لعل صناع القرار في البيت السعودي يصبون اللعنات كل صباح على تكنولوجيا التكسير الهيدروليكي، والتي أتاحت لشركات الطاقة الأمريكية أن تتحصل على النفط والغاز القابعين في قلب الصخور بالقارة الأمريكية، وبالتالي تحقيق الاكتفاء الذاتي للولايات المتحدة، وهو اكتفاء أدى لهبوط أسعار النفط نتيجة صعود الولايات المتحدة كواحدة من أكبر منتجي النفط عالميًا، مما أثر سلبًا على الاقتصاد السعودي المعتمد بالأساس على النفط، وأدى كذلك لعزوف واشنطن عن دورها السابق في الاضطلاع بحراسة الخليج، فالنفط السعودي لم يعد “ذهبًا أسود” في نظر الأمريكيين، بل صار متوافرًا بكثرة في السوق وبأقل من نصف سعره القديم، كما أن السعودية بالتبعية لم تعد “الفتى المدلل” للسياسة الأمريكية.
في الحقيقة لم تعد المنطقة كلها مهمة بالنسبة للأمريكيين والأسباب كثيرة، ولكن التبعات في نفس الوقت جسيمة، فالمنظومة الأمنية الأمريكية التي حفظت موازين المنطقة بشكل معيّن منحاز بوضوح بالطبع للخليج وإسرائيل تتلاشى يومًا بعد يوم، والقوة العسكرية الأمريكية التي رسمت ملامح المنطقة بدءًا من قوات حفظ السلام في سيناء، وحتى العمليات العسكرية المتكررة في العراق، والقوات المتواجدة لموازنة إيران في الخليج الفارسي، تنسحب رويدًا رويدًا، لتخلق معها الحاجة إلى إعادة ترتيب الأوراق في المنطقة، وتفرض على كل طرف البحث عن سند جديد للاحتماء به.
لم تشكل رئاسة أوباما في الحقيقة مفاجأة للإسرائيليين، فهُم عاكفون منذ سنوات على خلق علاقات دبلوماسية وعسكرية قوية مع روسيا والهند والصين، والحفاظ على كل المكتسبات الممكنة من العلاقات مع الغرب لا سيما أوروبا التي سيظل اهتمامها بالشرق الأوسط قائمًا لأسباب جغرافية واضحة، وهم لذلك باقون وآمنون في المستقبل القريب ما لم تحدث مفاجآت كبرى على الرُغم من توجسهم من إيران وانفتاحها على الغرب.
أما البيت السعودي فهو مصدوم نوعًا ما من الأسلوب الأمريكي الجديد، ولم يكن غريبًا إذن التوجه الجديد الأكثر حضورًا ونشاطًا دبلوماسيًا وعسكريًا للسعودية، والمشروع الاقتصادي الطموح الذي أعلنه ولي العهد محمد بن سلمان لإعادة هيكلة الاقتصاد، بيد أن خلف تلك النشاطات يكمن طموح أكبر وأسرع من اللازم -مصيره الفشل على الأرجح- للحصول على بديل إستراتيجي سريع للشرق الأوسط القديم على غرار الوجبات السريعة، لن تتمكن المملكة من تدبيره بتحركاتها الواسعة الأخيرة كما تعتقد.
تركيا لن تصطف بوجه إيران
الرئيسان التركي والإيراني في زيارة سابقة
الملمح الأبرز للتحركات السعودية في السنوات الماضية هو محاولة جذب تركيا بثقلها الاقتصادي والسياسي الجديد في المنطقة إلى مدارها في نوع من التحالف السني لمواجهة إيران، والجسر الأساسي للعبور إلى تركيا هو بالطبع الملف السوري وما أحدثه من توتر بين تركيا وإيران، فقد أسس الطرفان مجلسًا للتعاون الإستراتيجي، واقتربت وجهات النظر بين الطرفين لا سيما بعد وصول الملك سلمان للعرش والرؤية الجديدة التي جلبها من ضرورة الاستفادة من الإسلاميين بشكل عام والإخوان بشكل خاص ضد المشروع الإيراني كمشروع شيعي بالأساس.
