لا يُحسد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون على الموقف المُحرج الذي وُضع فيه بعد استضافته للقمة العالمية لمكافحة الفساد، إذ تواجه حكومته اتهامات واسعة بشأن تقاعسها في محاربة الأموال التي تُغسل وتُستثمر في حي المال والعقارات البريطانية والتي تقدر قيمتها بأكثر من 200 مليار دولار وفق تقارير صحفية عالمية، وطالت الفضيحة أيضًا شخص كاميرون الذي اعترف بامتلاك حصص في شركة أوفشور كان يملكها والده.
كذلك أكبر مصرف بريطاني إتش إس بي سي ارتبط اسمه بملفات فضائح وجرائم مالية وعمليات غسل أموال وتهرب واسعة النطاق قام بها لمصلحة “أنظمة قمعية” في الوطن العريي، فتسريبات أوراق بنما كشفت أن البنك متورط بشكل مباشر في عمليات نقل وتهرب ضريبي بمئات مليارات الدولارات عبر شركات أوف شور لمصلحة نظام بشار الأسد والرئيس التونسي المخلوع زين العابدين وعائلة الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك وغيرهم من رجال أعمال قريبين من دوائر السلطة، وحسبما كشفته سجلات الأراضي والعقارات في بريطانيا خلال العام الماضي 2015 تحولت إلى ملاذات آمنة للفاسدين لإخفاء أموالهم فيها إذ بلغت قيمة الفلل والشقق الفاخرة 207 مليار دولار تملكها شركات أوف شور في كل من إنجلترا وإقليم ويلز.
كما أن منظمة الشفافية العالمية هاجمت الحكومة البريطانية ووصفتها بأنها تيسر السُبل للأفراد الفاسدين لغسيل أموالهم في بريطانيا، وقالت إن العديد من الأفراد الفاسدين يعيشون في بريطانيا دون أن يتعرضوا لملاحقة أو عقاب. فالقوانين البريطانية قاصرة عن محاربة الفساد كونها تسمح بشراء عقار عبر شركات وهمية دون معرفة المالك الحقيقي للعقار، وتسمح لجزر الأوف شور بتأسيس شركات سرية تخفي أسماء ملاكها، بالإضافة لذلك سهولة القوانين المختصة بمكافحة غسيل الأموال في بريطانيا والتي يمكن تجاوزها بسهولة من قبل أي محام محترف.
الإعلان العالمي لمكافحة الفساد
استضافت العاصمة البريطانية لندن البارحة الخميس أعمال القمة العالمية الخاصة بمكافحة الفساد بهدف وضع خطة للتصدي للفساد، إلا أن القمة نجحت فقط في جمع الحكومات والدول وفشلت في إقناع دول الملاذ الآمنة في الحضور وهي رأس الحربة في الفساد العالمي، ومنها سلطات جزر كايمان وفيرجن وبرمودا وجزيرة جيرزي البريطانية، بعدما كشفت أوراق بنما أن هذه الجزر وغيرها تُعتبر من أكبر الملاذات الضريبية عالميًا. لذا عقدت هذه القمة في أجواء نببئ بفشل الآليات المطروحة فيها لأنها لم تشمل الملاذات الضريبية الآمنة ولم تقوّض سطوتها على المال الفاسد، وذكرت العديد من الصحف العالمية أن القمة جاءت مخيبة للآمال.
وقد حاولت القمة الإجابة على تساؤل محوري يدور في أذهان الحاضرين! هل ستنجح الدول المجتمعة في كبح جماح الفساد العالمي؟ هل سنقوّض سطوة الملاذات الآمنة من الفساد الذي تمارسه لغسيل الأموال وإخفاءها؟ و”لماذا يجب أن نحارب الفساد معًا” حسب طرح الرئيس النيجيري محمد بخاري، الذي دعا ديفيد كاميرون لإعادة الموجودات والأموال للشعب النيجيري التي حولها ساسة نيجيريون سابقون متهمين بالفساد إلى بريطانيا.
