ترجمة وتحرير نون بوست
إثر شهور من المفاوضات التي تتسم بالقلق المتزايد، تم اختتام تحالف زمن الحرب ما بين بريطانيا وشريف مكة، حيث دُفع هذا الاتفاق بالمخاوف التي كانت تساور الجانبين في زمن الحرب، كان لدى الشريف حسين ما يدعوه للاعتقاد بأن الأتراك الشباب يسعون للإطاحة به، وعلاوة على ذلك، وبغية تحقيق هدفه الطموح بتأسيس مملكة عربية مستقلة من تركة الإمبراطورية العثمانية، كان الشريف حسين يحتاج لدعم القوى العظمى، وبالمقابل، ساورت المخاوف بريطانيا من أن سلسلة الهزائم التي ألحقتها بالعثمانيين في الآونة الأخيرة من شأنها أن تشجع المسلمين المستعمَرين على التمرد ضد قوى الوفاق؛ لذا كان مخططو الحرب في القاهرة والحكومة البريطانية يأملون بأن يعمل تحالفهم مع خادم الحرمين الشريفين على تحييد نداء الجهاد الذي أطلقه الخليفة، السلطان العثماني، في اللحظة التي كانت تشهد انخفاض المصداقية العسكرية البريطانية إلى أدنى مستوياتها منذ بداية الحرب.
عشية اندلاع الثورة العربية الكبرى، تبين بأن التحالف الأنجلو- هاشمي يتسبطن آفاقًا أضعف للغاية مما كان يأمله الجانبان عندما انخرطا في المفاوضات في بداية المطاف، فالبريطانيون لم يعودوا تلك القوة التي لا تقهر التي كانوا يبدون عليها في أوائل عام 1915 عندما قرروا ابتدار الحرب على القسطنطينية، حيث ألحق بهم الألمان خسائر فادحة على الجبهة الغربية، كما ألحقت بهم القوات العثمانية هزائم مذلة، وحينها كان للشريف حسين وأولاده كامل الحق في التساؤل عن مدى صحة ونجاعة اختيارهم لحليفهم في الحرب الدائرة.
نجاح تحالف الهاشميين مع البريطانيين في صيف عام 1916 نبع من حاجة كلا منهما إلى الآخر في تلك الفترة أكثر من أي وقت مضى، فعلاقة الشريف حسين مع تركيا وصلت إلى نقطة الانهيار، وبالمقابل، شعر البريطانيون بحاجتهم للسلطة الدينية التي يمثلها الشريف حسين لتقويض قوة الجهاد العثمانية
ولكن الهاشميين لم يكونوا في موقف يسمح لهم بالمساومة؛ فمن خلال مراسلاتهم مع السير هنري مكماهون، المندوب السامي في مصر، قدّم الشريف حسين وأولاده أنفسهم كقادة لعموم الحركة القومية في كامل المناطق العربية، وبحلول مايو من عام 1916 كان من الواضح بأنه الثورة لن تمتد وتتوسع إلى سوريا والعراق، وجلّ ما كان يمكن للشريف حسين أن يفعله هو تحدي الحكم العثماني في الحجاز، حيث كان يعوّل في نجاحه بذلك على شحذ وتعبئة همم السكان البدو غير المنضبطين للانضمام إلى قضيته.
يمكن القول بأن نجاح تحالف الهاشميين مع البريطانيين في صيف عام 1916 نبع من حاجة كلا منهما إلى الآخر في تلك الفترة أكثر من أي وقت مضى، حيث وصلت علاقة الشريف حسين المتوترة مع تركيا إلى نقطة الانهيار، وكان يعلم بأن الأخيرة ستغتنم أول فرصة للإطاحة به أو حتى لقتله هو وأولاده، وبالمقابل، شعر البريطانيون بحاجتهم للسلطة الدينية التي يمثلها الشريف حسين لتقويض قوة الجهاد العثمانية، خاصة بعد تنامي المخاوف ما بين المسؤولين في القاهرة والحكومة البريطانية من أن الانتصارات التركية الأخيرة عززت من تلك المشاعر الجهادية، علاوة على ذلك، ومهما كانت نتائج الثورة التي يقودها الهاشميون، فإن هذه الحركة ستعمل على أقل تقدير على إضعاف المجهود الحربي العثماني وإجبار الأتراك على تحويل قواتهم ومواردهم لاستعادة النظام في الحجاز، وربما في المحافظات العربية الأخرى؛ لذا، ولأسباب خاصة بهم، كان البريطانيون والهاشميون في عجلة من أمرهم لابتدار شرارة الثورة.
بادر الشريف حسين لإطلاق الطلقة الأولى للثورة العربية من قصره في مدينة مكة المكرمة؛ ففي يوم 10 يونيو من عام 1916، تناول أمير مكة بندقيته وأطلق النار لمرة واحدة على الثكنات العثمانية معلنًا بدء الانتفاضة، حيث ابتدر الهاشميون الحرب مع الأتراك حينها باسم الشعوب العربية.
بدلًا من السعي للاعتراف باستقلال العرب، اشترط الشريف حسين في مراسلاته مع مكماهون تأسيس “مملكة عربية” وتنصيبه زعيمًا لها، ووافق على تقديم تنازلات إقليمية كبيرة تتعلق بالعراق وسوريا وفلسطين
كان مخططو الحرب البريطانيون والفرنسيون ينظرون إلى الثورة العربية باعتبارها رصيدًا مميزًا في الحرب العظمى؛ ففي وقت مبكر من يوليو 1916، وضعت لجنة الحرب أهدافًا إستراتيجية جديدة لقواتها في مصر معولة على المكاسب الأولى التي حققها الهاشميون في الحجاز، حيث طلبت اللجنة من القائد العام في مصر، الجنرال السير أرشيبالد موراي، بسط السيطرة البريطانية على طول الخط الذي يمتد عبر شمال سيناء من العريش على البحر المتوسط إلى ميناء العقبة الصغير على الرأس الشرقي للبحر الأحمر، حيث كان يُؤمل أن تعمل هذه الإجراءات على “تهديد الاتصالات ما بين سوريا والحجاز، وتشجيع العرب السوريين على دعم الثورة العربية”؛ وهكذا بدأ الارتباط المصيري بين الثورة الهاشمية في البلاد العربية والحملة البريطانية في فلسطين، هذا الارتباط الذي دق المسمار الأخير في نعش سقوط الإمبراطورية العثمانية.