بيد أن تلك الآمال السعودية ستصطدم بالواقع إن لم تكن قد اصطدمت به بالفعل، فتركيا صاحبة المصالح المشتركة مع السعودية في إطار الملف السوري، والتي أفردت للرياض مساحة في إطار منظمة التعاون الإسلامي -عديمة الجدوى فعليًا- كما ظهر في القمة الإسلامية الأخيرة بإسطنبول وقرارها بإدانة تدخل إيران في دول الجوار، لا يمكن بحال أن تترك شراكاتها المتعددة مع إيران من أجل خلافات الملف السوري، أولًا لأن إيران في تلك المرحلة تخرج من عزلتها الدولية بشكل يوجب على تركيا أن تكون أول المتقاربين منها لتعزيز استفادتها من التعاون الاقتصادي، وهو تعاون سيصبح عاجلًا أم آجلًا تعاون العملاقين الرئيسيين في المنطقة، وخسارة إيران الآن في وقت يتدفق فيه دبلوماسيو العالم عليها سيكون شديد الضرر على تركيا في المستقبل.
ثانيًا، تمتلك إيران وتركيا مساحات مشتركة عديدة أبرزها ما يخص آسيا الوسطى، فبلدان المنطقة إضافة إلى أفغانستان وباكستان وتركيا وإيران أعضاء بمنظمة التعاون الاقتصادي التي دشنها البلدان الراغبان في جذب آسيا الوسطى إلى مدارهما بعيدًا عن المدار الروسي، ومصالح الطرفين في هذا الصدد قريبة أيضًا من الصين التي تحاول فتح المنطقة على الاقتصاد العالمي بدلًا من تركها فريسة لانعزال المنظومة الروسية للاستفادة منها وتحقيق مشروع طريق الحرير الصيني الجديد، وهو ما يتناسب حاليًا مع تركيا كعملاق اقتصادي ومع إيران التي ستلحق بالأتراك اقتصاديًا خلال عقد كما هو متوقع.
ثالثًا، وعلى مستوى سياسات الطاقة، تدرك أنقرة أنها بحاجة لإيران أكثر من الخليج على المدى البعيد، لأنها بحاجة إلى الغاز الإيراني كبديل للغاز الروسي، ولأن الغاز الإيراني بشكل عام سينتقل في الغالب عن طريق خطوط أنابيب تمر عبر تركيا إلى أوروبا، والراغبة هي الأخرى في تخفيف الاعتماد على الروس، وفي المقابل فإن النفط السعودي لا يحتل نفس المنزلة، فمصادره متعددة واستخدامه ليس كثيفًا مثل الغاز في الاقتصاد التركي، وهو ما يفسر جزئيًا أيضًا العلاقات القوية بين تركيا وقطر، حيث تُعَد الأخيرة من أكبر منتجي الغاز المُسال في العالم.
التحالف مع إسرائيل: المُعضلة الكبرى
الأمير تركي الفيصل، الرئيس السابق للمخابرات السعودية، مع يعقوب عميدرور، اللواء المتقاعد بالجيش الإسرائيلي، ومستشار الأمن القومي السابق لنتنياهو، في لقاء جمعهما بمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدني، وهو المعهد الرسمي للوبي الصهيوني “أيباك”
يأتي الدور على ثاني أبرز قوة عسكرية بالمنطقة، وأكثرهم عداوة لإيران ربما بعد السعودية أو بنفس القدر، وهي إسرائيل، وملف العلاقات السعودية الإسرائيلية قد أثار الكثير من الجدل مؤخرًا بين تكهنات وشائعات، أولًا بسبب منطقية تحالف البلدين نظريًا بوجه إيران، وهو منطق يصطدم بالطبع بواقع الصراع الثقافي الواسع بين إسرائيل والعالم العربي والإسلامي الذي يُفترض انتماء السعودية له، وثانيًا بسبب ملف جزيرتي تيران وصنافير وما أثير حول إمكانية استخدامهما كذريعة لفتح ملف التنسيق بين البلدين.
بين محاولات التنسيق المحدود وتكهنات التحالف الكامل بين الطرفين تبرز لنا معضلة لن تتمكن السعودية من تجاوزها أبدًا للاستفادة من تحالف كهذا إن حدث بالفعل، أولها أن ما تقوم به السعودية الآن من تنسيق تحت الطاولة لا يخفى على أحد مع إسرائيل لن يكفي أبدًا لتشكيل جبهة ضد إيران، فمواجهة كتلك ستتطلب جبهة متجانسة وذات علاقات مفتوحة بشكل كامل، تمامًا كالتحالف الواضع بين الولايات المتحدة وأوروبا بوجه روسيا مثلًا، أما الاكتفاء بتنسيق بدرجة ما في الخفاء فهو لا يرقى أبدًا لتحالف كافي للميل بالموازين ناحية الخليج.
