أحسب أن الحراك الذي شهدته المنطقة العربية خلال الخمس سنوات الأخيرة وضع كثيرًا من الأفكار والنظريات والأيدولوجيات وأنماط الحياة وأساليب التفاعل وطرق التفكير ومنظومات القيم عند قطاعات كبيرة من الناس على المحك وعرضها لاختبارات قاسية على مستويات عديدة.
في لحظات كثيرة كانت تبدو الفرصة مواتية للانتقال بشكل حقيقي نحو وضع أفضل يقطع مع الحالة السابقة التي طالت الشكوى منها ويحول الأحلام المختلفة التي طال انتظارها عند كثير من الأطياف المجتمعية والسياسية إلى حقائق متجسدة، لكن سرعان ما كان يخيب الأمل.
في بداية الحراك تحققت بعض الإنجازات غير المسبوقة، وهو ما دعى كثير من الناس إلى الاستمرار في استنساخ بعض الأدوات التي نجحت في الوصول إلى بعض النتائج الجيدة، وشيئًا فشيء فقدت تلك الأدوات فعاليتها إلى أن وصل الحال إلى أن من كان المستهدف بذلك الحراك بدأ يستخدم تلك الأدوات بشكل فعال لإفشال النتائج الإيجابية السابقة.
في رأيي، إن الإنجازات التي تحققت في البدايات كانت نتيجة تكون معادلة ناجحة بتركيبة غير مسبوقة من الأفعال المبنية على خيال مختلف وطريقة تفكير مختلفة عن السائد والقديم، وتستبطن تلك الأفعال منظومات قيم مختلفة عن السائد، وبدأت تستخدم أدوات جديدة أو أعادت استخدام أدوات قديمة بطريقة مختلفة.
ببعض المعلومات والتحليل والتأمل يمكن القول أن معادلة النجاح تلك كانت كالتالي:
“عند لحظة ما تكونت فيها رؤية جامعة لقطاع من الناس ثبت لديهم فعالية ونجاح أدوات معينة بسبب تجربة ما، قامت شبكات من المجموعات (الشبابية غالبًا) بالمبادرة + ثم انضمت لها بعض الكيانات المتماسكة لتوفر دعمًا وحماية عند اللزوم فأدى ذلك لاقتناع أعداد كبيرة من الناس العاديين من مختلف الطبقات والأطياف بالمشاركة الواسعة المتعددة الوجوه والمستويات وبشكل لا مركزي تنظمه الرؤية الجامعة”.
هذه المعادلة أوجدت وضعًا غير مسبوق في التجربة العربية وكان من غير الممكن مواجهته بشكل تقليدي ولا بشكل مباشر، وكان لا بد من الرضوخ له في البداية ثم محاولة الالتفاف عليه.
في رأيي، إن السبب الأساسي لعدم استمرار هذه المعادلة الناجحة هو عدم الوعي بها جيدًا من قِبل معظم من قام بها، وسرعان ما ارتد معظم الناس إلى المعادلات والتراكيب والأساليب القديمة، وعادت الشخصيات والكيانات القديمة إلى ساحات الفعل وتصدرت المشهد لتلعب اللعب القديمة ذاتها، وفي نفس الوقت، كانت المفارقة المحزنة، وهي أن أكثر من وعى التركيبة الجديدة للمعادلة الناجحة هم خصومها المتضررون منها والذين قاموا باستيعابها ومن ثم توظيف بعض أدواتها بفعالية ونجاح في حراكهم المضاد الذي استهدف سحب زخم الحراك الشعبي الممتد والعابر لأطياف المجتمع وإعادة حشره في أنبوبة أفعال سياسية محددة يملكون مفاتيح التحكم فيه وتوجيه مساره، وهي وصفة فعالة تمت تجربتها من قبل في المنطقة وحول العالم.
أثناء تكون المعادلة الناجحة، كان الناس يلتقون في الساحات العامة ويتفاعلون، كثير منهم يلتقي الأطياف الأخرى لأول مرة بشكل مباشر وعن قرب، هذه الحالة أدت لنشوء حالة من الثقة في النفس وانخفاض نسبة الخوف من الآخرين وزادت معدلات الثقة فيما بينهم خاصة عندما اكتشف الواحد منهم كم الشبه الموجود أصلاً مع الأطياف الأخرى في مسائل كثيرة وأن هناك الكثير يجمع بينهم.