وثيقة مدهشة
من خلال المراسلات المتبادلة في الفترة الواقعة ما بين 5 نوفمبر 1915 و10 مارس 1916، أنهى السير هنري مكماهون التحالف مع الشريف حسين، حيث تتخلل تلك الأسابيع العديد من الهزائم التي مُنيت بها بريطانيا سواء في منطقة مضيق الدردنيل أو في بلاد ما بين النهرين؛ فرسالة مكماهون في 14 ديسمبر استتبعت قرار مجلس الوزراء البريطاني بالانسحاب من موقعي سوفلا وأنزاك في شبه جزيرة جاليبولي في 7 ديسمبر، وبداية حصار كوت العمارة في 8 ديسمبر، كما جاءت رسالة المندوب السامي في 25 يناير 1916 عقب الإخلاء النهائي لجاليبولي في 9 يناير، وبشكل لا يثير الدهشة، جاءت رسالة مكماهون الأخيرة بتاريخ 10 مارس على ذكر الانتصارات البريطانية على رجال قبائل السنوسي في مصر والانتصارات الروسية في أرضروم دون الإشارة إلى الاستسلام الوشيك للقوات البريطانية ضمن حصار الكوت، في دليل واضح على شعور المندوب السامي بضعف شديد إبان سلسلة الهزائم البريطانية.
في الوقت عينه، ولعلمه بأنه يتفاوض مع بريطانيا في وضعها المزري، فرض الشريف حسين صفقة صعبة على الحكومة البريطانية، وبدلًا من السعي للاعتراف باستقلال العرب، اشترط الأمير تأسيس “مملكة عربية” وتنصيبه زعيمًا لها، ومع ذلك، وافق أمير منطقة مكة المكرمة على تقديم تنازلات إقليمية كبيرة؛ فعلى الرغم من أنه زعم بأن ولايات العراق تشكل جزءًا لا يتجزأ من المملكة العربية المقبلة، إلا أنه وافق على ترك تلك المناطق محتلة من قِبل القوات البريطانية وتحت الوصاية البريطانية لفترة قصيرة مقابل مبلغ مالي مناسب تدفعه بريطانيا كتعويضات للمملكة العربية خلال فترة الاحتلال.
على الجهة الأخرى، كانت المطالبات الفرنسية بسوريا أصعب للتقبل على الأمير العربي، كون المحافظات السورية، كما أصرّ الحسين، كانت “عربية خالصة” ولا يمكن استبعادها من المملكة العربية، ولكن في سياق المراسلات، اعترف الشريف حسين بأنه يرغب بـ”تجنب ما من الممكن أن يؤذي التحالف مع بريطانيا العظمى وفرنسا والاتفاق الذي تم بينهما خلال الحروب والكوارث الحالية”، ومع ذلك حذّر مكماهون في رسائله قائلًا: “بمجرد الانتهاء، وفي أول فرصة بعد هذه الحرب، يجب أن نسألكم لماذا نترك الآن فرنسا في بيروت وسواحلها”، أما باقي المراسلات فركزت على الاحتياجات المادية للثورة: الذهب، الحبوب، والأسلحة اللازمة للحفاظ على المجهود الحربي العربي في المستقبل ضد الأتراك.
لم يكن من الممكن أن يحقق مكماهون نجاحًا أكبر من الذي حققه فعلًا، حيث نجح في إبرام اتفاق مع شريف مكة مستثنيًا الأراضي السورية التي يطالب بها الفرنسيون والمحافظات العراقية التي تمنى البريطانيون الاحتفاظ بها، وكان غموض حدود الأراضي التي اعترف بها الحسين لمكماهون في مراسلاتهما ميزة مذهلة تلعب لصالح الإنجليز في مواجهة العرب، ولكن على الجانب الآخر، كان لا بد من إبرام اتفاقيات أكثر دقة وتحديدًا في إطار العلاقات البريطانية-الفرنسية لتقسيم الأراضي العربية فيما بعد الحرب.
كان لا بد للحكومة البريطانية أن تسعى لإبرام اتفاق مع فرنسا للحفاظ على الوعود التي قطعتها للشريف حسين، حيث كان وزير الخارجية البريطاني، السير إدوارد غراي، قد اعترف وارتضى مسبقًا باهتمام فرنسا الخاص في سوريا، وفعلًا وفي أكتوبر 1915، وبعد إقرارها للتنازلات الإقليمية التي منحها مكماهون للشريف حسين، طلبت وزارة الخارجية البريطانية من الحكومة الفرنسية إرسال مفاوضين إلى لندن لوضع حدود واضحة المعالم للمطالبات الفرنسية في سوريا، وحينها أرسل وزير الخارجية الفرنسي القنصل العام السابق في بيروت، شارل فرانسوا جورج بيكو، للتفاوض مع السير مارك سايكس على تقسيم يرتضيه الجانبان في حقبة ما بعد الحرب للأراضي العربية.
