هادئة هي نسمات صباح هذا اليوم عكس ما اعتدناه منذ أن احتلتنا تلك الدبابة العسكرية، لا أعلم كيف كان يشعر أجدادي وهم يشاهدون دبابات العدو الصهيوني إبان فترة النكسة وما بعدها؟!
لا أعلم… ولكنني أعلم شعوري كلما شاهدت تلك الدبابات المزينة بأعلام الوطنية الزائفة، لأتذكر أمي التي قتلت من قذائفها.
أتذكر وداعها لي كل صباح لمدرستي وافتقده، ذهبت لها بالأمس جلست على قبرها لأخبرها بحسن مراجعتي لمادة امتحاني اليوم، تحدثت معها كثيرًا وبكيت عند قدميها، تمددت بجوارها قليلاً لأشعر بدفئها، ثم تذكرت كيف كانت تربيني كي أكون رجلاً، بثثت لها شوقي وجددت عهدي معها وأنا أودعها، لم أستطع أن أزرع زهرة بجوار قبرها فلقد أحرقوا كل الزهور وجرفوا أغصان الزيتون.
ها أنا أدلف إلى مدرستي وطنين الطائرة الزنانة يصل لأذني، هل حقًا قد رحل المحتل الصهيوني عنا؟!
ها أنا أرى أصدقائي، ضحكاتنا لم تعد كما كانت منذ سنوات، كبرنا كثيرًا صرنا رجالًا رغم ضحكات طفولتنا التي تأبى إلا أن تظهر في ثنايا مرحنا المخطوف.
حان وقت الامتحان، أجدد العهد على نفسي وأنا أتذكرها.
يمر المراقب واضعًا ورقة الامتحان، لأقرأ أول سؤال: للأم فضل عظيم على أبنائها، اكتب في هذا الموضوع موضحًا فضل الأم عليك وواجبك نحوها.
هنا توقف كل شيء.
كل شيء مر بذهني، كما يمر بذهنك أنت الآن عدما تتفكر في والدتك، الحب، الحنان، الضحك، البكاء، السعادة، المرح… صوت سقوط القذيفة والموت.
نظرت إلى ورقة الامتحان وسؤالها الأول وكتبت: “أمي ماتت ومات معها كل شيء”.
………………..
إلى هنا انتهت القصة، قد تظنوها قصة أدبية وهي كذلك في سرديتها وتخيلها ولكن للقصة أصل، أصلها أنه في امتحان اللغة العربية للصف الخامس الابتدائي للعام الدراسي 2015/ 2016 بمحافظة شمال سيناء إدارة الشيخ زويد التعليمية كان أول سؤال في الورقة في جزء التعبير هو: للأم فضل عظيم على أبنائها، اكتب في هذا الموضوع موضحًا فضل الأم عليك وواجبك نحوها.
وكانت إجابة الطفل الذي لا نعلم اسمه هي “أمي ماتت ومات معها كل شيء”.
كما يظهر في ورقة الإجابة تلك التى تداولها بتأثر حزين بعض من مستخدمي موقع التواصل الاجتماعي الـ Facebook:
يظن البعض أن الكتابة شيء سهل على النفس وخصوصًا لمن يعلم حقيقة ما يحدث، ولكن الحقيقة أن من يعلم يتألم ومن يتألم يتردد قلمه كثيرًا حتى يستبد به الألم فيكتب.
كنت وأنا أقرأ كلمة هذا الطفل الصغير “أمي ماتت ومات معها كل شيء”، أتذكر صوت هذا الصاروخ الحربي الذي أُطلق من طائرة حربية يوم 3 مارس 2016 ليقتل سيدة ويصيب طفلين وفتاة من عائلة الطرشان من قبيلة السواركة بمنطقة العجراء جنوب شرق الشيخ زويد، كما نشر حينها على صفحة سيناء 24 المتخصصة في أخبار سيناء.
كنت أتساءل هل من كتب هذه العبارة أحد هذين الطفلين أو الفتاة؟ أم قد كتبه طفل غيرهما؟
قد لا يعلم البعض أن في شهر أبريل 2016 قتل الجيش المصري 5 نساء وفقًا لتقريرمركز الندوة للحقوق والحريات، لكل منهن اسم وقصة وحكاية وأسرة وصوت طلقة أو قذيفة أنهت حياة.
عبارة هذا الفتى الصغير أيقظت في أذني رنين إطلاق كمين للجيش المصري بمنطقة أبو طويلة طلقات عشوائية لتخترق طلقتان رأس وصدر السيدة “تمام عودة غانم” 65 سنة بمدينة الشيخ زويد بتاريخ 7 أبريل 2016.
وأوقفتنى أمام جثمان السيدة “رتيبة محمد إبراهيم”، 50 سنة وقد أصيب رأسها بطلق ناري أطلقته عليها قوات الجيش بكمين الوفاق غرب مدينة رفح بتاريخ 11 أبريل 2016.
وذكرتنى بوفاة السيدة “ريا عواد عويضة” 55 سنة، متأثرة بجراحها بعد إصابتها بشظية في البطن إثر قصف عشوائي للجيش المصري بتاريخ 19 أبريل 2016.
وبلحظة سقوط السيدة “ماجدة نصار البعيرة” 23 سنة، برصاص قوات الجيش المصري المتمركزة في كمين حي الزهور على الطريق الدائري جنوب مدينة العريش بتاريخ 22 أبريل 2016.
شريط طويل لا ينسى ولا ينساه الكثير ومنهم هذا الطفل الذي مات بداخله وداخلنا الكثير، أكتب هذا بمشاعر متضاربة وأنا لا أعرف ما مصير هذا الطفل الآن: هل مازال يحيا أم أن قصف طائرة زنانة إسرائيلية أو قصف مدفعي للجيش المصري قد قتله؟
أكتب هذا حتى نعلم ونتعلم وحتى لا يأتي مخادعًا باسم العفو والنسيان قد يطمس غد سيشرق يومًا.
أكتب هذا كي تبلغلوا وتنشروا وتتحدثوا عن قصة طفل ماتت أمه ومات معها كل شيء.