24 يناير 1915 – بئر جراب شمال الرياض – الجزيرة العربية
تؤلم الرصاصة الكابتن ويليام شكسبير بشدة، من كان ليتخيل أن تلك البنادق الألمانية التي يستخدمها الأتراك جيدة إلى هذا الحد، الأتراك الملاعين لا يتوقفون عن دعم أولاد رشيد، لماذا؟ لماذا على العرب أن يكونوا بهذا الغباء والعداوة غير المبررة؟ ما الذي أتى بي إلى هذه الصحراء أصلًا؟
دارت كل هذه الأسئلة والأفكار في عقل الكابتن ويليام شكسبير، الملحق العسكري البريطاني بالكويت، لم يعد يستطيع التفكير بلغة واحدة منذ زمن، فقد ولد في الهند وعاش أكثر عمره متنقلًا يتحدث الأوردو والبشتو والفارسية والعربية كأهلها، كان يفترض أن تكون مهمته أكثر بساطة من هذا بكثير، كان يفترض به أن يكون وسيط تفاوض مع أولاد سعود على هامش مهمته الأساسية في جمع كل المعلومات الممكنة عن المنطقة، إلا أن أولاد سعود أثبتوا أنهم أكثر عنادًا من التعاون في أي خطة قد تتضمن التنسيق مع الشريف حسين في مكة، أوجبت الظروف مجاراتهم لضمان صد خطر أولاد رشيد المتحالفين مع الأتراك الآتي من الشمال، الهدف الرئيسي الآن هو الانتصار في الحرب.
يستمر نزيف الكابتن شكسبير، عبد العزيز بن سعود يجلس جانبه يصرخ: “أخبرتك ألا تذهب للخطوط الأولى، أنتم أيها الأعاجم لا رجاء منكم”، بدأ الكابتن في الانزعاج فعلًا من صريخ الأخير، يستطيع أن يدرك أنه سيموت في غضون دقائق، لا بد أن البدوي الرشيدي الذي أصابه لا يدرك أنه قد نال من أحد أهم أذرع المخابرات الملكية البريطانية، آه لو عرف ذاك الجاهل أنه قد تمكن من قتل فخر الإدارة البريطانية شمال الجزيرة العربية.
15 نوفمبر 1915 – فندق سافوي – القاهرة
وصلت السيدة جرترود بيل إلى الفندق الفخم الموجود بميدان العتبة بوسط القاهرة الخديوية، كان الفتى توماس لورانس في انتظارها، كبر كثيرًا، تذكره من أيام دراستها في جامعة أوكسفورد، الفتى الذي كان يصغرها بأكثر من عشرين عامًا صار يرتدي الزي العسكري البريطاني برتبة كولونيل.
مضحك كيف انتهى الحال بجرترود والكثير من زملائها في كلية الآثار بجامعة أوكسفورد في خدمة الجيش والمخابرات البريطانية في شبه الجزيرة العربية والهلال الخصيب، إلا أنها تدرك أن هذا كان لا بد منه، فلا أحد يعلم المنطقة وأهلها ولغاتهم كما يعلمون، لولا الكثير من الجهد لتفادي منع السفر البريطاني إلى شبه الجزيرة وبلاد الرافدين لما أصبح لدى الإمبراطورية البريطانية مثل هذا العدد من الخبراء، ولولا جهود أشخاص من ذوي الرؤية الثاقبة مثل رولاند ستورز والدكتور ديفيد هوجارث من أجل الاعتماد على هؤلاء الخبراء في جمع المعلومات عن المنطقة وعقد الاتفاقات مع أهلها لانتهى الحال ببريطانيا كالألمان الأغبياء.
فالمستشرق الأحمق المسمى ماكس فون أوبنهايم يظن أنه بإعلانه الجهاد سيضمن ولاء المسلمين في الهند وجزيرة العرب للسلطان العثماني وبالتالي ألمانيا، لو كان هذا الجاهل يعلم أقل القليل عن العرب والإسلام والمسلمين لعرف أن السلطان العثماني لم يعد خليفة للمسلمين سوى بالاسم فحسب.