كان غموض حدود الأراضي التي اعترف بها الحسين لمكماهون في مراسلاتهما ميزة مذهلة تلعب لصالح الإنجليز في مواجهة العرب، وبالمقابل، تفاوض فرانسوا جورج بيكو مع السير مارك سايكس على تقسيم أكثر دقة وتحديدًا للأراضي العربية ترتضيه بريطانيا وفرنسا
أدت حقيقة أن البريطانيين والفرنسيين اقتسموا فيما بينهم الأراضي التي كان الشريف حسين يرغب بضمها للمملكة العربية المستقبلية إلى وصف الكثير من المؤرخين لاتفاقية سايكس-بيكو على أنها مثال فاحش على الغدر الاستعماري الإمبريالي، وربما لن نجد وصفًا أكثر بلاغة للاتفاقية من ذاك الذي أطلقه المؤرخ الفلسطيني جورج أنطونيوس بقوله: “اتفاقية سايكس بيكو وثيقة مروعة، إنها ليست نتاج الجشع في أسوأ حالاته فحسب، بل إنها نتاج للجشع المرتبط بالشك الذي قاد إلى حماقة، كما أنها تعبير مذهل عن ازدواجية المعايير”.
ولكن بالنسبة لبريطانيا وفرنسا، واللتان اقتربت بهما تنافس مصالحهما الإمبريالية إلى حافة الحرب، كان اتفاق سايكس-بيكو ممارسة ضرورية، حيث حددت فرنسا على وجه الدقة المناطق التي ترغب بها في كيليكيا وسوريا، كما حددت بريطانيا مطالباتها في بلاد ما بين النهرين، وهي المنطقة التي حاول مكماهون استبعادها قدر الإمكان من تعهداته مع الشريف حسين.
هناك الكثير من المفاهيم الخاطئة حول اتفاقية سايكس بيكو؛ فبعد قرن من الزمان، لا يزال الكثيرون يعتقدون بأن هذا الاتفاق هو الذي عيّن حدود الشرق الأوسط الحديث، ولكن في الواقع، الخريطة كما رسمها سايكس وبيكو لا تشبه الشرق الأوسط اليوم، لأن تلك الاتفاقية حددت مجالات الهيمنة الاستعمارية في سوريا وبلاد ما بين النهرين، وخوّلت فرنسا وبريطانيا حرية “إنشاء إدارة مباشرة أو غير مباشرة أو السيطرة على تلك المناطق كما ترغبان”.
حددت فرنسا بموجب الاتفاقية مطالباتها ضمن “المنطقة الزرقاء” والتي تمتد على الساحل الشرقي للبحر المتوسط ابتداءًا من ميناء مرسين وأضنة، مرورًا بخليج الاسكندرونة ومن ثم جنوبًا ضمن شواطئ سوريا الحديثة ولبنان حتى ميناء مدينة صور، كما طالب الفرنسيون أيضًا ضمن المنطقة الزرقاء بجزء واسع من أراضي شرقي الأناضول من شمال سيفاس وحتى الشرق لمدينتي ديار بكر وماردين، حيث تقع جميع هذه المدن حاليًا داخل أراضي الجمهورية التركية الحديثة، أما في “المنطقة الحمراء”، فقامت بريطانيا بتأمين مطالباتها بالمحافظات العراقية للبصرة وبغداد.
هناك الكثير من المفاهيم الخاطئة حول اتفاقية سايكس بيكو؛ فبعد قرن من الزمان، لا يزال الكثيرون يعتقدون بأن هذا الاتفاق هو الذي عيّن حدود الشرق الأوسط الحديث، ولكن في الواقع، الخريطة كما رسمها سايكس وبيكو لا تشبه الشرق الأوسط اليوم
علاوة على ذلك، تم تقسيم الأراضي الشاسعة الواقعة ما بين المنطقتين الزرقاء والحمراء إلى مناطق منفصلة تمارس ضمنها بريطانيا وفرنسا نفوذهما غير الرسمي، المنطقة (A) وضعت المدن الداخلية الرئيسية من سوريا (حلب، حمص، حماة، ودمشق)، وكذلك مدينة الموصل في شمال العراق تحت السيطرة الفرنسية غير المباشرة، وبالمقابل رسم البريطانيون حدود إمبراطوريتهم غير الرسمية ضمن المنطقة (B) التي تمتد من صحارى شمال الجزيرة العربية من العراق وحتى حدود سيناء في مصر، حيث كانت هاتان المنطقتان (A و B) تشكلان جزءًا من “المنطقة العربية المستقلة أو حلف الحكومات العربية” التي تقع تحت حكم قائد عربي، وهو التقسيم الذي تقلّص إلى درجة كبيرة عمّا كان عليه ضمن تعهدات مكماهون إلى الشريف حسين.
المنطقة الوحيدة التي لم يستطع البريطانيون والفرنسيون التوافق عليها كانت فلسطين، حيث لم يتمكنوا من تسوية مطالباتهما المتضاربة حول تلك المنطقة، فضلًا عن أنهم كانوا يتوقعون بأن تعمل الطموحات الروسية على زيادة تعقيد المفاوضات؛ لذا قرر سايكس وبيكو تلوين خريطة فلسطين باللون البني، لتمييزها عن المنطقتين الحمراء والزرقاء، واقترحا تأسيس “إدارة دولية” ضمنها يتم تحديد شكلها النهائي من خلال “المفاوضات مع روسيا وغيرها من الحلفاء وممثلي شريف مكة”، وهو المكان الوحيد الذي ورد فيه ذكر صريح للشريف حسين ضمن اتفاقية سايكس بيكو.