هل أضافت القمة أي جديد على صعيد محاربة الفساد؟
اتخذت القمة خطوات مشتركة لوضع قوانين بين الدول والحكومات والشركات؛ لمحاربة الفساد المالي بكل أشكاله. وأطلقت بريطانيا “أول إعلان عالمي ضد الفساد” بين المشاركين، الإعلان يعترف أن “الفساد يقوّض الجهود الرامية لمكافحة الفقر ونشر الرخاء بين الشعوب، ومكافحة الإرهاب والتطرف، ويشدد على التصدي للفساد أينما وجد وملاحقة ومعاقبة مرتكبيه ومن يسهل لهم ذلك”.
وأعلن ديفيد كاميرون في القمة عن مشروع قانون جديد لمكافحة الفساد المالي في بريطانيا، عبر التحقق من هوية المالك الحقيقي ومصدر أمواله، وإلزام المصارف والبنوك بتحمل المسؤولية الكاملة في حال إرتكاب موظفيها جريمة مالية. القانون سيشمل الشركات والعقارات والملكيات الأجنبية في بريطانيا، لذا فإن أي شركة تمتلك عقارًا أجنبيا في بريطانيا أو تريد أن تشتري واحدًا أو أن تتنافس للفوز بعقد حكومي سيكون لزامًا عليها الانضمام إلى السجل الجديد.
سيؤدي السجل الجديد المزمع عمله لكشف الأشخاص الفاسدين من الساسة ورجال الأعمال المتورطين بالفساد والتهرب من الضرائب في بلدانهم. وقد وصفت منظمة الشفافية الدولية هذه الإصلاحات بأن بريطانيا ستصبح ” الجنة المفقودة” بالنسبة لأموال الفساد وعصابات الجرائم المالية، في حال تطبيقها.
وتعهدت عدة دول بإعداد سجلات عامة لملكيات الشركات في إطار جهود جماعية لتضييق الخناق على علميات غسل لاأموال الناتجة عن ممارسة الفساد حول العالم، إذ قامت الولايات المتحدة بخطوات لتحسين مستوى الشفافية بشأن ملكية الأنشطة التجارية، كما أن فرنسا وهولندا و نيجيريا وأفغانستان سينضمون إلى بريطانيا في تدشين سجلات عامة للملكية الصحيحة للشركات.
لكن ما الهدف من تلك السجلات بوجود قوانين تكافح الفساد؟
الهدف من إنشاء تلك السجلات هو إظهار الأشخاص الذين يتسترون على أسماهم وشخوصهم وراء شركات يستخدمونها كواجهة لتملك عقارات، ومن خلال الإجراء الجديد فإن على أي شركة أجنبية تمتلك عقارًا في بريطانيا أو تريد أن تشتري واحدًا أو تتنافس للفوز بعقد حكومي لزامًا عليها الانضام إلى السجل الجديد.
تكلفة الفساد العالمي
صندوق النقد الدولي في تقرير له قدّر كلفة الفساد المباشر على صعيد الاقتصاد العالمي بما بين 1.5 إلى 2 ترليون دولار سنويًا أي ما يعادل 2% من الناتج الإجمالي العالمي على صورة رشى، هذه التكلفة تسبب في إضعاف النمو الاقتصادي وفقدان إيرادات ضريبية واستمرار الفقر في بقاع العالم.
غير أن التكاليف الاقتصادية والاجتماعية غير المباشرة أكبر بكثير من الأرقام المعلن عنها وهي “منهكة للاقتصاد العالمي” على حد وصف كريستين لاغارد المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، وأضافت لاغارد أن الفساد يؤدي إلى “انخفاض معدلات النمو وزيادة عدم المساواة في الدخل وتقويض الثقة في الحكومات”.
تقرير صندوق النقد الدولي خلص أيضًا أن الفساد يعيق سير سياسة الموازنة السنوية والمالية العامة ويضعف الرقابة المالية كما أنه لا يوجد وصفة موحدة لجميع دول العالم لمحاربة الفساد المالي، وتم تحديد 3 إجراءات لمحارية الفساد بحسب التقرير؛ هي تعزيز الشفافية وتفعيل التدابير القانونية، وتعزيز سيادة القانون وتفعيل دور القيادات السياسية في مكافحة الفساد، وتسهيل الإجراءات الإدارية.
وفي تقرير سابق لمنظمة الشفافية الدولية شمل تسع دول عربية؛ كشف عن تزايد الفساد في المنطقة مشيرًا أن نحو ثلث السكان المستطلعة آرائهم يدفعون رشى للحصول على خدمات عامة. وأن 61% من مواطني الدول المعنية وهي اليمن ومصر والسودان والمغرب ولبنان والجزائر وفلسطين وتونس والأردن يعتبرون الفساد ازداد انتشارًا خلال عام 2015.
