هذه الأيام تشتعل مصر بحرائق غريبة في أماكن حيوية، فمن حريق العتبة إلى حريق الغورية إلى حريق الواحات إلى حريق دار القضاء العالي، حرائق متنوعة تشعر معها أن الأمر غير طبيعي، وما يزيد الريبة هو الإجراءات التي تأخذها حكومة الانقلاب بعد هذه الأحداث، فبدلًا من الحديث عن تعويض الأهالي ومحاسبة المقصرين وإصلاح جهاز الدفاع المدني يتم الحديث عن نقل الأهالي من هذه المنطقة وإعادة إعمارها كمنطقة تجارية يستفيد منها رجال الأعمال.
بين الصدفة والإهمال والمؤامرة دارت نقاشات كثيرة، لكن ما لفت انتباهي هو تعليق بعض المعارضين للانقلاب أو ما يُطلق عليهم مؤيدي الشرعية، حيث سحب بعضهم النقاش لمنحى آخر تمامًا، أحدهم يقول أهل العتبة والغورية يستحقون ما يحدث لهم، فليذوقوا استقرار السيسي الذي أيدوه وخرجوا ضد الرئيس مرسي وكانوا مؤيدين للقتل وفض الميدان وللتفويض ولكل إجراءات السيسي، لا بد لهؤلاء المؤيدين أن يتسولوا ويتذوقوا الحسرة والألم، وأدهشني رد أحدهم على الفيس بوك قائلًا “أهل العتبة لهم من الله ما يستحقون”، وما زادني تعجبًا العدد الكبير من الإعجابات التي حصل عليه تعليقه.
حالة من المغالاة في الشماتة والتعميم والتسطيح لدرجة تمني الخراب والدمار لأناس من المفترض أن الدكتور مرسي سيرجع للحكم – كما يعتقد مؤيدو الرئيس مرسي – ويحكم هؤلاء الناس، ويرسي قواعد العدل والحرية والحب والإخاء.
هذه الشماتة تجدها مع ارتفاعات الدولار، ومع كل مصائب الانقلاب من التفريط في الأرض والبحر والنهر، وتجد لهذه الشماتة مبررات شرعية كذلك، من بينها “من أعان ظالمًا سلطه الله عليه” وفي إسناد هذا الحديث كلام كثير فأغلب رواياته إمّا موضوعة أو في سندها متهم بالكذب ما عدا رواية واحدة فقط للحديث.
ومن المبررات الآية الكريمة في سورة التوبة {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}، هذه الآية نزلت في بني خزاعة الذين كان بينهم وبين رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عهد وجِوار، فاعتدى بنو بكر عليهم وأعانتهم مكة على عدوانهم هذا، فنصر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بني خزاعة وفتح مكة، فالآية تدور بين فصيلي كفر وإيمان، بني خزاعة ورسول الله من ناحية وكفار مكة وبني بكر من ناحية أخرى، فإسقاط الآية بين مسلمين يختلفون سياسيًا يحتاج لإعادة نظر وتثبت.
لو توسعنا في النقاش الفقهي بخصوص جواز أم عدم جواز الشماتة فيما حدث في العتبة والغورية باعتبار أنهم من مؤيدي السيسي لن ننتهي من هذا النقاش ولو بعد سنين، ولكن من جزم لك قطعًا أن كل المتضررين من حرائق الغورية والعتبة هم من مؤيدي السيسي وأتباعه؟ وهل كل مؤيد للسيسي يعامل كالسيسي وأتباعه المقربين وأذرعه السياسية والإعلامية والفنية والعسكرية والثقافية؟
وكيف ستحكم دولة تقول إن الدكتور مرسي سيرجع لحكمها وأنت تشمت في مصائب أهلها وتتمنى زيادتها وتفاقمها حتى يشعروا بنعمة الدكتور مرسي عليهم؟ أليس من المفترض عندما يرجع الدكتور مرسي – كما تقولون – أن يحل هذه المشاكل؟ أم أنه سيفرق بين من كان مؤيدًا له ومن كان ضده في التعامل؟
كيف ستدير شؤون دولة وأنت تحمل لأهلها الكره والشماتة؟ كيف ستتحمل ضغوطهم عليك واستفزازهم لك؟ أم أنك ستتعامل كالسيسي من اعترض علينا حبسناه ومن تطاول قهرناه ومن تحرك ضدنا قتلناه؟ أسئلة كثيرة تطرحها نظرة الشماتة التي أراها في عيون بعض مؤيدي الدكتور مرسي تجاه الوضع العام في مصر.
وهنا لا بد من التفريق بين النظر لمصائب سكان مصر البسطاء وبين مصائب نظام الانقلاب، فمصائب سكان مصر تفتك بعموم الشعب أو جزء منه وليس شرطًا أن تضر بهذا النظام الانقلابي، الذي غالبًا ما يكون هو المستفيد الأول، ولربما هو المنفذ.
أما مصائب وفضائح الانقلاب وفشله أسعد بها واتمنى استمرارها، فنجاح السيسي اقتصاديًا هو تثبيت للديكتاتورية لعقود قادمة، وهذا ما لا أتمناه لبلدي، المستبد لا ينقصه إلا نجاح اقتصادي كي يدعم أركان سلطويته واستبداده، أتمنى أن يفشل هذا النظام في كل الأصعدة، لكن لا أتمنى أن تمس المصائب سكان مصر مباشرة وللأسف هذا صعب واقعيًا.