في مارس 1916، سافر سايكس وبيكو إلى روسيا لتأمين موافقتها على خطة التقسيم، وحينها وبالإضافة إلى مطالباتهم السابقة بالمضائق وبالقسطنطينية، التي تم تأكيدها ضمن اتفاقية القسطنطينية لعام 1915، سعى وزراء القيصر للحصول على الاعتراف البريطاني والفرنسي بضم الأراضي التركية التي اجتاحها الجيش الروسي في ذاك الوقت، وهي أرضروم، والمرفأ المطل على البحر الأسود طرابزون، مدينة فان المحطمة، وبيتليس، حيث اشترط الروس موافقة البريطانيين والفرنسيين على حيازتهم لتلك المناطق كثمن لإذعان روسيا على شروط سايكس بيكو.
بالمحصلة، وبعد الحصول على دعم روسيا للاتفاقية في مايو 1916، كان الحلفاء قد توصلوا إلى اتفاق شامل على تقسيم تركة الإمبراطورية العثمانية لما بعد الحرب، وفي تلك الآونة، تمكنوا من إخفاء كامل هذه الاتفاقات عن حلفائهم العرب، الشريف حسين وأولاده.
أكّد البند الـ12 من مبادئ وودرو ويلسون الـ14 للعرب، جنبًا إلى جنب مع الشعوب الأخرى التي كانت خاضعة للإمبراطورية العثمانية، “حق الحياة والفرصة غير المحدودة بتقرير المصير والتنمية المستقلة”، وحينها بدأ عدد من النشطاء السياسيين بالعمل ضمن سوريا وبلاد ما بين النهرين لمناقشة الرؤى السياسية المختلفة بعد التحرر من القيود التي فُرضت عليهم إثر عقود من القمع السياسي العثماني.
توصل الحلفاء إلى اتفاق شامل على تقسيم تركة الإمبراطورية العثمانية لما بعد الحرب، وفي تلك الآونة، تمكنوا من إخفاء كامل هذه الاتفاقات عن حلفائهم العرب
في مصر، كانت النخب السياسية تدرك ما تريده تمامًا؛ فبعد 36 عامًا من الاحتلال البريطاني، سعى المصريون للاستقلال التام، وحينها اقتربت مجموعة من السياسيين المصريين البارزين من السلطات البريطانية في القاهرة لطلب الإذن بعرض قضيتهم من أجل الاستقلال في مؤتمر باريس للسلام، واستقبل السير ريجنالد ونجت، المندوب السامي البريطاني، الوفد السياسي المصري الذي كان يترأسه المحارب المخضرم سعد زغلول بعد يومين من إعلان الهدنة مع ألمانيا، أي في 13 نوفمبر 1918، وبعد سماعه للمندوبين، رفض طلبهم بشكل قاطع لحضور مؤتمر السلام، مبررًا ذلك بأن مؤتمر باريس كان يهدف لتقرير مصير القوى المهزومة بعد الحرب، ومصر لم تكن معنية بهذا الأمر بأي حال من الأحوال، ولكن عندما استمر زغلول ورفاقه في جهودهم، تم إلقاء القبض عليهم في 8 مارس 1919 ورُحّلوا إلى مالطا، وفي اليوم التالي، انفجرت مصر بالمظاهرات التي انتشرت بسرعة على الصعيد الوطني وانخرطت فيها مختلف الطبقات الاجتماعية مطالبة بشكل جماعي باستقلال البلاد.
هاجم المصريون في المدن والأرياف كافة المظاهر الواضحة للقوة الإمبريالية البريطانية في مصر، حيث تم تخريب السكك الحديدية، خطوط التلغراف، حرق المكاتب الحكومية، وتجابهت المراكز الحكومية بحشود المتظاهرين الضخمة والغاضبة، وحينها أرسل البريطانيون المزيد من الجنود لاستعادة النظام، ولكن العسكر، كما هو معروف، يعدون أدوات حادة للسيطرة على الجماهير؛ لذا اطردت الأعداد بالتضخم.
اتهم المصريون الجنود البريطانيين بارتكاب الفظائع، كاستخدام الذخيرة الحية ضد المتظاهرين، حرق القرى، وحتى ارتكاب جرائم الاغتصاب، وبحلول نهاية مارس، استشهد 800 مصري وأصيب أكثر من 1600 آخرين جرّاء أعمال العنف الدائرة، وبغية استعادة الهدوء، سمحت بريطانيا بعودة زغلول إلى مصر ليقود وفدًا إلى باريس في أبريل 1919.
ولكن قبل وصول الوفد المصري إلى باريس، استطاع رئيس الوزراء البريطاني ديفيد لويد جورج إقناع حلفائه الفرنسيين والأمريكيين بأن مصر كانت “تحت الحكم الإمبريالي وليست محلًا للسؤال الدولي”، وفي اليوم الذي وصل فيه الوفد المصري إلى المؤتمر، اعترف الرئيس ويلسون بالحماية البريطانية على مصر، ولم يتم الاستماع إلى كلمة الوفد المصري في مؤتمر السلام، وحينها وعلى الرغم من وضع الحرب لأوزارها، إلا أن الحكم البريطاني في مصر كان يشهد أيامًا عصيبة.
لا سلام
بعد انتهاء الحرب، تقدّم الأمير فيصل بقضيته من أجل الاستقلال العربي أمام المجلس الأعلى لمؤتمر الصلح في باريس في يناير من عام 1919، وفي ضوء الأراضي الواسعة التي وعد بها مكماهون الشريف حسين في مراسلاتهما الشهيرة، بدت مطالبات فيصل معتدلة للغاية، حيث سعى للمطالبة بالاستقلال الفوري والكامل للممالك العربية في بلاد الشام (والتي تقابل اليوم الأراضي الحديثة لدول سوريا ولبنان والأردن وفلسطين) والحجاز، التي كان يحكمها والده، الملك حسين، كما ارتضى بالوساطة الأجنبية في أراضي فلسطين لحل معضلة التطلعات العربية – الصهيونية المتضاربة حول المنطقة، فضلًا عن اعترافه بطلبات بريطانيا ضمن بلاد ما بين النهرين، والتي اشترط ضمنها عودة هذه الأراضي للانضمام في نهاية المطاف إلى الدولة العربية المستقلة التي كان يأمل بإقناع صانعي السلام في بارس بخلقها.