لم تستمر هذه الحالة طويلاً، ولم تستمر بما يكفي لبناء الثقة ونسج علاقات مجتمعية وتنظيمية جديدة سواء على المستوى الضيق أو الواسع، وعندما تم منع الناس من الوصول إلى الأماكن المعتادة للتجمع بأساليب وحجج مختلفة لم يبذلوا الجهد اللازم لإيجاد وسائل أخرى للالتقاء والتعارف وبناء الثقة ونسج العلاقات، فرجع بعد ذلك الجميع إلى منعزلاتهم وسهل دق الأسافين بينهم وبدأوا ينسون تلك الحالة من الثقة وعاد الخوف المتبادل مسيطرًا من جديد.
عند هذه النقطة، أرى أن هناك عدة أسئلة هامة يجب أن تطرح بعد هذه السردية وهي: لو افترضنا صحة القول بمعادلة النجاح المذكورة، فلماذا وكيف اضطربت هذه المعادلة وتفككت؟ وكيف يمكننا الاستفادة من دروس التجارب المتراكمة؟
هذه التساؤلات تحتاج قبل الإجابة عنها إلى محاولة فهم وتحليل خرائط المشهد المجتمعي ونظم القيم السائدة والآليات التي تتحرك بها، كما وتتطلب فهمًا وتحليلاً وتفكيكًا على المستوى الفلسفي لبعض الأيديولوجيات والمفاهيم الراسخة بعمق، ثم بعدها نحتاج لأن نفهم معادلة النجاح تلك ومتطلباتها وما حملته من قيم مختلفة، ساعتها يمكن أن نفهم سبب اضطراب المعادلة وتفككها، ويمكن أن نفهم بشكل جيد ما نحتاجه للوصول من جديد إلى معادلة ناجحة وأفعال تقود إلى بناء مجتمع قوي يعيش حالة أكثر عدلاً وعافية وحكمة.
بالتأكيد هذه أسئلة كبيرة جدًا وتحتاج إلى معالجة عميقة ومتعددة المستويات، ولست أطمح هنا إلى تقديم “نظرية لكل شيء”، ولن أتمكن من تغطية كل المحاور والجوانب، لذلك فقد اخترت مقاربة الإجابة عن هذه التساؤلات على مستويين هما: نظم القيم وتراكيب العلاقات، وقد وجدت أن لهاتين الأداتين قدرة تفسيرية عالية ولم ينالا حتى الآن الاهتمام اللائق عند الدارسين والناشطين.
المجتمع القوي
يبدو مصطلح “المجتمع القوي” غامضًا ويصعب الاتفاق بين جميع أطياف الناس على مدلوله، لذلك يجب في البداية شرح المقصود منه في هذه السردية.
أفهم فكرة “المجتمع القوي” على أنها حالة يمكن أن توجد عند تجمع بشري استطاع الوصول إلى حالة من النضج تمكنه من التفاهم حول قضاياه الأساسية، وإلى حالة من القدرة على بناء الأدوات التي تمكنه من مراعاة مصالحه، وقدرته باستمرار على مراقبة التفاهم ومراقبة الأدوات وتصحيح مسارهما إن انحرفا وتعويض النقص كلما استلزم الأمر.
إنني لا أفترض وجود شكل واحد يتجلى فيه هذا المفهوم في كل مكان وكل زمان ولكل الناس، بل أراه مفهومًا مفتوحًا ومتحركًا وقابلاً للنمو والتطور.
إن اختيار هذا المصطلح تحديدًا يشير إلى العديد من التحيزات المسبقة على المستوى الفلسفي والاجتماعي والسياسي عند نقاش مفاهيم السلطة والدولة والقوة والنفوذ والنخب والسيطرة والتنظيم والعلاقات الإنسانية بل وحتى التوحيد والإيمان بالله، ويفتح هذا المصطلح النقاش مطولاً حول مفاهيم العدل والحرية ودور الفرد في الحياة وعلاقته بالآخرين ومسائل الملكية والثروة والبيئة وغيرها.