فتجد نفسك تحزن على فشل هذا النظام وتفرح به في نفس الوقت، أحزن على عواقب فشله التي تقصم ظهر قاطني مصر، وتضر بأجيالهم القادمة وتحملهم ما لا يطيقون، وأفرح لفشل هذا النظام لأنها تقرب نهايته وتعجل بفضحه وكشف سوءته أمام الداخل والخارج.
أتفهم الغل والحقد والكراهية الموجودة داخل قلوب المنكوبين من هذا الانقلاب، أتفهم وجهة نظر المطاردين والمعتقلين وأهليهم والمعاناة والألم والحسرة التي يلاقوها كل يوم وكل ساعة وكل زيارة، أعي جيدًا الألم الذي يعتصر قلوب أهالي الشهداء وتلهفهم على ساعة القصاص، أشعر بالنار التي تغلي في القلوب والعقول والتي تزكيها أفعال هذا الانقلاب يومًا بعد يوم، لكن كل هذا يجب أن يتم تصويبه للاتجاه الصحيح، ليس للمواطنين البسطاء مهما كان خلافك معهم خصوصًا من لم يتورط مباشرة مع هذا النظام، أو من تورط مرة أو مرتين، فهل يتساوى بمن امتهن التعامل مع هذا النظام وأسدى له خدمات في كل النواحي؟
يجب أن نستوعب أن الحرب النفسية والإعلامية التي تمت على الإخوان في فترة الدكتور مرسي كانت علمية ومنظمة ومحددة الأهداف، كان الهدف منها عزل الإخوان عن باقي مكونات الشعب شعوريًا ونفسيًا، ووضعهم في خانة مختلفة عن باقي الشعب (إحنا شعب وأنتوا شعب)، وبالتالي تسهيل الفتك بهم بهذه الطريقة، وتقبل عموم الناس لهذا الأمر بنفس راضية، وللأسف ساعد بعض الإخوان بتصرفاتهم على تأكيد هذا الانعزال.
وهذه الحرب المركزة لو طبقت في أي شعب آخر لحدث معهم ما حدث في مصر، خصوصًا أننا كنا نخطو أو خطواتنا في طريق الديمقراطية، كنا في مرحلة الحبو الديمقراطي، واختلطت على الناس أمور كثيرة، وكان خوف الناس من الرجوع لعهود الديكتاتورية المباركية يجعلونهم يشتاطون من أي تصرف تشتم فيه رائحة الاستبداد.
كذلك الأخطاء التي وقع فيها الإخوان فترة الدكتور مرسي، وإخفاقات إدارة الدكتور مرسي الرئاسية، فإدارة الدول في مراحل الانتقال الديمقراطي تختلف عنه إدارة الدول في مراحل الرسوخ الديمقراطي، وهذا ما لم يكن يفهمه كثير من قيادات الإخوان التي تصدرت للعمل السياسي.
هذه العوامل وغيرها كثير أوصلت شخصًا كنت قريب منه ولربما كنت تُحسن إليه لأن يكرهك ويحقدك عليك، وعلينا ألا ننسي الاستبداد وما يفعله بطبائع الناس وأخلاقهم وسلوكهم، كيف يكسر الفقر والعوز الشديدان المروءة عند الناس، فما كان يفعله الإخوان في أعمال البر كان تسول مُقنع لا أكثر.
على جموع المؤيدين للدكتور مرسي أن يتفهموا أن هذه الشماتة تبعدهم عن المحضن الأساسي لهم، وبالمناسبة هم جزء من هذا الشعب بعيوبه ومشاكله وهمومه، عليهم أن يفهموا أن مؤيدي السيسي بهم جزء لا يُستهان به كان ضحية لمفرمة الحرب النفسية الإعلامية، كثير منهم لا يعي الصورة الكاملة وتم استغلال حالة قلة الوعي السياسي والمعرفي عند عموم الشعب لإقناعه بمفاهيم خاطئة وغرسها فيه، فمخزون قيم الاستبداد التي زرعت من أيام عبدالناصر لم تنضب بعد.
وطريقة خطاب بعض مؤيدي الدكتور مرسي الآن يزيدهم خوفًا، ويشعرهم أنه لو سقط الانقلاب غدًا فكل من أخطأ في حق واحد من الإخوان مصيره التنكيل، وأنا أسمع من كثير من الإخوان كلام من هذا القبيل، فهناك من ينوي ويخطط أنه عند سقوط الانقلاب سيصفي حساباته مع مجموعة من الناس تحت دعوى أنهم من مؤيدي السيسي المتحالفين معه، وقد يختلط السياسي بالشخصي في حالة الانتقام.
فيجب التفريق بين قيادات الانقلاب والمتعاونين معه والمنتفعين منه بشكل مقرب ورسمي ومستمر، وبين من أيده في مظاهرة ما أو دافع عنه في موقف آخر، فهل من المنطق أن أساوي بين من سلم فردًا للشرطة مرة ما وبين من امتهن الابلاغ عن المعارضين وتسليمهم للشرطة؟
علي مؤيدي الدكتور مرسي أن يعلموا أن هناك ما يسمي بالعدالة الانتقالية، وهناك دراسات وأبحاث في هذا المجال، وهناك مؤسسات تساعد في حالات كالتي تمر بها مصر والتي ستزول بإذن الله، لكن لو استمر مؤيدي الدكتور مرسي بطريقة التفكير الشماتية هذه فهذا يؤخر سقوط الانقلاب، ولو سقط واستمر هذا الفكر فسننتقل لدولة أخرى مستبدة بنكهة إسلامية تحت دعوى القصاص.