ووصلت النسبة بين الرجال ممن يدفعون الرشى في الدول التسع 34% بينما وصلت نسبة السيدات إلى 26%. واعتبر 68% من المستطلعة آراؤهم في الدول العربية أن حكوماتهم تقوم بأداء ضعيف لمحاربة الفساد، كما فشلوا في تحقيق تطلعات المواطنين حسب تقرير لمنظمة الشفافية الدولية.
وقد قدرت الرشى المدفوعة في العالم العربي خلال عام 2015 بما يقرب من 50 مليون رشوة. وتقدر مؤسسة النزاهة التي تكافح الفساد في السعودية الخسائر التي يتكبدها الاقتصاد العربي من جراء الفساد بحوالي 300 مليار دولار سنويًا
إلام دفع الفساد المالي في المنطقة العربية؟
أشارت منظمة الشفافية الدولية أن عدم الرضا على القادة الفاسدين والأنظمة الفاسدة كان عاملًا مهما ودافعًا قويًا لرغبة المنطقة في التغيير إذا اندلع الربيع العربي ورفع شعارات الحكم الرشيد والشفافية وحق الوصول للمعلومات،وبعد مرور خمس سنوات على خروج المظاهرات لن تبذل الحكومات سوى جهدًا خجولًا لتطبيق قوانين محاربة الفساد.
نقطة في بحر!
كانت الشرطة في لندن اعتقلت شخصين في حي المال اللندني يستخدمان سوق لندن المالي للصفقات المستقبلية في غسيل الأموال لصالح عصابة روسية تعمل ضمن شبكة للجريمة المنظمة واسعة الانتشار تمتد شركاتها من موسكو إلى سويسرا وجزر الكاريبي، وبحسب الشرطة البريطانية فإن شبكة الغسيل الروسية تضم شركة نفط روسية وشركات سويسرية توجد مقارها في جزر العذراء البريطانية.
هذه الشبكات وغيرها ممن تتعامل معها من الشركات نقطة في بحر من كمية الشركات الوهمية التي تعمد يوميًا إلى ضخ مئات المليارات عبر الأسواق المالية العالمية وجزر الأوف شور التي لا يعرف مصدرها أو ملاكها الحقيقيون، وتتحول من مصرف إلى آخر ومن سوق مالية إلى أخرى ومن شخص إلى آخر ليتم المتاجرة بها بعمليات ومسميات وهمية، من أجل جعلها أموال مشروعة.
أوراق بنما
كل شيء انكشف بفضل أوراق بنما فكل ما يحتاجه الفاسد سياسيًا كان أم رجل أعمال التواصل مع أحد الشركات التي تؤمن له تصريفًا وملاذًا لأمواله من خلال فتح حساب مصرفي وتسجيل شركة وهمية ليس لها أي نشاط إنتاجي أو خدمي.
أوراق بنما التي ضمت تسريب 11.5 مليون وثيقة كشفت عن نزوح الأموال من المنطقة العربية عبر عمليات غسيل الأموال والتهرب الضريبي واستثمارها في مصارف وملاذات ضريبية لاتخضع للسرية المصرفية في الخارج، بينما أّثر هذا على المناخ الاستثماري وتردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لشعوب المنطقة العربية، فقد إلتهم المسؤولين العرب ورجال الأعمال الفاسدين الأموال العربية وحولوها إلى الغرب ليرفع من معدلات النمو هناك ويساهم في تخفيض معدلات البطالة ورفع الشغيل العام، على حساب شعوب الدول العربية التي تزداد فيها معدلات البطالة والفقر والاختلاس والفساد المجتمعي.
من الجيد أن الدول العالمية تجتمع حول إقرار قوانين مكافحة الفساد وتقر سجلات وتعمد إلى تعسير العمل على شركات الملاذ الضريبي، ولكن عليها أن تدرك أن “إلقاء الشر في البحر لا يعني بالضرورة ظهور الخير بشكل مفاجئ” بمعنى آخر لا تعني تلك القوانين والسجلات التخلص الكامل من الفساد، إذا كان من يعمل القانون هو من يوجد له ثغرة للالتفاف عليه.