فجر تنظيم داعش قبل سنتين مركز مراقبة حدودي بين العراق وسوريا وسيطر على ثلث مساحة العراق وثلث مساحة سوريا، وقد كانت تلك نهاية لقدسية اتفاقية سايكس – بيكو وهزة عنيفة لمن رعاها وقدس حدودها من تلك الأنظمة الوظيفية، وذلك كان له رمزية لدى شعوب العالم العربي الناقمة على التاريخ والذي يسعى الغرب لتغيير مجراه مرة أخرى بما يصب في مصالحه عن طريق داعش، الوجه الآخر للثورة المضادة في العالم العربي، والتي خلقت مبررًا للدول الكبرى والعالم للمجيء إلى سوريا والعراق والمنطقة بحجة محاربة الإرهاب.
إن ذلك يذكرنا بالثورة العربية قبل مئة عام وتدخل الغرب بقيادة لورانس الذي خدع العرب بتغيير مجرى الأهداف العربية الوحدوية إلى أهداف شخصية والتي تنسجم مع المصالح الغربية، فلو ألقينا نظرة إلى التاريخ ولكن ليس العربي وإنما الأوروبي والعالمي لوجدنا أن حدود الدول في العالم تتغير باستمرار وليس من باب المؤامرة وإنما من باب المصالح بين الدول والتحالفات، فحدود أوروبا اليوم ملغية بين دولها ولا يشعر من يقطن أوروبا بوجود الحدود فهي على الخرائط فقط.
فالعرب متخوفون من الحدود الجديدة ومستبشرون بضياع الحدود على أساس أن لديهم مشروع وحدوي كالاتحاد الأوروبي، فما لديهم هي مصالح أضيق مما كانت عليه قد تضفي لنوع من اللامركزية لا التقسيم، لأن التقسيم سيفشل فيما لو تم لعدم جاهزية أي دولة لذلك.
لقد حملت سايكس بيكو منطقًا حدوديًا جغرافيًا وسياسيًا في الظاهر، لا تعترف بالمشتركات العربية ووحدة دينهم وعروبتهم وامتداد عشائرهم وتداخلها، وحملت معها منطق حدود المصالح البريطانية والفرنسية إضافة للأمريكية لاحقًا في المنطقة العربية وتحديدًا تركة وإرث الدولة العثمانية الذي أسموه الرجل المريض والنفط، ومع لعن سايكس بيكو كل يوم من قِبل الأنظمة العربية الفاشلة التي قدست تلك الحدود ورعت تلك المصالح الأقتصادية والنفطية وقدست معها الأيديولوجيا والعقيدة العسكرية لدول الاستعمار التقليدي وعلقت فشلها على الحدود وهي تكرسها بممارساتها تجاه بعضها البعض لتتحول شيئًا فشيء إلى دول قطرية لا تنشغل إلا بنفسها.
فعندما قسم المشرق العربي كانت المشتركات لدى الشعوب العربية كبيرة والصلات والعلاقات الاجتماعية والعشائرية والتجارية متداخلة وممتدة بين الدول وما يفصلهم هو الحدود الطبيعية كالجبال والصحراء والبحار، فلم يكن في العقل العربي خطوط وهمية تفصل هذه الدولة عن تلك سوى الحدود الإدارية لمن يدير المناطق الخاضعة تحت سيطرة الدولة العثمانية التي منحت نوع من اللامركزية الإدارية واستوعبت الشعوب المتنوعة وفعلت المشتركات والقيم الإنسانية الجامعة باستثناء حكم آخر حقبة عندما سيطرت حكومة الاتحاد والترقي على الحكم وعارضت سياساتها قيم الدين والمبادئ لتهيء لثورة على الدولة ليستثمرها الغرب مع وعود كاذبة للعرب.
إن الدول العربية التي انبثقت كثير من نظمها لحماية مصالح حدود سايكس بيكو التي رسمتها بريطانيا وفرنسا وبموافقة روسيا وبالمسطرة والقلم، لم ترع فيها الخرائط العشائرية والطبيعة الاجتماعية والجغرافية وإنما رعت توزيع الثروات والأسواق والمناطق الاستراتيجية كطرق نقل النفط ومنابعه وحمته باتفاقيات مصالح دولية ونفطية وبالأمم المتحدة، وأي من يهدد تلك المصالح يعتبر قد هدد السلم والأمن الدوليين وهو في حقيقته يهدد المصالح التي قننت بتلك الاتفاقيات الدولية التي أصبحت تحكم عن طريقها العالم بالسيطرة على مصادرالطاقة والغذاء.
