يعرف الاقتصاد عند الاقتصاديين بأنه دراسة سلوك الإنسان من جهة العلاقة بين الغايات المادية والموارد النادرة المتاحة لتحقيق هذه الغايات، فهو يدرس النشاط الإنساني في حيز استعمال الموارد المتاحة من أجل العمل على إشباع الرغبات والحاجات المادية التي يرغب بها الإنسان.
ظهرت نماذج عديدة لإدارة اقتصاد الدولة من الاشتراكية إلى الرأسمالية حتى الاقتصاد المختلط، وقد ظهر حديثًا مفهوم “الاقتصاد الإسلامي” منذ ما يقرب من أربعة عقود وتناوله أساتذة الاقتصاد بالشرح والتبيان على أنه “العلم الذي يبحث في الجوانب المادية من سلوك الإنسان فردًا كان أو جزءًا من مجتمع على ضوء الحقيقة الموضوعية التي أتى بها الوحي ومع اعتبار تام للعلاقات والسنن والقوانين التي أودعها الله في طباع الخلق والعلاقات الناشئة عن التعاملات المادية وتغيراتها”، كما يعرفه الدكتور منذر قحف.
وبحد وصف قحف في كتابه “مبادئ عامة في التمويل الإسلامي” فإن الاقتصاد الإسلامي يقوم على مرتكزين أساسيين هما فهم القوانين الاقتصادية التي صنعها الله ووضعها في مخلوقاته، والمرتكز الثاني هو العمل على تنفيذ الأوامر الإلهية.
وبحسب الدكتور سامح عطوة فإن نموذج “الاقتصاد الإسلامي” له خصائص غير موجودة في نماذج اقتصادية أخرى، وهو قائم على عدة مرتكزات أساسية نابعة من تعاليم الدين الإسلامي وهي: عدمية الفائدة والتضخم والضرائب، ويراعي قوانين السوق الحر كالرأسمالية وله بعض من صفات الاشتراكية.
كيف اجتمعت كل هذه المرتكزات مع بعضها في نموذج واحد!
جوهر الاقتصاد الإسلامي أنه قائم على اقتصاد الموارد وليس على النقود، فهو لا يعتبرها مستودع للقيمة بل هي تؤدي دورًا بارزًا في المجتمع لا تعدو غيره، وهي وسيلة للتبادل ما بين أفراد المجتمع يستخدمونها لشراء حاجياتهم بين بعضهم البعض، لذا فهي ليست أساسًا للثروة عند الفرد، الذي في حال ملك نقودًا كثيرة في ظل الاقتصاد الإسلامي لا يعد غنيًا بل يعمد للتخلص منه ما وسعه ذلك، واستبدالها بالثروة الأساسية المعتبرة في الاقتصاد الإسلامي وهي الموجدات والأصول ذات القيمة الحقيقية.
إذن فمستودع القيمة في الاقتصاد الإسلامي هو الأصول وليس النقود، والفرد في المجتمع يسعى إلى استغلال الموارد المتاحة في المجتمع بإضافة قيمة حقيقية وملموسة ومن ثم بيعها لفرد آخر باستخدام نقود متعارف عليها كوسيلة للتبادل، وبعمل أفراد المجتمع بهذا المقتضى تتحصل الفائدة للجميع.
ويشابه هذا النظرية الكلاسيكية في الاقتصاد في القرن الثامن عشر لصاحبها الفرنسي جان باتيست ساي، التي تقوم على أن كل شيء بُذل فيه جهد بإضافة قيمة مضافة عليه، خلق ثروة للعامل والآخرين بنفس الوقت.
ماذا يعني هذا؟
مثلًا لو كان هناك مزارعًا وطحّانًا وعجّانًا وخبّازًا، سيبذر المزارع الأرض ويزرعها قمحًا وبعد جني القمح يقوم بحساب تكاليف عمله وإضافة ربح ومن ثم يبيعه للطحّان الذي يقوم بطحنه وتعبئته واحتساب ما كلفه عمله وإضافة شيء من الربح وبيعه للعجّان الذي أيضًا يأخذ الطحين ويضيف إليه مقادير معينة ويعمل على عجنه ليصبح جاهزًا للخبز ومن ثم بيعه للخبّاز الذي سيقوم بخبزه وإخراج الخبز وبيعه لكل أفراد المجتمع بعد أخذ ربح على علمه، ليستفيد المزارع والطحان والعجان من الخبز ويكون الجميع خلقوا ثروة لأنفسهم باحتساب ربح لهم وخلقوا ثروة للآخرين من خلال عملهم الذي أضاف قيمة على شيء معين.
النقود في الاقتصاد الإسلامي ليس لها قيمة وليست سلعة يُتاجر بها ولا تُأجر ويؤخذ أجر ثابت عليها، فالنقود التي بحوزة الفرد في المجتمع هي عبارة عن وسيلة لشراء ما يحتاج من سلع وخدمات، والقيمة كامنة في الأشياء التي حاز عليها الفرد.
من الغني في الاقتصاد الإسلامي إذن؟
حتى يُقال إن المزارع غني عليه أن يعمل أكثر وينتج قمحًا أكثر ويبيعه للطحّانين ويجني منه ربحًا وفيرًا، فيقوم بشراء أصول وموجودات مالية تحقق له المتعة والرفاه، ويشتري حاجياته من السلع والخدمات، ولا يسعى للتزود من النقود بقدر ما يتزود من تلك الأصول ويزيد من عمله في استغلال الموارد لينتج السلع والخدمات التي يحتاجها الأفراد في المجتمع أما النقود فلا قيمة لها عنده، هذا هو الغني في المجتمع الذي يعتمد على الاقتصاد الإسلامي.
