يقول غوستاف لوبون في روح الثورات: “يعبرون عادة عن الانقلابات السياسية بالثورة، مع أنه يقتضي أن تعبر هذه الكلمة عن جميع التحولات الفجائية للمعتقدات والأفكار والمذاهب”، وبالتالي فإن الثورة “فكرة ترتبط بواقع معين ولا تحلق في الفراغ، فليست الثورة مطلوبة لذاتها، بل هي سعي لتغيير واقع معين رأى الثائرون أن الموت أهون من الصبر عليه” كما يقول يوسف زيدان.
فحين يثور الإنسان على نفسه فيُغيرها جذريًا بالانتقال من حال البطالة والفقر إلى العمل والغنى، ومن الركون والدعة إلى النهوض والارتقاء، فهذه ثورة وإن سُميت تغييرًا، ومن يثور على عادات سيئة وبيئات فاسدة في مدينته أو عمله فيُغيرها إلى الأفضل، فهذه أيضًا ثورة وإن كانت في المكان.
إن في داخل كل منا جينات ثورية كامنة، وعند الكثيرين القابلية للثورة
وقد تعددت الثورات وتنوعت، فهناك الثورة العلمية، وثورة الفن، وثورة الفكر الذي كتب غالي شكري عنها في “ثورة الفكر في أدبنا الحديث”، واعتبر سيد قطب أن رسالة محمد – صلي الله عليه وسلم – كانت “ثورة تحريرية كاملة للإنسانية؛ ثورة شملت كل جوانب الحياة الإنسانية، وحطمت الطواغيت على جميع أسمائها في هذه الجوانب جميعًا، ثورة على طاغوت الشرك بالله في عالم العقيدة، وثورة على طاغوت التعصب: التعصب في كل صوره وألوانه، طاغوت التعصب ضد الجنس واللون، وطاغوت التعصب الديني: بإعلان حرية الاعتقاد في صورتها الكبرى (لا إكراه في الدين)، وثورة على طاغوت التفرقة الاجتماعية والنظام الطبقي، وثورة على طاغوت الظلم والبغي والطغيان، وثورة على طاغوت الرق، وثورة على طاغوت الرجل وطغيانه على المرأة”، إلى جانب الثورات السياسية ضد أنظمة الحكم المستبدة.
من هنا أستطيع أن أقول إن في داخل كل منا جينات ثورية كامنة، وعند الكثيرين القابلية للثورة، ولكنها – الثورة – تحتاج إلى مُحركات أو عوامل بعث لإخراجها من مكمنها، فمثلها كمثل أرض صالحة للإنبات، حملت لها الرياح بعض البذور، فظلت كامنة بداخلها حتى إذا ما أمطرت السماء اهتزت وربت وأنبتت، فالثورة إذن تحتاج إلى حالة ثورية لبعثها.
تبدأ القابلية للثورة في الغالب من عوامل عقلية كالقضاء على ظلم فادح أو استبداد ممقوت أو ملك يبغضه الشعب، ومع أن العقل هو أصل الثورة فإن الأسباب التي تهيئها لا تؤثر في الجماعات إلا بعد أن تتحول إلى عواطف
وليس شرطًا أن يثور الجميع، لأنه ربما الخميرة الثورية لم تختمر لديهم، ومع الأثر الإيجابي للأعداد الكبيرة، إلا أن نضوج الأفكار الثورية عند القلة ربما تكون أكثر أثرًا وأعظم نفعًا، ويكفي أن تحرك الحالة الثورية بعض الرموز أو النخبة أو الشباب كي يقودوا الآخرين كمارتن لوثر كينج وغاندي ومانديلا وعمر المختار وأحمد عرابي وعبد الكريم الخطابي وغيرهم.
ولقد تميزت ثورات الربيع العربي بأنها ثورات الشباب الذين كانوا الأكثر قابلية للثورة، وكانوا شرارتها وقادتها والمضحين في سبيلها، وهذا دليل على حيوتها، كتب توفيق الحكيم في مقدمة كتابه “ثورة الشباب”: “كل ثورة دليل حيوية، والشباب هو الجزء الحيوي في الجسم، فلا عجب أن يقوم بالثورة الشباب، وقلما تكون هناك ثورة شيوخ، لأن الشيخوخة هي تناقص الحيوية، والثورة ما دامت متصلة بالحيوية فلا بد أن تكون منشطة لهذه الحيوية ومجددة لها، وإلا اتخذت اسمًا آخر هو الهوجة، والفرق بين الثورة والهوجة هو أن الهوجة تقتلع الصالح والطالح معًا، أما الثورة فهي تبقي النافع وتستمد منه القوة، وتقضي فقط على البالي المتهافت، المعوق للحيوية، المغلق لنوافذ الهواء المتجدد، الواقف في طريق التجديد والتطوير”.
