل هذه التغييرات؛ سوف نجد بعض الأمور التي لا يمكن أن ترتبط بأي إطار استراتيجي تنفيذي للرؤية؛ فهناك مثلاً تعديل اسم “الرئاسة العامة للأرصاد وحماية البيئة” ليكون “الهيئة العامة للأرصاد وحماية البيئة”، وتعديل اسم “الرئاسة العامة لرعاية الشباب” ليكون “الهيئة العامة للرياضة”.
وهناك التغيير الشهير الذي يحدث تقريبًا في كل عهد ملكي جديد في السعودية، وهو دمج وزارة العمل مع وزارة الشؤون الاجتماعية، وهو تغيير يحدث ربما مرتين في بعض الأحيان بالدمج والفصل بين الوزارتَيْن.
كذلك إلغاء وزارة المياه والكهرباء؛ فهي بالأصل وزارة مصطنعة بطريقة الفك والتركيب هذه؛ حيث كانت المياه تتبع وزارة قديمة تم إلغاؤها بدورها، وهي وزارة البيئة والمياه والزراعة، بينما كان قطاع الكهرباء وزارة وحده تارة، أو تابعًا لوزارة الصناعة، والتي تم دمجها بدورها مع وزارة التجارة، قبل أن ينتقل القطاعان، الصناعة والكهرباء بالكامل في التغييرات الأخيرة، وإلحاقهما بوزارة البترول والثروة المعدنية، ولكن بمسمَّىً جديد، وهو “وزارة الطاقة والصناعة والثروة المعدنية”.
أما وزارة الحج التي صارت وزارة الحج والعمرة؛ فلا جديد سوى المسميات؛ حيث إنه ومنذ البداية، فإن الوزارة مسؤولة عن العمرة، كما أنها هي ليست الجهة الحكومية الأهم في إدارة ملف الحج على وجه الخصوص؛ حيث إن هناك لجنة الحج العليا، وتضم العديد من الوزارات والهيئات الحكومية، ويرأسها وزير الداخلية في الغالب، وهو حاليًا ولي العهد، الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز، والوزارة جزء منها.
ومثل ذلك تعديل مسمى “الرئاسة العامة لرعاية الشباب” ليكون “الهيئة العامة للرياضة”؛ حيث إن هذا التغيير متواتر، تمامًا مثل موضوع ربط وفصل قطاعَيْ العمل والشؤون الاجتماعية عن بعضهما البعض في وزارة واحدة أو وزارتَيْن، في الكثير من القرارات الملكية السابقة، منذ تأسيسها في العام 1974م.
على هذا النحو جاءت التغييرات الأخيرة التي قام صدر بها قرار ملكي من الملك سلمان، في دولاب العمل الحكومي.
ولكن وفق كل المدارس الإدارية في الاقتصاد؛ فإن غالبية التغييرات التي تمت “شكلية” ولا تؤثر سلبًا أو إيجابًا في صدد تحسين قدرة الجهاز الحكومي السعودي على تنفيذ متطلبات خطة تنموية طموحة بحجم “رؤية المملكة 2030”.
بل ربما إن هذه التغييرات على هذه الصورة؛ قد يكون فيها بعض الجوانب السلبية؛ حيث إنها ألقت بالكثير من الأعباء البيروقراطية والإدارية على المؤسسات الحكومية المسؤولة عن أهم القطاعات الاقتصادية التي تتضمنها الرؤية، وتعطيها الأولوية، وهي قطاعات الطاقة والصناعة والاستثمار.
فأبسط الأمور؛ فإن استيعاب معطيات هذه التغييرات على المستوى الإداري والفني داخل الوزارات المعنية، سوف يستغرق الكثير من الوقت.
الرؤية فحسب؟!
قلنا إن هذه التغييرات لا ترتبط بالكامل بموضوع “رؤية المملكة 2030″؛ حيث توجد في الخلفيات الكثير من الأمور، والتي كانت تستدعي بعضًا منها.
على سبيل المثال؛ فإنه بالنظر إلى الإعفاءات النهائية من المناصب الوزارية؛ فسوف ندرك أن المسألة لا تتعلق فحسب بالرؤية الجديدة، باستثناء إعفاء المهندس علي بن إبراهيم النعيمي، الذي كان يشغل منصب وزير البترول والثروة المعدنية؛ حيث تم إعفاء بندر بن محمد بن حمزة أسعد حجار، الذي كان يشغل منصب وزير الحج، والمهندس عبد الله بن عبد الرحمن المقبل، الذي كان وزيرًا للنقل، على خلفية سلسلة المشكلات التي ضربت كلا القطاعَيْن، الحج، والنقل والمواصلات.
