عذرًا سيخط قلمي حكاية ممزوجة بطعم المرارة والألم، فتلك الحكاية لازالت مشاهدها عالقة في أذهان الإنسانية حتى وقتنا الحاضر، بدأت معالمها تتشكل فعليًا بعدما أقدمت عصابات صهيونية مدججة بأعتى أنواع السلاح، على مداهمة ما يقرب من 550 قرية فلسطينية إضافة لمراكز المدن الرئيسة، عاثوا في أرضها فسادًا، فقاموا بذبح وقتل الأطفال والنساء والشيوخ والعوائل العزل دون شفقة أو رحمة، وتشريد ما يقدر بـ 800 ألف فلسطيني هاجروا إلى بقاع شتى في ذلك الوقت، وبعد فترة وجيزة أنشأ الاحتلال الإسرائيلي كيانه الغاصب على أرض فلسطين بتاريخ 14 أيار/ مايو عام 1948م ومن هنا بدأت الحكاية.
ما لم يكن بالحسبان
حينما سمعت أصوات الرصاص تنهال علينا من كل حدب وصوب، وأزيز الطائرات يدّوي من فوقنا، خرجت من بيتي مذهولًا فوجدت جيراني وأقربائي يحضّرون أنفسهم للذهاب أو للانتقال لقرية أكثر أمانًا، لم أكن متوقعًا حينها بأن خروجنا من قريتنا سيكون الخروج الأخير، كنت أحسب أنها فترة مؤقتة وبعدها سنعود على الفور، وقتها نظرت في عيون من حولي فإذا بها تذرف دموعًا ووجوههم تعتصر من الألم، كنت أسير بجانب من حولي، منهم من كنت أعرفه ومنهم من لم أعرفه، كنت أستمع إلى أصوات أطفال وصبية يبكون فلم يكن بمقدوري فعل أي شيء لهم، لم أكن أعلم إلى أين نحن ذاهبون؟ كنت أتساءل أين سيستقر بنا الحال؟ لم أكن أعلم بأن الطريق سيكون طويلًا وسأسير مسافات بعيدة نحو المجهول.
حقائق وأرقام
وسمي هذا العام بعام النكبة، لتبقى هواجسه حاضرة في نفوس الفلسطينيين، معبرة عن واقع فرض نفسه بقوة، عنوانه “الحق المسلوب”، إذ يعتبر هذا العام نقطة سوداء سجلت في أرشيف الإنسانية، لكي تشهد على ظلم وغطرسة الاحتلال الإسرائيلي، بحيث يبلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين حاليًا أكثر من 6 مليون لاجئ، موزعين على مشارق الأرض ومغاربها، لكل منهم اشتياقه المتجدد لرائحة الوطن الذي يمثل بالنسبة إليه كالأم التي يصعب رؤيتها واحتضانها وتقبيلها، وما أصعبه من شعور حينما تكون أسيرًا خلف قضبان الغربة، إذ تحرم من أبسط حقوقك بالحياة، فتحرم من العيش بحياة كريمة، وتحرم من مزاولة العمل الذي ترغبه، وتفرض عليك قيود وقوانين لا طاقة لك بها، فأنت حينها تتساءل بحرقة ترى متى العودة للوطن؟
نبضات خفاقة بالحنين
تمضي السنوات كالبرق الخاطف، فأشعر بالحنين للوطن، أتحدث عن 68 عامًا قد قضيت بمحاسنها ومساوئها، كل يوم يمر من تلك الفترة كان بمثابة جسر للرجوع من خلاله عبر الذاكرة، وذلك لاسترجاع لحظات توصف بأنها متعة الحياة الحقيقية، فكنت أعيش في بيت من الطين، مزروع بجواره بستان من البرتقال والليمون وأشجار من التين والزيتون، قريبة من أزهار الياسمين، كنت أستيقظ على شقشقة العصافير، متمتعًا بمنظر الطبيعة البديع، أما في المساء كانت تغمرنا نسمات ممزوجة برائحة أزهار البرتقال والليمون والياسمين، تلك كانت حياتي التي أصبحت الآن جزءًا من ذكرياتي، فيأخذني الحنين والاشتياق نحوها رغمًا عني، ولا أملك سوى التمني والرجاء بأن أعود يومًا ما لها.
أمل العودة بين الحلم والحقيقة
رغم كل المعاناة التي عانيتها في المهجر ورغم آلام الغربة القاسية، إلا أنني لم أفقد الأمل بالرجوع للوطن الأم فلسطين، فبعد كل إطلالة يوم جديد من شروقه حتى غروبه، أضع في مخيلتي بأنني غدًا سأعود، فالعودة حق لنا، والأرض أرضنا سلبت منا بالقوة رغمًا عنا، مهما طال الزمن أو قصر سيعود الحق المسلوب إلى أصحابه، لأنهم هم من يستحقونه وهم أهله الذين ضحوا بكل ما يملكون لأجله، وسأبقى أحلم حتى يصبح الحلم حقيقة، حينها سأكون فرحًا لأني قد حققت مبتغاي.
ويعتبر حق العودة من الثوابت الفلسطينية التي لا يجوز لأي طرف من الأطراف الفلسطينية التفريط به، فهو بمثابة بصيص النور، الذي يتطلع إليه الملايين ممن يقطنون الآن بمختلف دول العالم، فقلوبهم متلهفة للرجوع للوطن، وعلى الجميع بذل أقصى جهد ممكن لأجل تحقيق حلمهم بالرجوع، حتى لا يصبح حلمهم في يوم ما حلمًا متبددًا.