في رأيي، إن هذه التحيزات تعبر عن موقف في الحياة وتعلي قيمًا معينة وليست مجرد آراء مبنية على حسابات مادية نفعية.
ولأننا نعيش في عالم لم يتشكل بالأمس فإننا نواجه تحدي التعامل مع المجتمعات والمفاهيم والأدوات القائمة بالفعل، والتحدي الأول أمام مفهوم المجتمع القوي هو “الدولة”، الأداة الأهم في حاضر المجتمعات المعاصرة لإدارة شؤونها، ونظرًا لارتباط هذه الأداة بمفاهيم السلطة والقوة والهوية فقد تحولت في أذهان كثير من الناس إلى مفهوم قائم بذاته يحوي قداسة معينة، وصارت معظم أمانيهم تتعلق بهذه الأداة ومعظم حراكهم مبني على خيال لا يتصور مجالاً للفعل إلا بالدولة.
إذن فصفة “القوي” المضافة إلى “المجتمع” يقصد بها القوة بإزاء الدولة، أي القدرة على إيجاد التفاهمات اللازمة بين الأطياف المختلفة التي تمثلها تلك الدولة بالإضافة إلى القدرة على مراقبة الدولة وتصحيح مسارها وتعويض النقص في المساحات التي لا تستطيع – أو التي لا يجب – أن تتواجد فيها الدولة.
أود الإشارة هنا إلى أن مفهوم المجتمع القوي لا يعني تفكيك الدولة أو إضعافها إلى حد الفشل، فلسنا بالضرورة أمام ثنائيات مغلقة، وأشير أيضًا أنني هنا لست بصدد الحديث عن “الأناركية” أو “اللاسلطوية” المطلقة أو قدرة المجتمع على إدارة شؤونه الداخلية والخارجية بدون الحاجة إلى أداة الدولة تمامًا، فلذلك حديث آخر.
إن الحديث عن فكرة المجتمع القوي هو حديث عن الممكنات، عن شيء تزداد باستمرار إمكانية تحقيقه بتواجد وتطور الأدوات المعينة للناس على المعرفة والتواصل والفعل، فما كان في الماضي محصورًا على النخب لم يعد كذلك، النخب التي كانت تحتكر امتلاك المال والمعلومات والتنقل والقدرة على الإقناع وأدوات السيطرة الصلبة والدعم الخارجي فتؤثر في وعي الناس ومخيلتهم بأنها تمتلك سلطة عليهم لم تعد وحدها تمتلك تلك القدرات.
لن تختفي فكرة النخب في المجتمع القوي، لكن القيادة في هذا المجتمع لن تعود حكرًا على طائفة مغلقة، فهناك من الأدوات ما يمكن جميع من يمتلك الكفاءة من لعب هذا الدور عند الحاجة، كما أنه لن يتوقف التدافع الذي قد يصل حد الصراع في هذا المجتمع، لكن هناك من الوعي والأدوات ما يمنع استبداد طرف أو قلة أو حتى كثرة بكل شيء.
المجتمع؟!
يبدو أيضًا مصطلح “المجتمع” بحد ذاته قادرًا على إثارة الكثير من الجدل حول دلالته، لذلك، فإنني في هذه السردية أستخدمه للدلالة على كل مجموعة من البشر تعرف نفسها بهوية معينة وبينها علاقات من نوع ما تحمل قدرًا من الثقة والالتزام أو الإلزام.
بالعودة إلى سؤال اضطراب معادلة النجاح الذي ذكرناه سابقًا والحاجة إلى رسم خريطة المشهد المجتمعي كمتطلب سابق للإجابة، نجد أنفسنا نواجه التحدي الكبير: كيف ننظر إلى مجتمعاتنا؟ بناء على ماذا؟ ما هي المعايير التي نحتاجها لرسم خريطة للمجتمع ويؤدي استخدامها إلى قدرة على التفسير ويساعد على فعل إيجابي؟
نناقش ذلك في المقال القادم.
هذه المقالات ضمن سلسلة مقالات بعنوان “عن وعي مختلف لبناء مجتمع قوي “