شهد العام الأول لحكم الملك سلمان، الكثير من الكوارث الحقيقية في قطاع الحج بالذات؛ حيث كان الموسم الأخير، موسم 1436هـ/2015م، أكثر من حادثة، من بينها رافعة الحرم، وتدافع جسر الجمرات، وراح ضحيتهما المئات من حجاج بيت الله الحرام.
كما أن قطاع النقل، جوبه بالكثير من الاتهامات بالفساد والتقصير من جانب بعض وسائل الإعلام السعودية، حتى المحسوبة على الحكومة، مثل الصحف الورقية التي تصدر في الداخل، مثل “عكاظ” و”الرياض” و”الوطن”، بعد وقوع سلسلة من الحوادث على بعض الطرق الجديدة التي تم تنفيذها في السنوات القليلة الماضية، بسبب مخالفتها للمواصفات، بشكل يعود إلى رغبة الشركات المنفِّذة في تسوية أمورها المالية بشكل أفضل مع الخزانة العامة السعودية، وتواطؤ بعض المسؤولين في الوزارات المعنية، ومن بينها وزارة النقل، في هذا الأمر، مما كان على حساب عوامل السلامة والأمان على هذه الطرق، وخصوصًا في مناطق غرب وجنوب المملكة.
هنا ثمَّة ملاحظة مهمة يجب التنويه لها، وهي أن هذا الموضوع، موضوع الفساد داخل الجهاز الحكومي، والرقابة عليه، هو من بين أهم الأولويات التي تتعامل معها القيادة السياسية السعودية من فترة طويلة نسبيًّا، ربما من أواخر عهد العاهل الراحل، الملك عبد الله بن عبد العزيز، ولكنه لم يأخذ ذلك الحيز من الاهتمام، إلا في عهد الملك سلمان.
فبشكل متواتر، ويومي بمعنى الكلمة، تحفل الصحف ووسائل الإعلام السعودية، بأخبار وتقارير تتعلق بأمرين.
الأمر الاول هو “جهود القيادة السياسية” في مجال الرقابة على الأداء الحكومي، ومتابعة نشاط الجهات والهيئات الرسمية التي تتعامل مع المواطن ومع مصالحه.
الأمر الثاني، تحسين مستوى الخدمات المقدمة للمواطنين، والتعامل مع مشكلاتهم بالشكل الذي لا يسمح بتطورها، أو انتقالها إلى مستوىً سياسي، مثل اجتجاجات أو ما شابه، أو يمس صورة الدولة الأبوية الريعية التي تنتمي إليها المملكة.
ابن سلمان وخلفية المشهد!
وربما كان هذا الأمر هو أحد أهم الخلفيات التي تقف خلف التغييرات الأخيرة، وهو أمر سياسي بالأساس، ولا يتعلق بقضية التنمية بالدرجة الأولى.
هنا أولاً، وجب التنويه أن غالبية القرارات التي يتبناها العاهل السعودي في هذا الاتجاه الذي نراه منذ أن تولى الملك سلمان الحكم، في يناير 2015م، كانت في إطار تحسين جناح السديريين في الحكم، وتصفية مراكز القوى التي غرسها الملك عبد الله، والتي لم يتبقَّ منها إلا الأمير متعب بن عبد الله، على رأس جهاز الحرس الوطني.
وبكل اطمئنان يمكن القول إن البواعث والخلفيات السياسية، كثيرًا ما تكون حاضرة في القرارات الرسمية الكبرى بشكل عام، لدى القيادة السياسية السعودية.
وحتى ما يتعلق بالرقابة على أداء الأجهزة الحكومية؛ فإنه يُعتبر في الوقت الراهن، أحد أهم أدوات تسويق ولي ولي العهد، ووزير الدفاع، الأمير محمد بن سلمان، الوجه الصاعد بقوة في السياسة الداخلية والإقليمية.
وهذا ليس قولي، ولكنه قول الكثير من تقارير أجهزة المخابرات والتقدير والمعلومات العالمية، وتكلمت عنها صراحة أطراف حكومية ألمانية وأمريكية، ومعاهد ومراكز تفكير مقربة للغاية من دوائر صناعة القرار والأمن القومي في بريطانيا والولايات المتحدة.
عكست التغييرات الوزارية والإدارية الأخيرة، الكثير من لمسات الأمير محمد بن سلمان؛ حيث جرى القسم الأكبر “غير الشكلي” منها، في القطاعات والوزارات التي تكلم عنها أكثر من مرة بشيء من عدم الرضا، في حواراته المكثفة الأخيرة مع “بلومبيرج” و”العربية”، وعلى رأسها قطاع النفط.