ثانيها أن تحالف السعودية بالفعل مع إسرائيل إن تم سيلحق أضرارًا جسيمة بالدور السعودي ثقافيًا وسياسيًا في العالم العربي والإسلامي، وبالأخص في صفوف التحالف السني المفترض أنها تحاول بناءه، والأسباب معروفة بالطبع، فرُغم محاولات المشايخ المحسوبين على المؤسسة الدينية في السعودية وأتباعهم أو أصدقائهم من السلفيين في مختلف أنحاء المنطقة تصدير الفتاوى القائلة بأن الشيعة أخطر على المسلمين من اليهود، إلا أن إسرائيل ليست مجرد مسألة يهودية، بل إن مربط الفرس في العداء بينها وبين محيطها يعود لكونها بالأخص مشروعًا صهيونيًا، والعلاقات الأكثر انسجامًا بين العرب واليهود قبل تأسيس إسرائيل تعج بها صفحات التاريخ، ولذا فإن أية محاولة لتسويق تحالف سعودي إسرائيلي باعتبار اليهود أخف وطأة من الشيعة مصيرها الفشل، ناهيك عن الدعايا المضادة التي ستقوم بها إيران في أوساط المسلمين من غير العرب بآسيا وأفريقيا لإضعاف الموقف السعودي أكثر في تلك الحالة.
مُعضلة العلاقات السعودية الإسرائيلية إذن ببساطة هي أنها في كل أحوالها لن تؤتي أكلها للرياض، فهي إذا اكتفت بالتنسيق السري من ناحية فقدت أهم مميزات التحالف الصريح في جبهة واحدة ضد إيران، مثل القيام بمناورات عسكرية مشتركة والتمتع بمميزات انفتاح اقتصادي مشترك بين الطرفين عن طريق الأردن مثلًا، في حين سيؤدي اتجاهها للتحالف الكامل والعلني من ناحية أخرى إلى أضرار أخرى تخص “التحالف السني” والشارع العربي والإسلامي بشكل عام، وهو ربما ما سيجبر السعودية في النهاية على الاكتفاء بتنسيق تحت الطاولة على المدى البعيد كما فعلت ولا تزال إلى الآن.
التحالف مع مصر: معضلات كثيرة
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مع الملك سلمان
أخيرًا، يأتي الدور على مصر، وهي طرف مهم مهما بلغت درجة ضعفها الاقتصادي والسياسي، والحقيقة ربما هي أن معضلات تحالف الطرفين أكثر صعوبة من التحالف مع إسرائيل لسبب بسيط، وهو أن أهداف الإستراتيجية السعودية بعيدة المدى من الإبقاء على مصر داخل مدار الخليج، تتطلب بقاء مصر على ضعفها سياسيًا واقتصاديًا وتبعيتها للخليج، وعدم قدرتها على الاضطلاع بدور أكثر استقلالًا على غرار الدور التركي سيتيح لها حتمًا الابتعاد عن الرياض، في نفس الوقت الذي تتجه فيه أهداف الإستراتيجية السعودية على المدى القصير للبحث عن أي دور لمصر قدر الإمكان بمواجهة إيران، وهو دور لا يسع لمصر الضعيفة بطبيعة الحال أن تقوم به.
تزداد تلك المعضلة تعقيدًا إذا ما نظرنا إلى سياسة السعودية الجديدة الأكثر ميلًا لجذب جماعة الإخوان المسلمين والإسلاميين لمدار التحالف السني، وهي سياسة تشي باعتراف السعودية بأن تحالف الدول القومية الكلاسيكية معًا غير كافٍ أبدًا لمواجهة التحالف الإيراني المركب بين الدولة الإيرانية وميليشياتها القوية في لبنان وسوريا والعراق، وأن المملكة ربما بحاجة إلى حشد القوى السياسية والعسكرية السنية لتضرب بها مشروع الثورة الإيرانية، إذ لا يسعها في نهاية المطاف أن تحارب الإسلاميين السنة والشيعة في نفس الوقت كما بدا سابقًا، وتلك السياسة تشكل مُعضلة إضافية في علاقة السعودية بمصر بالنظر لوضع النظام المصري حاليًا.
عداء واضح غير قابل للتفاوض حتى الآن يتسم به موقف نظام السيسي في مصر تجاه الإخوان المسلمين، وهو عداء أدى لافتراق السياسات المصرية والسعودية في اليمن وسوريا، فمصر قد غازلت الحوثيين سابقًا بعد دعم المملكة للإخوان في اليمن، بالإضافة لانحيازها الواضح لنظام الأسد في سوريا وهو العدو اللدود للسعودية، وللمفارقة فإن الدور الإيجابي الذي كانت لتقوم به مصر في حشد الإخوان إلى صف السعودية، على الأقل في سوريا، كان أثناء رئاسة محمد مرسي في مصر ووجود الإخوان في السلطة، وهي رئاسة راحت ضحية الانقلاب العسكري الذي أيدته السعودية بنفسها.