بعد تسليم سوريا من قِبل بريطانيا لفرنسا، استجاب المؤتمر السوري العام بإعلان استقلال سوريا مع تعيين فيصل ملكًا على البلاد، ولكن المملكة العربية السورية لم يكن مقدرًا لها البقاء
على الرغم من اعتقاد الهاشميين بأنهم ارتضوا بأقل مما تم وعدهم به من قِبل حلفائهم البريطانيين، إلا أن مطالبات فيصل كانت أكبر من أن تلبيها بريطانيا؛ فكما تمت الإشارة إليه سلفًا، اضطر رئيس الوزراء البريطاني ديفيد لويد جورج للحصول على الموافقة الفرنسية لتأمين المطالبات البريطانية في بلاد ما بين النهرين وفلسطين، مقابل الاعتراف لفرنسا بالأرض السورية، والتي أوضحت فرنسا منذ البداية بأنها ثمن اشتراكها بالحرب؛ لذا، ونتيجة لعدم قدرتها على التوفيق بين هذه المطالبات المتنافسة، دعمت بريطانيا مطالبات حليفتها الأساسية، فرنسا، وتركت فيصل ليعيل نفسه بنفسه.
في 1 نوفمبر 1919، سحب البريطانيون جيشهم من سوريا وسلموا البلاد للسلطة العسكرية الفرنسية، وفي 8 مارس 1920، استجاب المؤتمر السوري العام، وهو هيئة منتخبة مؤلفة من أنصار فيصل مع ممثلين من مناطق مختلفة من سوريا الكبرى، بإعلان استقلال سوريا مع تعيين فيصل ملكًا على البلاد، ولكن مملكة فيصل السورية لم يكن مقدرًا لها البقاء، حيث أرسل الفرنسيون قطعًا عسكرية من لبنان للسيطرة على دمشق، حيث واجهت بقايا جيش فيصل العربي في ممر جبلي على الطريق بين بيروت ودمشق، وألحق الجيش الفرنسي هزيمة سهلة بالقوة الرمزية السورية التي كان قوامها 2000 جنديًا في خان ميسلون في 24 يوليو 1920، وتقدمت القوات الفرنسية إلى دمشق دون مقاومة لتقوض مملكة الملك فيصل السورية قصيرة الأجل، وليحمل فيصل آماله المحطمة بالثورة العربية معه إلى المنفى.
ترك سقوط حكومة فيصل في دمشق الفلسطينيين لمواجهة الاحتلال البريطاني ووعد بلفور وحدهم، حيث لعب وجهاء من البلدات والمدن الفلسطينية دورًا رئيسيًا في المؤتمر السوري العام، ومثّلوا سكان القرى والقرويين أمام اللجنة الأميركية التي أُرسلت من قِبل مؤتمر باريس للسلام للتحقيق في المنطقة في صيف عام 1919، وبين 10 يونيو و21 يوليو، جابت لجنة كينغ-كرين جميع أنحاء سوريا الكبرى لجمع الأدلة وتقييم الرأي العام حول تقرير مصير المستقبل السياسي للمنطقة، وكان من الواضح بأن أغلبية العرب الفلسطينيين يرغبون في أن يُحكموا كجزء من مملكة فيصل العربية.
علاوة على ذلك، ذكرت لجنة كينغ – كرين بأن السكان العرب الفلسطينيين كان يقفون “بشكل قاطع ضد المشروع الصهيوني برمته”، وبأنه “لم يكن هناك شيء واحد يجمع عليه سكان فلسطين أكثر من اتفاقهم على هذا الأمر”.
تصاعد التوتر في عام 1920 مع تسارع الهجرة اليهودية إلى فلسطين بتشجيع من وعد بلفور؛ فبين عامي 1919 و1921، توافد أكثر من 18,500 مهاجر صهيوني إلى شواطئ فلسطين، وفي الأسبوع الأول من أبريل لعام 1920، اندلعت أعمال شغب في القدس مسفرة عن مقتل 5 يهود و4 عرب وسقوط أكثر من 200 جريحًا، ولحقتها موجة أعمال عنف أشد سوءًا في عام 1921، عندما تدخل سكان قرية عربية في معركة ما بين اليهود الشيوعيين والصهاينة في ميناء يافا خلال مسيرات عيد العمال، وشهدت أعمال الشغب التي تلت ذلك مقتل 47 يهوديًا و48 عربيًا وإصابة أكثر من 100 شخصًا، وحينها بدا واضحًا للغاية التناقضات التي أثارها وعد بلفور، الذي أعلنت بريطانيا من خلاله تأييدها تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين لا يؤثر سلبًا على حقوق ومصالح السكان من غير اليهود الأصليين.
ذكرت لجنة كينغ – كرين بأنه لم يكن هناك شيء واحد يجمع عليه سكان فلسطين أكثر من اتفاقهم على رفض المشروع الصهيوني برمته
على صعيد آخر، شاهدت النخب السياسية في العراق الأحداث في مصر وسوريا بعين التوجس والقلق المطرد على مستقبلهم الذاتي؛ فعلى الرغم من التطمينات التي تلقوها في نوفمبر من 1918 عندما أصدر البريطانيون والفرنسيون إعلانًا تعهدوا فيه دعمهم لـ”إقامة حكومات وإدارات وطنية” في الأراضي العربية من خلال عملية تقرير المصير، إلا أن مرور الشهور دون إحراز أي تقدم ملموس نحو وعود الحكم الذاتي أدى إلى اطراد الشبهات والتشككات لدى العراقيين، وفعلًا، تأكدت أسوأ مخاوفهم بعد ورود الأخبار في أبريل 1920 عن اتفاق القوى العظمى في سان ريمو على منح العراق لبريطانيا.
