الاغتراب ظاهرة اجتماعية مهمة مغفلة من قِبل الباحثين العرب الذين يدرسون الحالة الجهادية، ذلك أن تحليل المعضلة الجهادية في عالمنا محصور بين يدي المحللين السياسيين أو الخبراء الأمنيين ويندر في دولنا العربية أن يسأل أو يستأمر الباحثون في علم الاجتماع أو الباحثين في علم النفس ولذلك فإننا نكرر مأساتنا في كل مرة، وما تقدم الغرب في حل مشكلاته الاجتماعية والسياسية وحتى الأمنية إلا بمعاونة علماء النفس والاجتماع.
ما الذي نقصده بالاغتراب؟
نقصد بالاغتراب انفصال الذات عن الموضوع وذلك بأن ينسلخ الفرد من مجتمعه ويشعر بالعزلة ويكون عاجزًا عن التكيف مع الأوضاع السائدة في محيطه مع شعور عارم بعدم الانتماء واللامبالاة وانعدام الشعور بلذة الحياة ويسمى المغترب أيضًا باللامنتمي.
إن أفراد داعش والنصرة وغيرهم من التنظيمات المسلحة مغتربون عن الواقع بشكل أكيد
حسب معايير العالم ملفن سيمان للشخص المغتترب والتي هي خمس معايير: العجز واللامعنى واللامعيارية والعزلة الاجتماعية والاغتراب عن الذات>
أولها العجز وهو شعور الفرد باللاحول واللاقوة وأنه لا يستطيع التأثير في المواقف التي يواجهها وأن الفرد يشعر أنه لا يستطيع تقرير مصيره، وهذا الأمر منتشر في منطقتنا حيث نعيش جميعًا في ظلام دامس من ديكتاتورية ولا نملك حتى اختيار من يمثلنا في انتخابات البلدية والمحليات حيث يفرض علينا مرشحون مدعومون من الأمن والأحزاب الحاكمة ويتم التزوير لصالحهم في الانتخابات،
ثانيها: اللامعنى حيث يشعر الفرد أنه لا يستطيع التنبؤ بالمستقبل ولا يعرف ما الذي عليه أن يفعله ويتخذه من قرارات، وهذا الأمر شائع في الدول الغنية وغالبًا ما ينتهي بالانتحار حيث يشعر الشخص بالملل من الحياة، فلولا المشقة لما شعرنا بلذة النعيم.
ثالثها: اللامعيارية وهي ذاتها حالة الأنوميا التي تحدث عنها دوركاييم عالم الاجتماع الشهير، فيرى الفرد أن أشكال السلوك التي كانت مرفوضة مجتمعيًا أصبحت مقبولة وما كان صائبًا مجتمعيًا أصبح شيئًا خاطئًا، ولذلك كان الجهاديون يريدون حسم هذه القضية بفرض الحجاب وحظر التدخين وقطع رؤوس الممتنعين عن الصلاة والمفطرين في نهار رمضان أو من يشغلون الموسيقى على هواتفهم النقالة.
رابعها: العزلة الاجتماعية وهي شعور الفرد بالرفض الاجتماعي له وأن أهدافه انفصلت عن أهداف المجتمع، وهذا الأمر المتسبب الرئيس فيه دائمًا الإعلام الذي يحرض على شخصية الإنسان المتدين مما يتسبب غالبًا في تحويله إلى قنبلة موقوتة وإرهابي، وكان موقف الإعلام المحرض على العنف تجاه الإخوان ومناصريهم في مصر بعد 3 يوليو سببًا رئيسيًا في سلوك بعض هؤلاء الشباب طريق الإرهاب وانضمامهم للتنظيمات العنيفة سواء في سيناء أو في سوريا أو ليبيا.
خامسها: الاغتراب عن الذات وهو عدم قدرة الفرد على التواصل مع نفسه وشعوره أنه لن يستطيع أن يصبح ما كان يصبو إليه، وهذا الأمر واضح في الأشخاص الذين حرموا من تحقيق رغباتهم كالتوظيف أو الدخول في السلك العسكري لانتماء عرقي أو ديني أو سياسي أو انتماء أحد أقاربه مما يحول هذا الشخص غالبًا لشخص لا منتمي لمجتمعه وساخط ويرغب في الانتقام.