علاوة على كل ذلك، وبالنظر للسياسات التي انتهجها مُرسي أثناء رئاسته، والتي تضمنت الانفتاح على إيران أيضًا، تبدو هناك علامات استفهام أصلًا على قدرة السعودية حشد الإخوان ضد إيران، وإقناع الجماعة بالدخول في صراع مذهبي مع الشيعة، فحسابات الإخوان في سوريا واليمن وإن دفعتهم لمعاداة إيران بشكل خاص، إلا أن الجماعة الأم في مصر، ومختلف فروعها مثل حماس في غزة، لا تبدو متحمسة لتلويث تاريخها لأول مرة بالضلوع في صراع طائفي سني شيعي يبتعد بها عن مواقفها التقليدية في هذا الملف.
تباعًا إذن، فإن الإستراتيجية السعودية تجاه مصر ليست فقط معضلة نظرية، تكمن في عدم القدرة على الاستفادة من مصر ضعيفة الآن وعدم الرغبة في ازدياد قوتها في آن، بل معضلة عملية بالنظر لسياسة السعودية المنفتحة على الإخوان حاليًا، والتي تخلق مسافة بينها وبين السيسي أولًا، ولا يبدو ستؤتي أكلها في النهاية كما ترغب المملكة ثانيًا لا سيما وقد ساهمت هي في إضعاف الإخوان بنفسها، ولذا فإن الرياض لعلها ممزقة حيال الملف المصري أكثر منها حيال إسرائيل، وهي في الغالب ستخرج من تلك المعضلة دون أن تفوز لا بدعم الإخوان ولا بدعم النظام المصري الكامل بخصوص إيران، لتحتفظ في الغالب بضعف الدور المصري كمكسب وحيد على المدى البعيد لا طائل من ورائه في ملف مواجهة إيران.
***
إجمالًا، لا يبدو أن أحدًا في المنطقة متوجس من إيران بشكل يحتم عليه مواجهتها كعدو صريح سوى السعودية وإسرائيل، فالأتراك يمتلكون شراكات عميقة مع الإيرانيين لا يمكن أن تفضها الخلافات في الملف السوري، وهم يدركون أهمية الحفاظ على تلك الشراكة بينما تنفتح إيران على الغرب لكي لا تفقد تركيا نصيبها من “الكعكة الإيرانية،” أما في مصر ومهما بلغت معاداة النظام للإسلاميين، فإن إيران بعد ما جرى بالسنوات الماضية أبعد ما يكون عن اللعب بورقة الإسلاميين في مصر، كما أنها بعيدة بما يكفي عن مصر بشكل يصعب معه على النظام الضعيف اقتصاديًا والمتخبط سياسيًا فيه أن ينشغل بدعم السعودية في وجه إيران، ناهيك عن أن يمثل ثقلًا حقيقيًا كافيًا لقلب المعادلة في الخليج الفارسي، أضف لذلك أن ميل السعودية الآن للإخوان وإن لم يثمر تحالفًا واضحًا مثل تحالف إيران والميليشيات الشيعية سيضر أصلًا بعلاقاتها مع النظام المصري الحالي.
أما إسرائيل فلا تمانع الانفتاح بأي صورة على السعودية، وهو أمر سيفيدها قطعًا أكثر من السعودية، والتي سيشكل الانفتاح ضررًا لها على أصعدة عدة كما ذكرنا، فإن نشأ تحالف كهذا فإنه سيحقق لإسرائيل هدفها الإستراتيجي الرئيسي وهو حماية كيانها من أية تهديدات محيطة به، في حين سيكون قاصرًا عن تحقيق هدف السعودية الرئيسي، والذي يتجاوز مجرد حماية الكيان السعودي، ويصل لاحتواء التواجد الإيراني في المنطقة بأسرها، وهو الهدف الذي لن تجد له السعودية في الغالب حلًا ناجعًا وسريعًا.
في نهاية المطاف، ستجد السعودية نفسها عاجلًا أم أجلًا مُجبرة على خيار الاحتواء البارد بدلًا من المواجهة الساخنة التي أشعلتها مؤخرًا مع إيران وأصدقائها، ولعل تصريحات وزير الخارجية السعودي بالأمس عادل الجبير بأن الحوثيين جيران المملكة لا أعداؤها مهما بلغت الخلافات معهم مؤشر على بداية إدراك تلك الحقيقة.