في نهاية يونيو من عام 1920، هب العراق في حملة مقاومة وطنية ضد الحكم البريطاني، واستطاع هذا الحراك الدقيق والمنضبط تهديد القوات البريطانية في البصرة وبغداد والموصل، وكان مركز العمليات ضمن المدن الشيعية المقدسة الواقعة على الفرات الأوسط التي حاربت العثمانيين خلال الثورة العربية الكبرى، ومع توسع الانتفاضة، اضطر البريطانيون لنقل قوات إضافية إلى بلاد ما بين النهرين لقمع المقاومة العراقية على جميع الجبهات، حيث استقدمت بريطانيا قواتها من الهند لتعزيز حملة الـ60 ألف جنديًا في بلاد ما بين النهرين، ليصبح عدد القوات البريطانية ضمن العراق ينوف عن الـ100,000 جنديًا بحلول أكتوبر.
استعادت بريطانيا احتلال منطقة الفرات الأوسط من خلال القصف الجوي والمدفعية الثقيلة متبعة تكتيكات الأرض المحروقة، وبحلول نهاية أكتوبر أعلنت بريطانيا سحق المقاومة العراقية التي أسفرت عن مقتل 2200 فردًا من القوات الخاصة البريطانية وحوالي 8450 عراقيًا ما بين قتيل وجريح.
بالتزامن مع ذلك، كان الشريف حسين، من منصبه كملك للحجاز، يتابع الأحداث الجارية في سوريا وفلسطين والعراق بشعور عميق بالخيانة، حيث كان يحتفظ بنسخة من كافة الرسائل التي تبادلها مع مكماهون، وشعر حينها بأن البريطانيين نكثوا بكافة الوعود التي تضمنتها تلك المراسلات، وناهيك عن انهيار أحلامه بتنصيبه ملكًا على العرب، تمت محاصرة حسين بوضع غير آمن حتى ضمن الحجاز ذاتها، حيث ظهرت حركة ملكية منافسة في وسط شبه الجزيرة العربية يقودها عبد العزيز آل سعود، المعروف في الغرب باسم ابن سعود، هددت بالاستيلاء على جميع أراضي الحجاز من يد الشريف حسين، وما زاد الطين بلة هو إبرام بن سعود لمعاهدة مع بريطانيا العظمى حصل بموجبها على راتب شهري سخي من وزارة الخزانة البريطانية.
أدى مرور الشهور دون إحراز أي تقدم ملموس نحو وعود الحكم الذاتي إلى اطراد الشبهات والتشككات لدى العراقيين، وتأكدت أسوأ مخاوفهم بعد ورود الأخبار في أبريل 1920 عن اتفاق القوى العظمى في سان ريمو على منح العراق لبريطانيا
كان البريطانيون يشعرون بالقلق أيضًا إزاء مستقبل الحجاز؛ فعندما أبرموا معاهدة رسمية مع ابن سعود في عام 1915، كانوا قد صاغوا علاقتهم مع الهاشميين بشكل تحالف في زمن الحرب، وبمجرد انتهاء الحرب، انتهى التزامهم مع الشريف حسين بالتبعية، وبدون إبرام ملك الحجاز المسن لمعاهدة مع بريطانيا، لم تكن الحكومة البريطانية تستطيع حماية أرض الملك حسين بالحجاز لعدم وجود نص قانوني، وبغية إقناع الملك حسين بالتوقيع على المعاهدة، كان عليهم حمله على قبول تسوية ما بعد الحرب التي تم التوصل إليها في سان ريمو؛ لذا، وفي صيف عام 1921 تم تكليف توماس إدوارد لورانس بمهمة مستحيلة للتفاوض مع الملك حسين الذي يشعر بالغدر على شروط معاهدة أنجلو- حجازية.
في الوقت الذي التقى فيه لورانس مع الملك حسين، كانت بريطانيا قد قطعت شوطًا طويلًا نحو تنفيذ الوعود التي قطعها مكماهون في مراسلانه مع الحسين، حيث عقد ونستون تشرشل، الذي كان وزير بريطانيا لشؤون المستعمرات، اجتماعًا سريًا في القاهرة في مارس 1921 لتحديد المستقبل السياسي لولايات بريطانيا الجديدة في الشرق الأوسط، وفي ذلك الاجتماع، اتفقت كبار الشخصيات البريطانية على تثبيت نجل الملك حسين، فيصل، ملكًا على العراق، ونجله الآخر عبد الله كحاكم لإقليم لم يكن قد تم تحديده بعد سُمي بشرق الأردن، وهو الإقليم الذي انفصل رسميًا عن فلسطين في عام 1923، ومع تعيين حكام هاشميين في كل ولاية من ولايات بريطانيا، عدا فلسطين، كان يمكن لتشرشل أن يزعم بأنه يعمل في إطار روح، أو حتى بحرفية، التعهدات التي أطلقتها مكماهون في زمن الحرب.
بين يوليو وسبتمبر من عام 1921، سعى لورانس عبثًا لإيجاد صيغة للتوفيق بين الملك حسين وموقف بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية في منطقة الشرق الأوسط، حيث رفض حسين حصر طموحاته بمنطقة الحجاز، اعترض على فصل سوريا ولبنان عن بقية الأراضي العربية ووضعهما تحت الانتداب الفرنسي، رفض الانتداب البريطاني على العراق وشرق الأردن، رغم حكمهما اسميًا من قِبل أبنائه، كما رفض الاعتراف بتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين؛ لذا، وفي ظل عدم قبول الملك حسين بأية تسوية قامت بها بريطانيا بعد الحرب، لم يكن هناك أي مجال لإبرام معاهدة أنجلو- حجازية، مما اضطر لورنس للعودة إلى لندن بخفي حنين.