وهذه الأشياء الخمسة هي التي تدفع بالشاب إلى الانتحار سواء كان بسيارة ملغمة أو بأن يرمي نفسه من شاهق أو أن يحرق نفسه أمام جموع الناس.
لماذا نربط بين الجهاديين والاغتراب؟
لأن فكرة الاغتراب قديمة في الفكر الإسلامي طرحها أولاً أبوحيان التوحيدي في رسالته الشهيرة الغربة والغريب، “الغريب من نطق وصفه بالمحنة بعد المحنة، ودل عنوانه على الفتنة عقب الفتنة، وبانت حقيقته فيه في الفينة حد الفينة، الغريب من إن حضر كان غائبًا، وإن غاب كان حاضرًا، الغريب من إن رأيته لم تعرفه، وإن لم تره لم تستعرفه، أما سمعت القائل حين قال: بما التعلل؟! لا أهل ولا زمن ولا نديم، ولا كأس ولا سكن.
هذا وصف رجل لحقته الغربة، فتمنى أهلاً يأنس بهم، ووطن يأوى إليه، ونديم يحل عقد سره معه، وكأس ينتشي منها، وسكن يتوادع عنده، فأما وصف الغريب الذي اكتنفته الأحزان من كل جانب، واشتملت عليه الأشجان من كل حاضر وغائب، وتحكمت فيه الأيام من كل جانب وذاهب، واستغرقته الحسرات على كل فائت وآئب، وشتته الزمان والمكان بين كل ثقة ورائب، وفي الجملة، أتت عليه أحكام المصائب والنوائب، وحطته بأيادي العواتب عن المراتب، فوصف يخفى دونه القلم ويفنى من ورائه القرطاس، ويشل عن بجسه اللفظ، لأنه وصف الغريب الذي لا اسم له فيذكر، ولا رسم له فيشهر، ولا طي له فينشر، ولا عذر له فيعذر، ولا ذنب له فيغفر، ولا عيب عنده فيستر”.
وأما أول من اقترب من معنى الاغتراب المعاصر فكان الإمام الأكبر والكبريت الأحمر محي الدين بن عربي في فتوحاته المكية حيث إنه يقول “ومن غربة العارفين بالله غربتهم عن صفاتهم، فأول غربة اغتربناها وجودًا حسيًا عن وطننا غربتنا عن وطن القبضة عند الإشهاد بالربوبية لله علينا ثم عمرنا في بطون أمهاتنا فاغتربنا عنها بالولادة”.
وجاء سيد قطب وهو صاحب الماضي اليساري الماركسي إلى الإسلاميين فساق نفس كلام ماركس لكن بعد أن جعل الاغتراب مفاصلة شعورية يقود إلى ثورة فكتب في تفسيره لسورة الكافرون في ظلال القران “أنا هنا وأنتم هناك ولا معبر ولا جسر ولا طريق مفاصلة كاملة شاملة، وتميز واضح دقيق ولقد كانت هذه المفاصلة ضرورية لإيضاح معالم الاختلاف الجوهري الكامل الذي يستحيل معه اللقاء على شيء في منتصف الطريق، الاختلاف في جوهر الاعتقاد، وأصل التصور، وحقيقة المنهج وطبيعة الطريق”.
ثم يواصل في موضع آخر في تفسير السورة فيقول “إن الجاهلية جاهلية، والإسلام إسلام، والفارق بينهما بعيد، والسبيل هو الخروج عن الجاهلية بجملتها إلى الإسلام بجملته، هو الانسلاخ من الجاهلية بكل ما فيها والهجرة إلى الإسلام بكل ما فيه وأول خطوة في الطريق هي تميز الداعية وشعوره بالانعزال التام عن الجاهلية: تصورًا ومنهجًا وعملاً، الانعزال الذي لا يسمح بالالتقاء في منتصف الطريق، والانفصال الذي يستحيل معه التعاون إلا إذا انتقل أهل الجاهلية من جاهليتهم بكليتهم إلى الإسلام، لا ترقيع ولا أنصاف حلول، ولا التقاء في منتصف الطريق، مهما تزيت الجاهلية بزي الإسلام أو ادعت هذا العنوان”.
