ما من شك أنه لكل وطن خصائص موسمية تميزه وتجعل منه محل الأنظار والاهتمام من الجميع.
ولمناطق الشمال التونسي أحداث موسمية مميزة، ارتبطت عمق الارتباط بالعوامل الطبيعية والمناخ.ولحلول شهر ماي(مايو) معها حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة وحكايات شهرزاد لشهريار، هذا الشهر الذي يتجمل بكساء الربيع المزدان بالألوان الساحرة وببداية دفء حر الصيف.
مناطق جبلية مطلة على البحر الأزرق الكبير، قد يعجز اللسان البشري عن الحديث عنها ووصفها، لذلك لا عجب أن لا تتناقلها بعض الروايات والقصص، فهل حدثوك عن خيرات بلادي وثروات فلاحية وبحرية تختص بها مدينة بنزرت الشمالية، حيث البحر الأزرق المدر للخيرات من شتى أنواع الأسماك والحيتان وحيث الأراضي الخصبة تكرمك حد العطاء بزياتينها وبكرومها وتينها و أشجار توتها.
هل سبق وأخبرتك الكتب والمجلات والمجلدات عن موسمي جني التوت و”مهرجان الشاوري أو الزميمرة”، في جهات مدينة بنزرت التونسية وتحديدا في الشمال الشرقي، في جهات غار الملح ورفراف و رأس الجبل و الكاب (رأس) زبيب و الماتلين.
هذه المدن البنزرتية الساحلية التي تقع على ضفاف البحر الأزرق الكبير وتحيط بها الجبال الخضراء من كل جهة. وفي كل ركن من أركان شوارع مدنها طبع التاريخ شهادة على انتمائها للحضارة الأندلسية، والأندلسيين الذين قدموا بحرا إثر سقوط مدينة سرقسطة سنة 1112 م (512 هـ).
وتعرف هذه الجهات أو المعتمديات التابعة لمدينة بنزرت الشمالية التونسية بقربها من البحر الأبيض المتوسط وتتميز بروعة وجمال بحرها الذي يدر أنواعا شتى من خيرات البحر و ثرواته البحرية ، ولشهر ماي(مايو) مكانة خاصة في هذه الجهات حيث يقترن بموسم قدوم سمك الشاوري ويسمى كذلك بالزميمرة أو الزرقة وهو يهاجر في شهر ماي من الضفة الشمالية للمتوسط بحثا عن المياه الدافئة ليستقر لمدة وجيزة بخليج هذه الجهات فيضفي حركية مميزة بهذه المناطق، حيث يهل السكان لشرائه وتخاطفه ما إن ترسو قوارب الصيادين على الشاطئ.وتجد أسواق السمك تعج في هذا الموسم الوجيز الذي لا يتكرر سوى مرة واحدة في السنة مما جعل الجميع يطلقون عليه “مهرجان الزميمرة”، بالإضافة إلى قيمته الغذائية فهو يصنف ضمن الأسماك البيضاء، إذ أنه غني بالبروتينات (20%) ويحتوي على نسبة ضئيلة من الدهنيات بالمقارنة مع الأسماك الزرقاء (مثل السردينة أو الماكرو).
و الصيادون بطبعهم لا يفوتون فرصة صيد هذا النوع المهاجر من الأسماك، فيخرجون على متن زوارقهم إلى عمق البحر ليعودوا محملين بشباك صيد وفير من “الشاوري”، فهذا السمك سيغادر أعماق المتوسط قريبا مع بداية شهر جوان (يونيو) ولن يعود إلا في ماي من العام القادم، لذلك تجد الجميع ينتظره في شوق ولهفة.
وتختلف هذه الجهات في تسمية هذا النوع من الأسماك فتسميه كل جهة باسم إما لصفة يختص بها أو لذة في المذاق والطعم أو لتوارث عن من سبقوا من الآباء والأجداد، فيسمى “الشاوري”، بكل من جهة بنزرت والماتلين وغار الملح.ويعرف “بالزميمرة’ بجهة راف راف والعالية ورأس الجبل.وتسميه جهات أخرى”بالزرقة” نظرا للزرقة التي تلمع من غشائه.
ومن خصائصه البيولوجية، أن سمك الشاوري ينتمي إلى عائلة السبيكري التي تضم أربعة أصناف في مياهنا، وهي أسماك قاعية تتميز بتنقلاتها العددية بحثاً عن الأماكن الملائمة للنمو أو للتكاثر، كما تتميز بصغر طولها عند النضج الجنسي الأول، يكون سمك الشاوري أنثى في السنوات الأولى من عمره (حوالي سنتين) ثم ينقلب ذكراً، مع العلم أن التفرقة بين الجنسين واضحة ، سمك الشاوري هو من الكائنات البحرية المفترسة إذ يتغذى خاصة على صغار الأسماك والقشريات والرخويات.
وإلى جانب الاحتفال بموسم “الزميمرة” تعرف هذه الجهات كذلك موسم فلاحي مميز وهو جني ثمار التوت الذي يتميز بمذاقه الرائع وبجودة منتوجه وتنوع ألوانه بين أبيض وأحمر وأسود، فمن إن تضع حبة التوت في فمك حتى تذوب ذوبان السكر وتخلف ورائها مذاقا رائعا وطعما يصعب نسيانه، نظرا لخصوبة الأراضي والحقول المغروسة فيها هذه الأشجار ونظرا لمناخها المميز لقربه من البحر والجبال الخضراء الجالبة للسحب والأمطار المباركة فتسري في جذور وأعماق شجرة التوت وتغذيها بمياه غنية بالأملاح المعدنية.
وعن عواملها الطبيعية أوجز محمد الحشايشي سنة 1904م في كتابه العادات والتقاليد التونسية وصفها حيث يقول «وأغلب جهات القطر (التونسي) سليمة الهواء، موافقة للصحة، وفي جهات حسنة الهواء جدا نافعة للمرضى ولو بمرض السل… من هاته الجهات الحسنة المشهورة المكان المعروف برأس الجبل، وهو جهة الشمال من القطر بقرب شاطئ البحر تبعد القرية التي هي مركز عن البحر نحو أربعة أميال، والبحر من شمالها، وهو على سفح جبل منخفض رملي تحف بها بساتين ناظرة إلى البحر، تسقى بآبار ماء حلو جيد نقي، وعلى شاطئ البحر عين ماء عذبة ضعيفة الجريان، لكنها نابعة من الصخر، حلوة جدا، نقية مسرعة للهضم…»
ومنذ ساعات الفجر الأولى يخرج الفلاحون والعمال المستأجرين إلى الحقول والبساتين الواسعة والمطلة على البحر الأزرق، حيث تعترضك الحبات المتدلية من أعالي الأشجار في رونق وجمال ساحر، لجني ثمار التوت في عزم واجتهاد، حاملين ماستطاعوا من قفاف تحوي ذخيرة يومهم .
وبلا كلل ولا ملل يقضي العمال كامل اليوم في الجني وبين الفينة والفينة تدوي أصوات متغنية بالصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فتجدهم في حركة دؤوبة كمعشر النمل لا يتوقفون عن العمل ليمسحوا عرق قد تصبب من فوق الجبين وطغت عليه ملوحة البحر التي حملها النسيم العليل القادم من جهة البحر، إلا متى حانت ساعة الغداء وشرب الشاي الذي امتزج بطعم الإكليل و الزعتر الجبلي، فيفترش العمال الأرض لتناول ما لذ وحضر من طعام وغالبا ما تجد الخبز الدياري العربي (خبز الملاوي) أو خبز الطابون،الذي تعده النسوة في ساعات الصباح الأولى.