حاول البريطانيون لآخر مرة إبرام معاهدة مع ملك الحجاز في عام 1923، ولكنها جوبهت برفض الملك المسن، مما حرم الأخير من الحماية البريطانية في ذات اللحظة التي كان فيها ابن سعود يستعد للاستيلاء على محافظة البحر الأحمر، وفي 6 أكتوبر 1924، تنازل الملك حسين عن حكم الحجاز لصالح نجله البكر، علي، وذهب إلى المنفى، وانتهى عهد الملك علي في أواخر عام 1925 عندما غزا السعوديون الحجاز، وكالعثمانيين من قبلهم، تحصن الهاشميون في نهاية معركة الحجاز في المدينة المنورة، وتنازل الملك علي عن المدينة المقدسة في ديسمبر من عام 1925، بعد حوالي سبع سنوات من استسلام فخري باشا لقوات الملك حسين في المدينة المقدسة ذاتها.
إرث الحرب الكبرى
خلافًا لما تصوره أغلب المعاصرين، لعبت الجبهة العثمانية تأثيرًا هائلًا في خضم الحرب العالمية الأولى؛ حيث ظن مخططو الحرب من الحلفاء بأن نصرًا سريعًا على الإمبراطورية العثمانية الضعيفة قد يعجّل من استسلام دول المحور، ولكن بدلًا من ذلك، وجد الحلفاء أنفسهم مضطرين لدخول سلسلة من الحملات استمرت لكامل فترة الحرب، فالمعارك في القوقاز وبلاد فارس، المحاولة الفاشلة لاحتلال الدردنيل، انتكاسات بلاد ما بين النهرين، والحملة الطويلة عبر سيناء وفلسطين وسوريا، جميع ذلك حوّل مئات الآلاف من الرجال والعتاد الحربي الإستراتيجي لقوات الحلفاء من المسارح الرئيسية للعمليات إلى الجبهات الغربية والشرقية، وبدلًا من الإسراع في إنهاء الصراع، ساعدت الجبهة العثمانية على إطالة الحرب.
بعد إبرامها لمعاهدة لتمويل عبد العزيز بن سعود في الحجاز، كلّفت بريطانيا توماس إدوارد لورانس بمهمة مستحيلة للتفاوض على شروط معاهدة أنجلو- حجازية مع الملك حسين الذي يشعر بالغدر
يُعزى الجزء الأكبر من المجهود الحربي الذي بذله الحلفاء في الشرق الأوسط إلى ما ثبت بأنه الخوف غير المبرر من الدعوات الجهادية؛ ففي حين بقي المسلمون المستعمَرون غير آبهين أو مصغين لنداءات خليفة المسلمين، السلطان العثماني، واصلت القوى الإمبريالية الأوروبية بافتراض أن أي نجاح تركي كبير أو نكسة للحلفاء قد تثير انتفاضة إسلامية في مستعمراتها في الهند وشمال أفريقيا، والمفارقة هنا، بأن هذا التوجس الغربي ترك الحلفاء أكثر استجابة لدعوة الخليفة من الجمهور المسلم المستهدف أساسًا، واستمر هذا الهذيان حتى وقت لاحق من هذا القرن، حيث لم يتخلص العالم الغربي من الاعتقاد الطاغي في عقليته بأن المسلمين قد يتصرفون بطريقة متعصبة جماعية؛ فكما ثبت من الحملة التي تمت تسميتها بـ”الحرب على الإرهاب” بعد حوادث 11 سبتمبر 2001، استمر صناع السياسات الغربية بالنظر إلى الجهاد بطريقة تذكرنا بنظرة أسلافهم من مخططي الحرب ما بين عامي 1914 و1918.
كانت الحرب العالمية الأولى ذاتها مؤثرة بشكل كبير في صنع الشرق الأوسط الحديث، فمع سقوط الإمبراطورية العثمانية، حلّت الإمبريالية الأوروبية مكان الحكم التركي، وبعد أربعة قرون من التوحد تحت إمبراطورية متعددة الجنسيات في ظل حكم المسلمين العثمانيين، وجد العرب أنفسهم مقسمين إلى عدد من الدول الجديدة الواقعة تحت السيطرة البريطانية والفرنسية، حيث حققت بضعة بلدان الاستقلال ضمن حدودها الخاصة، كتركيا وإيران والمملكة العربية السعودية، ولكن القوى الإمبريالية فرضت حدود وأنظمة الحكم في معظم دول منطقة الشرق الأوسط كجزء من تسوية ما بعد الحرب.
كانت مفاوضات تقسيم تركة الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب محل مفاوضات مكثفة بين الحلفاء طوال فترة الحرب، ويتبين لنا من خلال إلقاء نظرة لاحقة، بأن كافة اتفاقات التقسيم المناطقية جرت ضمن سياقها في زمن الحرب؛ فاتفاقية القسطنطينية لعام 1915 تمت عندما توقع الحلفاء السقوط السريع لاسطنبول، وجرت مراسلات الحسين مكماهون بين عامي 1915 و 1916 عندما احتاجت بريطانيا لحليف مسلم ضد الجهاد العثماني، كما تم إطلاق وعد بلفور في عام 1917 عندما أراد البريطانيون إعادة النظر في بنود اتفاقية سايكس بيكو لتأمين الحكم البريطاني لفلسطين، ومن هذا المنطلق، فإن هذه الاتفاقات الغريبة لم يكن من الممكن تصورها إلا في زمن الحرب، وأسفرت بالمحصلة عن تهيئة أسباب التوسع الإمبراطوري لبريطانيا وفرنسا، ولو كانت القوى الأوروبية معنية حينها بإقامة شرق أوسط مستقر، لعمدت لصياغة الحدود بطريقة مختلفة تمامًا عما فعلته في تلك الحقبة.