لم تقض جرترود بيل وزملاؤها وقتهم في الصحراء عبثًا، كانوا يتعلمون ويدرسون ويرسمون الخرائط ويكتبون التقارير، بالتدريج بدأت الإمبراطورية البريطانية في تكوين موسوعات كاملة من المعرفة بالمنطقة العربية، موسوعات تحوي تاريخها ولغاتها وجغرافيتها وسكانها، لولا جهود ستورز وهوجارث المستمرة لتوفير الموارد والرعاية الحكومية لما تمكنوا من فعل ذلك، يقال إن الأخيرين على وشك تأسيس مكتب متخصص في الشأن العربي بعد قتال طويل مع حكومة الهند البريطانية ولندن، ربما يكون مجيء بيل إلى القاهرة لهذا الأمر تحديدًا، لا أحد يعلم، فقط الوقت سيخبر الحقيقة.
ديسمبر 1915 – مقر حكومة جلالة الملك – لندن
أنهى مارك سايكس للتو تقريره النهائي عن مصير المنطقة العربية، الشريف الأحمق وأبناؤه لا يساعدون في إنهاء الصراع ولا حتى تسهيل مهمة بريطانيا في الانتصار في الحرب بأي شكل من الأشكال، تشير خطابات ديفيد هوجارث من القاهرة أن الصراع سينفجر بينه وبين ابن سعود في أي وقت، لماذا كان على شكسبير أن يموت في الوقت الذي كانت بريطانيا في أمس الحاجة إليه، فقط رجل في حكمته كان من الممكن أن ينهي الخلاف بالتعاون مع الدكتور هوجارث.
كتب سايكس في تقريره ضرورة البدء في تشكيل المكتب العربي في القاهرة، فقط جهد منظم لكل علماء وخبراء الإمبراطورية كفيل بضمان أوراق قوية في المفاوضات التي يجريها سايكس حاليًا مع الفرنسيين، الفرنسيون قد أثبتوا أنهم إمبراطورية غربت شمسها على طول هذه المفاوضات، طمع غير مبرر ورغبة في السيطرة التامة على الشام، لا يعرف الأغبياء قدر المصائب الذي جلبته الشام إلى الأتراك؛ سينتهي بهم الحال مثل الأتراك تمامًا، كل هذا لا يهم الآن، سايكس واثق من أن الحكومة ستوافق على تأسيس المكتب، وهذا وحده كفيل بضمان نصيب الأسد من أراضي الأتراك لبريطانيا، سيدع الفرنسيين يحلمون بالسيطرة العسكرية على الشام، بينما ستصبح باقي الأراضي العربية عرائس تخدم بريطانيا بدون الحاجة لكثير من الجنود والقوة.
أكتوبر 1916 – فندق سافوي – القاهرة
يستعد إدوارد لورانس لمغادرة مقر المكتب العربي لمخابرات جلالة الملك للذهاب إلى جدة ليكون همزة الوصل مع الشريف حسين، في أقل من تسعة أشهر على تأسيس المكتب بعد صراع طاحن، استطاع المكتب أن يثبت للحكومة البريطانية كلها أهميته ونباغة أعضاءه، ها هم عملاء المكتب في كل أنحاء المنطقة العربية، جرترود بيل تقوم بعمل مبهر في العراق؛ بينما بدأ تمرد الشريف حسين من أكثر من خمسة أشهر، لولا كل هذه الجهود لما أمكن لسايكس أن يضع الخطوط النهائية لاتفاقه مع بيكو الأحمق، لا يعلمون أنه وبفضل الخرائط والدراسات التي أنتجها المكتب سيكون من نصيب بريطانيا كل مناطق الثروات المعدنية في الإقليم، بينما لن يأخذ الفرنسيون سوى عشرات الطوائف والديانات التي لا تفعل شيء سوى قتل بعضها البعض منذ مئات السنين.
لا يعلم لورانس لما يفكر في كل هذا، عليه أن يتحرك سريعًا كي يصل في الوقت المناسب، سيكون عليه أن يتعامل مع الشريف الذي لا يدري أي شيء عن العالم من حوله، لا ينبغي للمهمة أن تكون شديدة الصعوبة، إلا أنه يعلم أيضًا أن انتصار بريطانيا في الحرب يعتمد عليه بشكل كبير، سيكون في يده أن يكتب التاريخ، سيهزم الأتراك لا محالة، لا شك في ذلك؛ إلا أن على بريطانيا أن تخرج من هذا بأكبر قدر ممكن من المكاسب، وهذا هو دور لورانس الذي يدركه تمامًا.