حملت كثير من القوى والشركات المتنافسة ذات المصالح الإقليمية والدولية منطق لا حدودي يلغي الاتفاقيات التي قننت رسم حدود المصالح بالحدود السياسية لدول المشرق العربي؛ فإيران تحمل هذا المنطق العابر للحدود الجغرافية والمصالح الدولية، وداعش تحمل هذا المنطق العابر للحدود، ولأن المصالح الدولية والشركات متعددة الجنسيات وميزان القوى العالمي يتغير ومصالح الشركات العالمية تزاداد تنافسًا فسمح لتلك القوى التخريبية بالعمل، لصناعة اتفاقيات دولية جديدة وفق مصالح جديدة وتوزيع إداري جديد للسلطة من مركزية الدولة يرعاها طرف واحد ونظام بسلطة مركزية واحدة إلى نظام لامركزي بعدة أطراف ترعى تلك المصالح المتنافسة فيما بينها.
في المائة عام الأخيرة، انتظم معظم الشرق الأوسط بما يتوافق مع المنطق السياسي الذي خطه مارك سايكس البريطاني وفرانسوا بيكو الفرنسي، لما كان حينها الأطراف العربية للإمبراطورية العثمانية المنهارة ومن عارض تلك المصالح والمصالح النفطية بشكل خاص عرض نفسه للخطر خاصة للذي حاول العمل خارج حدوده التي رسموها له، وفي أعقاب هذا الاتفاق 1916 رسمت حدود تعسفية ضمت في داخلها مجموعات عرقية وأديان متنافسة في إطار هوية هشة في سوريا والعراق تحديدًا لأنهما قلب الشرق الأوسط وأي تغيير لا بد أن يمر عبرهما لرسم سياسة المنطقة.
إن النظامين العراقي والسوري لم يبنيا دول تمثل الجميع وتشكل هوية وطنية بمشروع وطني يجمع تلك الأطياف والعرقيات، فبدلاً من أن تحل تلك الإشكالات بمشروع سياسي وطني يتعامل مع الناس بمنطق إنساني جامع يدفع باتجاه الشعور بالولاء للدولة، تعاملوا معه أمنيًا وبالصهر والقمع لتلك الهويات والأعراق في هوية وطنية مفترضة ومقتصرة على الولاء لتلك الأنظمة الفاشلة بجميع المستويات إلا في خلق الرعب ليضفي ويصنع الأمن.
فهي لم تحل مشكلة الهويات بمشروع وطني بل بتغييبها وتأجيل حلها والاستفادة من تناقضات المجتمع فيما إذا تعرض النظام الوظيفي للخطر من قبل المجتمع بثورة؛ فسيجري تقسيمه سياسيًا بالفكرة المعروفة “فرق تسد” كما يجري تمامًا اليوم في سوريا والعراق وتهيئة الأجواء لاتفاقيات تقاسم للمصالح جديدة قد يكون الاتفاق الجديد تحت مسمى “كيري – لافروف” وتظهر لنا تفاصيله بعد سنوات من عقده كما حصل مع سايكس – بيكو مع احتمالية انضمام أطراف أخرى في وقت لاحق.
فهناك مصالح ضيقة في المنطقة بعد الشعور بالظلم من قبل تلك الأنظمة؛ مما دفعها إلى التفكير بمصالحها، فقد تكون تلك المصالح مشتركة مع الآخرين فتؤدي إلى الوحدة مرة أخرة بعد تفكك الدول وبشكل أمتن أو تؤدي إلى التقسيم والندم كما حصل مع جنوب السودان الذي فشل انفصاله، فالانفصال يعني إدارة دولة وسياسة خارجية وموارد وتعاقدات اقتصادية واعتراف دولي أي تاريخ متراكم من العلاقات والخبرات في شتى المجالات لكي ينجح التقسيم وهو غير مرجح في الوقت الحالي على الأقل فالدول الكبرى تتفق بأطر الحدود الجغرافية القديمة وباتفاقيات اقتصادية ونفطية جديدة.