لذا فعندما تهيأ المناخ الثوري، ثارت الجماهير الغفيرة على أنظمة الفساد التي عششت في كل ركن من أركان البلاد، وأسدلت ستائرها السوداء حاجبة شموس العدالة، وأمطرت الشعوب بالفساد وقمع الحريات وانتهاك حقوق الإنسان واغتصاب السلطة وتوريثها ونهب خيرات الأوطان.
الثورة دليل حيوية، والشباب هو الجزء الحيوي في الجسم، فلا عجب أن يقوم بالثورة الشباب، وقلما تكون هناك ثورة شيوخ، لأن الشيخوخة هي تناقص الحيوية
كانت هذه الأمطار الغزيرة كافية لإنبات بذور الثورة المتعطشة، بعد كمون لسنوات، فنمت وترعرعت واستوت على سوقها، وكان البوعزيزي أول نبتة استوت على ساقها في أرض الربيع العربي، حتى فاحت رائحة الياسمين العطرة، فاستنشقتها الشعوب المجاورة، فأينعت وأزهرت وأثمرت وأسقطت رؤوس الأنظمة.
إن الاضطهاد والفساد والقمع يُعد وقودًا لإشعال نار الثورة المخبوءة تحت الرماد، حتى إذا ظن الطغاة بأنهم قد وأدوها في مهدها، تهيأت لها الظروف الثورية؛ فجاء يوم الغضب ليخرج وقتها المارد من قمقمه وقد اشتد عوده وقوي.
إن الثورات لا تكون فجائية، بل نتيجة تراكمات من الاستياء وجرعات الظلم والقهر المحبوس في النفوس، ومع تجبر الأنظمة وتكبرها وإغلاقها لكل مُتنفس، تصبح هذه الممارسات مقدمات للثورة، والتي تتبعها ثورة، في عروض مستمرة، حتى يكون اليوم الذي تنفجر فيه، والذي لم يكن وقتها بالحادث العارض، وإنما نتيجة لمقدمات طويلة.
تبدأ القابلية للثورة في الغالب من عوامل عقلية كالقضاء على ظلم فادح أو استبداد ممقوت أو ملك يبغضه الشعب، ومع أن العقل هو أصل الثورة فإن الأسباب التي تهيئها لا تؤثر في الجماعات إلا بعد أن تتحول إلى عواطف، فإذا أمكن بالعقل إظهار ما يجب هدمه من المظالم وجب لتحريك الجماعات إفعام قلوبها بالآمال، وهذا أمر لا يُنال إلا إذا استُعين بعناصر العاطفة والتدين التي تجعل الإنسان قادرًا علي السير، كما يقول لوبون، والذي يضرب مثلًا بالثورة الفرنسية التي تذرع فلاسفتها بالمنطق العقلي الذي “أظهر للملأ مساوئ النظام القديم وجعل في القلوب ميلًا إلى تبديله، وأن المنطق الديني ألقى في النفوس إيمانًا بفضائل مجتمع قائم على بعض المبادئ، وأن المنطق العاطفي أطلق النفوس من عقالها القديم وشد قواها، وأن منطق الجماعات استحوذ على الأندية والمجالس ودفع أعضاءها إلى اقتراف أعمال لم يدفعهم المنطق العقلي والمنطق العاطفي والمنطق الديني إلى اقتراف مثلها”.
يتوقع المراقبون قيام الثورات بما لديهم من دراسات، ولكن لا يعرف أحد متى تثور الشعوب! ويعجز المؤرخون في تحديد بداياتها، إن انفجار الثورات إنما هو لحظة الحقيقة التي لا يريد أن يصدقها أو يتوقعها المستبدون، بعدما سبقتها محاولات ومحاولات، فهذا التدرج الثوري – إذا جاز التعبير – إنما هو إرهاصات الثورة الحقيقية الكبرى، والثورات الكبرى لا تكون فجائية كالثورات السياسية المؤقتة، والتي هي أقل أهمية وتأثيرًا في القضاء على الأنظمة المستبدة، “فالثورات الكبيرة هي ثورات الطبائع والأفكار” على حد تعبير لوبون.