العرض والطلب
عند عدم وجود الرغبة لدى المنتج والمستهلك بالاحتفاظ بالنقود لأن النقود ليست الثروة لذا سيتولد دائمًا دافع للعمل عند الشخص وإنفاق النقود في المجتمع على السلع والخدمات التي ينتجها غيره من الأفراد فيخلق طلب على تلك السلع ويضيف ثروة لهم، وعند قبض المنتجين للنقود سيسعون للتخلص منها بإنتاج السلع والخدمات فيزيد العرض بمقدار زيادة الطلب، وبالتالي تتحقق الدورة الاقتصادية ويتحرك العرض والطلب في المجتمع.
تحرك العرض والطلب على السلع والخدمات مع انعدام التضخم على النقود سيدفع هذا إلى نتيجة محتمة وهي زيادة إنتاجية البلاد حتى الوصول إلى الطاقة القصوى.
فلو ملك المزارع 5 آلاف دولار مثلًا فإنه سينفقها في المجتمع على أعمال ومقتنيات وحاجيات ليخلق بهذا ثروة عند الآخرين بنفس ما أنفق، والآخرون سيعمدون لعمل نفس الشيء وهكذا، وينتج عن هذا أن أفراد المجتمع لن يخزنوا النقود لأنه كما ذكرنا ليست سلعة وليست مستودع للقيمة فلا فائدة منها سوى أنها عبارة للتبادل.
ولكن ماذا لو تم تخزين النقود؟
من أجل أن يتخلص الأفراد من النقود ويعيدوها إلى السوق لبذل العمل والإنتاج وتحقيق الدورة الاقتصادية، يجب ألا تتغير قيمتها كما يقول ساي رائد النظرية الكلاسيكية بمعنى ألا تزيد قيمة النقود عند امتلاكها بل يجب أن تتضاءل مع الوقت، فلو حصل العكس فإن المال سيصل لفرد ما ويقوم باكتنازها وتخرج خارج الدورة الاقتصادية في المجتمع حتى تتضخم ثروته ولا تتحقق عند غيره ويحدث التضخم لحدوث اختلال في العرض والطلب، ومن أجل إعادة المال إلى الاقتصاد تم اختراع الفائدة لتحفيز المختزن على إنفاق المال بدفع ريع ثابت على ماله، وبسبب التضخم تنخفض قيمة المال فيضر الغني والفقير بنفس الوقت.
ماذا يقول الاقتصاد الإسلامي في هذه المرحلة؟
لحل معضلة اكتناز المال وعدم حدوث التضخم أبقى الاقتصاد الإسلامي قيمة النقود ثابتة لا تتغير بنزع صفة القيمة منها وإعطائها للأصول والموجدات ذات القيمة الحقيقية، وفي حال زادت كمية النقود المختزنة على حد معين اقترح الاقتصاد الإسلامي احتساب ربع العشر أو 2.5% من قيمة النقود المختزنة، وهذا يعني أن منحنى ثروة الفرد من النقود ينخفض تدريجيًا كل سنة وينتهي حتى يقف عند النصاب المحدد للزكاة.
لذا سيلجأ المختزن للتخلص من النقود لأن لا فائدة من اختزانها فهي تقل مع مرور الوقت ولا تجلب له الفائدة بل تدويرها في الاقتصاد هو ما سيجلب له الفائدة، ولأن خيار إقراضها وأخذ مبلغ محدد عند استردادها هو مما لا يجيزه الإسلام فإن الغني أمامه خيار تشغيل المال بالشراكة والتعرض للمخاطرة مع أشخاص آخرين في مشاريع متعددة لإنتاج السلع والخدمات مقابل أخذ ربح بحسب النسبة التي اشترك بها ويخسر في حال الخسارة، وبهذا تعود النقود إلى دورة الاقتصاد ويتحقق التشغيل من جديد.
هل الزكاة تشبه الضريبة؟
الدولة التي تعتمد على الاقتصاد الإسلامي تعتبر الموارد هي الأساس أيضًا في جلب الثروة فتقوم باستغلالها في مشاريع لا يقوم بها الأفراد كالبنية التحتية والمطارات والموانئ والحدائق والمتنزهات تهدف بها للربح بدون منافسة مع الأفراد.
أما الضريبة على الثروة فهي تختلف عن الزكاة التي لا تتجاوز 2.5% وعند بلوغ نصاب معين في حين تبلغ الضريبة على الثروة في بلدان ذات اقتصاديات أخرى 20% والفارق بينهما كبير، فالشاب الذي في بداية حياته العملية والذي بدأ يراكم ثروته سيشعر براحة كبيرة في الاقتصاد الإسلامي لأنه لن يُحتسب عليه ضرائب حتى يبلغ نصاب الزكاة وقبل ذلك سيكون قد اشترى حاجاته الأساسية كلها في الحياة، وعند بلوغ مرحلة الرخاء سيبدأ معدل الزكاة باحتساب 2.5% من ثروته وبهذا تتحقق العدلة الاجتماعية بحاجتين؛ الأولى تدوير المال في الاقتصاد وتحقيق التشغيل العام بالتوظيف وخلق الطلب على السلع والخدمات، والحاجة الثانية هي أخذ جزء بسيط لا يشعر به الغني عن ماله المكنوز وهي نسبة ضئيلة كل سنة.
الرأسمالية والاشتراكية
يظهر مما سبق ترك للسوق الحرية الكاملة للإنتاج والاستهلاك بدون تدخل من الدولة، وبهذا يكون حقق معايير السوق الحر التي تنادي بها الرأسمالية، أما تحقيقه لمعايير الاشتراكية فهي تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال أخذ الزكاة والصدقات من الأغنياء وإعادة توزيعها على الفقراء.