ولو ركزنا بؤرة الحديث في هذا الشق على موضوع استبدال الوزير النعيمي بالوزير خالد بن عبد العزيز الفالح، الذي انتقل من وزارة الصحة، لكي يتولى أهم وزارة في الحكومة السعودية في الوقت الراهن، وهي وزارة الطاقة والصناعة والثروة المعدنية؛ سوف نجد الكثير من بصمات الأمير محمد بن سلمان.
لم يخفِ الأمير محمد بن سلمان عدم رضاه عن أداء الوزارة وجهاز آخر كبير، وهو مجلس إدارة شركة “أرامكو” السعودية، أكبر شركة تعمل في مجال التنقيب واستخراج النفط في العالم، وهو بدوره، أهم قطاعات الاقتصاد السعودي.
ففي حديثه لوكالة “بلومبيرج”، ركز على أهمية إعادة هيكلة هذا القطاع برمته، وقال إن هناك أمورًا لا يمكن قبولها في الفترة الراهنة في قطاع الطاقة والنفط في المملكة، وعلى رأسها عدم وجود قطاع بتروكيماويات قوي، يخدم الاقتصاد السعودي، ويعمل على إفادة المملكة من ثرواتها الطبيعية في إطار صناعي، يرفد اقتصادها القومي، ويخرِج المملكة من دائرة الاقتصاد الريعي.
عرضت هذه الدائرة المغلقة الاقتصاد السعودي لهزات اقتصادية متواترة طيلة العقود التي تلت الطفرة النفطية في السعبنييات، بسبب انخفاض الأسعار، وتراجع الطلب، سواء لأسباب سياسية كما في الوقت الراهن، في ظل مساعي غربية لتقييد أسعار النفط، ضمن الضغوط الاقتصادية والسياسية على كل من روسيا وإيران، أو لأسباب اقتصادية، تتعلق بدورات رأس المال في الاقتصاد العالمي، والتي ترتبط باضطرابات عدة كل بضعة أعوام، كما وقع في نهاية التسعينيات فيما عُرِف بأزمة النمور الآسيوية، وفي العام 2008م، فيما عُرِف بأزمة القطاع المصرفي الأمريكي، وغيرها من الأزمات.
في الإطار السابق، لا يمكن فصل القرارات الأخيرة في صدد قطاع الطاقة في المملكة، عن سلسلة سابقة من القرارات استهدفت شركة “أرامكو” في عهد الملك سلمان، وكان آخرها في مطلع مايو الجاري، عندما أقر المجلس الاقتصادي الأعلى في السعودية، إعادة هيكلة الشركة، وتشكيل مجلس أعلى جديد لها برئاسة الأمير محمد بن سلمان، وفصلها عن وزارة النفط والثروة المعدنية، وإعطاءها المزيد من الاستقلالية.
كما تم كذلك حل المجلس الأعلى لشؤون البترول والمعادن، وإنشاء المجلس الأعلى لـ”أرامكو”، بحسب بيان نشرته الشركة في حينه.
كانت هذه القرارات هي نهاية سلسلة طويلة من القرارات الملكية، كان من بينها أمر ملكي صدر في التاسع والعشرين من يناير الماضي، بحل المجلس الأعلى لشؤون البترول والمعادن، مع 11 جهازًا آخر تم إلغاؤها، ودمج بعضها في مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية الذي تم تعيين الأمير محمد بن سلمان رئيسًا له في حينه، وتأسيس مجلس أعلى لشركة “أرامكو” بدلاً من مجلس إدارتها، وعُهِد إليه كذلك إلى الأمير محمد بن سلمان.
ولعل هذه القرارات المتواترة، والتي تمكِّن الأمير محمد بن سلمان، من أهم القطاعات الاقتصادية السعودية، والذي يمثل عصبًا مهمًّا للاقتصاد العالمي كذلك، من بين أهم مظاهر عملية التمكين الجارية على قدمٍ وساق للأمير الشاب، والتي – بكل تأكيد – لا تثير سعادة الأمير محمد بن نايف!
هذه بعض الأمور والقضايا المتعلقة بقرارات الملك سلمان الأخيرة، أو بمعنى أدق، قرارات الأمير محمد بن سلمان، وتعمل على تدعيم مركزه السياسي، ليس في الداخل السعودي فحسب، وإنما في المجالَيْن الإقلليمي والدولي كذلك.
وتبقى صيروات الحدث عرضة للتقلبات؛ فلا تعلم أي نفس ماذا تكسب غدًا، ولا بأي أرض تموت، ومن ثَمَّ؛ فإن حدثًا عارضًا مثل وفاة مفاجئة للملك سلمان، قد تربك كل هذه الحسابات، فتبقى سياسة: “ترقَّب وانتظر!” هي أصدق وسيلة لمعرفة ما يجري.. وما سيجري!