وفي الواقع لقد أفصح سيد قطب في هذه المقاطع المهمة من سورة الكافرون على حقيقة منهجه وأنه يرى فكرة الاغتراب ويسمي الاغتراب مفاصلة – حتى ولو أنكر أتباعه اليوم – وأنه يطالب أتباعه من الطليعة المؤمنة والتي تتمثل بأخلاق الجيل القرآني الفريد بأن ينعزلوا عن المجتمع الجاهلي تمهيدًا لثورة تأكل الأخضر واليابس و كما كانت الاغتراب عند كارل ماركس مؤديًا للثورة العمالية فإن المفاصلة عند سيد قطب هي شرارة الثورة الإسلامية ولهذا ختم سيد قطب محاكمته الشهيرة عام 1965م بالقاء قصيدة غرباء والتي فيها:
غرباء ولغير الله لا نحني الجباه
غرباء وارتضيناها شعارًا في الحياة
إن تسل عنا فإنا لا نبالي بالطغاة
نحن جند الله دومًا دربنا درب الأباة لن نبالي بالقيود.
إن الإرهاب كان ومازال سلاح الضعفاء في وجه الأقوياء والأداة المفضلة للمغتربين لتوصيل رسالة الفزع والرعب للمجتمع بهدف مقايضة المجتمع بين الأمان وبين الاعتراف بالتعدد في الهويات وإيجاد حل سياسي وصيغة عقد اجتماعي تكون مرضية لجميع الأطراف، ولنتكلم بصراحة لو لم يعترف المجتمع الأوروبي بالإسلام كما اعترف باليهودية وأن يحترم الدين والتقاليد الإسلامية فإنه في كل مرة سيعيد إنتاج الجهاديين في أوروبا، ولو لم يحترم الساسة العراقيون ثقافة ومعتقد سكان المناطق الغربية من العراق فإن داعش باقية وتتمدد، وإن لم يقبل الجيش المصري والنخب العلمانية بوجود كامل للإسلام السياسي في الحياة السياسية في مصر فإنما هو يعيد إنتاج الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد وأنصار بيت المقدس وهكذا هو الحال في كل البلاد ولا خيار لحل الأزمة إلا بالقبول بالتعدد.
أتعجب في الواقع من حكومات الدول الاستبدادية التي تقمع الشباب بقسوة ولا تسمح لهم بالمشاركة في اتخاذ القرارات ولا حتى في اختيار رؤساء الأندية الرياضية ثم تنتظر من الشباب السمع والطاعة لحكوماتهم بل وتنتظر من الشباب أن يقدموا أرواحهم فداءً لهذه الحكومات التي تستعبدهم تحت شعارات الوطنية الزائفة والتي أصبحت لا تنطلي على السذج من الناس.
إن الاغتراب كارثة كبرى ما لم يتنبه إليها المختصون و الإعتقاد أن المتسبب في الإرهاب هي النصوص الدينية أو الفتاوى المتطرفة وفقط هو اعتقاد خاطئ
تروج له الدول الاستعمارية فهذه النصوص موجودة منذ مئات بل آلاف السنين ولم تسبب في ظهور ظاهرة مثل داعش بل يكاد يكون من المعلوم أن التطرف الداعشي هو رد فعل على تطرف وإجرام ميليشيات وقوات الإرهاب الإيراني في سوريا والعراق وعلى بطش ميليشيات كالشبيحة وحزب الله.
ولهذا فإنني أرى أن المحللين السياسيين الذي يحللون أسباب الانضمام إلى داعش بأنها أسباب سياسية واقتصادية واجتماعية قبل أن تكون أسباب دينية فهم محقون حتمًا، فلن تحل هذه الأزمة سوى بإقامة حياة دستورية في الدول المسلمة وأن يكون الحكم للأغلبية الدينية مع عدم هدم حقوق الأقليات وأن يتم حل إشكاليات الأقليات المسلمة في الغرب مع اليمين الأوروبي والإسلاموفوبيا وحل مشكلة البطالة.
لقد كان الربيع العربي فرصة مهمة لكن للأسف يوجد في هذا العالم من اختاروا وعن سبق الإصرار والترصد أن تنشأ داعش بتركهم للشعب السوري والشعب العراقي تحت رحمة الظلم والقهر والمليشيات المدعومة من ولاية الفقيه حتى هلل الناس لكل من يقاتل هذه المليشيات الإجرامية ولو كان دراكولا.