أثبتت حدود تسوية ما بعد الحرب بأنها مرنة، تمامًا كالصراعات التي ولّدتها؛ فالشعب الكردي، الذي تقسّم ما بين تركيا وإيران والعراق وسوريا، انخرط في صراع مع جميع الحكومات المضيفة له على مدى القرن الماضي سعيًا خلف حقوقه الثقافية والسياسية، كما انزلقت لبنان، التي أنشأتها فرنسا في عام 1920 كدولة مسيحية، ضمن سلسلة من الحروب الأهلية بالتوازي مع فشل مؤسساتها السياسية في مواكبة التحولات الديمغرافية التي شهدت تفوق عدد المسلمين على المسيحيين في البلاد، أما سوريا، والتي لم تستطع تجاوز اقتصاص لبنان من خاصرتها، فأرسلت جيشها لاحتلال لبنان في خضم الحرب الأهلية وبقيت مستمرة باحتلاله لما يناهز الثلاثين عامًا.
كما ثبت من الحملة التي تمت تسميتها بـ”الحرب على الإرهاب” بعد حوادث 11 سبتمبر 2001، استمر صناع السياسات الغربية بالنظر إلى الجهاد بطريقة تذكرنا بنظرة أسلافهم من مخططي الحرب ما بين عامي 1914 و1918
العراق، وعلى الرغم من موارده الطبيعية والبشرية، إلا أنه لم يعرف السلام والاستقرار في حدوده المشكّلة فيما بعد الحرب، حيث شهدت دولة العراق انقلابًا وصراعًا مع بريطانيا في الحرب العالمية الثانية، ثورة في عام 1958، حربًا مع إيران بين عامي 1980 و 1988، ودورة غير منتهية من الحرب منذ غزو صدام حسين للكويت عام 1990 والغزو الأميركي للعراق عام 2003 للإطاحة بصدام حسين.
وأخيرًا، صاغ الصراع العربي الإسرائيلي منطقة الشرق الأوسط باعتبارها منطقة حرب، أكثر من أي إرث آخر لتقسيم ما بعد الحرب، وتركت الحروب الأربعة الكبرى التي خاضها العرب وإسرائيل (أعوام 1948 و1956 و1967 و 1973) الشرق الأوسط تحت وطأة عدد من المشاكل المستعصية التي لا تزال دون حل رغم معاهدات السلام بين إسرائيل ومصر في عام 1979 وبين إسرائيل والأردن في عام 1994، وبقي اللاجئون الفلسطينيون منتشرون بين لبنان وسوريا والأردن، كما واصلت إسرائيل احتلالها لمرتفعات الجولان السورية ومزارع شبعا في جنوب لبنان، وبالمحصلة، يمكن أن تُعزى جذور الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين مباشرة إلى التناقضات الأساسية التي خلّفها وعد بلفور.
تم تحدي شرعية حدود الشرق الأوسط في أكثر من مناسبة منذ تأسيسها ابتداءًا؛ حيث دعا القوميون العرب في أربعينيات وخمسينيات القرن المنصرم صراحة للوحدة بين الدول العربية للإطاحة بالحدود المصطعنة التي أدانوها على نطاق واسع باعتبارها إرثًا استعماريًا وإمبرياليًا، كما دعت الحركات الإسلامية عموم الإسلاميين لتحقيق الاتحاد الإسلامي الأوسع لذات الهدف، وفي عام 2014، قامت ميليشيا تطلق على نفسها اسم الدولة الإسلامية بالتغريد لأتباعها بأنها “ستحطم حدود سايكس بيكو” عندما أعلنت الخلافة ضمن الأراضي التي تمتد من شمال سوريا إلى العراق، وبالمحصلة، وبعد قرن كامل على سايكس بيكو، بقيت حدود الشرق الأوسط مثيرة للجدل ومتقلبة.
لم يستقطب مرور مائة عام على الحرب العظمى سوى القليل من الاحتفال في الشرق الأوسط؛ فبصرف النظر عن جاليبولي، حيث تجمع مخضرمو الأتراك والأنزاك لتذكر موتاهم في الحرب، تنحت نضالات وتضحيات الجيوش العالمية التي قاتلت على الجبهة العثمانية لتحل محلها اهتمامات معاصرة أكثر إلحاحًا، كالاضطرابات الثورية في مصر، الحرب الأهلية في سوريا والعراق، والعنف الدائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين، جميع ذلك شغل الشرق الأوسط عن مناسبة الذكرى المئوية لاندلاع الحرب العظمى، ولكن ومع مرور ذكرى الحرب في بقية العالم، يجب أن يؤخذ الدور الذي لعبه العثمانيون في ذلك الصراع بعين الاعتبار، فالجبهة العثمانية، حوّلت الحرب العظمى في أوروبا من خلال ساحات قتالها الآسيوية وجنودها المختلفي المشارب إلى الحرب العالمية الأولى، والشرق الأوسط، أكثر من أي جزء آخر من العالم، لا يزال يشعر ويعاني من مخلفات هذه الحرب العظمى وصولًا إلى يومنا هذا.
* هذه المقالة مقتبسة من كتاب “سقوط الدولة العثمانية: الحرب العظمى في الشرق الأوسط 1914-1920” للكاتب يوجين روغان.
المصدر: ذا كايرو ريفيو